أسبوع في إسطنبول

استمتع بأجواء القصور العثمانية.. ودع الجمال يغمرك من كل اتجاه

حركة دائمة في اسطنبول
TT

«حتى الشتاء في إسطنبول له جماله الخاص».. تذكرت هذه العبارة لواحدة من صديقاتي المولعات بتركيا، وأنا أخطو خطواتي الأولى في المدينة التي تطل على مضيق البسفور.. فالشتاء بدأ يتسلل بخفة، وعلى استحياء تتساقط زخات المطر، بينما اكتست السماء بهالة ملونة من السحب وومضات الضوء الناعمة.. ورغم أن موسم السياحة في إسطنبول على وشك أن يلم دفاتره فإن الأمطار والبرد لا يعوقان الاستمتاع بجمال المدينة.

بمجرد خروجك من المطار تشعر بدفء الاستقبال يمحو الشعور بالبرد وتستمتع بمشاهدة شوارع إسطنبول، التي بدأت أعداد السائحين فيها تقل، ولن تستطيع إلا أن تترجل عن حافلتك وتتمشى على ساحل البوسفور وتستنشق نسيمه الذي يتخلله لسعة برد خفيفة لا تزعجك. وستشعر بالدفء أكثر حين تلتهم قطعة من باعة السميط الطازج المتجولين بعرباتهم الزجاجية ذات اللون الأحمر الشهير، أو ترتشف كوبا من الشاي التركي المعبق بروائح ذكية من البائعين وهم يتجولون بصواني الشاي ذات العواميد الثلاثة يلفونها بسرعة بشكل دائري، فيمتزج نسيم الصباح على ساحل البوسفور برائحة الشاي التركي المختمر ورائحة السميط الساخن. وترى أمامك الزوارق واليخوت وقد اصطفت على طول الساحل، وخلفك حدائق شاسعة غناء تمتد بطول الساحل، وتسمع أصوات أطفال يمارسون في ألعابهم الطفولية الغضة، بينما آخرون يعلمهم آباؤهم ركوب الدراجات في الممشى المخصص للرياضة والدرجات، وهو موازٍ للممشى الرئيسي للساحل، لكنه يشق الحدائق وتصطف الأشجار بشكل خفيف على الجانبين، يزيد من روعة المشهد منظر المرتفعات في الجهة المقابلة من الشارع، والبيوت المنتشرة بانتظام وبشكل عفوي.

وتنسى الوقت مع مشاهدة الحياة اليومية على شاطئ البوسفور وكأنها فيلم سينمائي تشاهده من الداخل، ففي الحدائق أطفال يمرحون وناس يمارسون الرياضة، وعلى الشاطئ آخرون يصطادون السمك. لكن وسط كل هذا الزخم سيستوقفك مشهد مئذنة عثمانية خلفها برج به ساعة على الطراز الأوروبي، ويجمع المنظر الذي عد إحدى تحف إسطنبول، بين تراث الدولة العثمانية وتأثرها بالحضارة الأوروبية.

وعلى ساحل البوسفور سيخطفك بريق قصر «دولما باهتشه»، أحد أجمل قصور إسطنبول التي تزين ساحل البوسفور في الجزء الأوروبي.. ينقضي نهارك بأكمله في نزهة داخل القصر الذي لا تستطيع أن تنسى تفاصيله وحدائقه الساحرة ومنظر البوسفور والزوارق والمراكب تعبر من أمامه، وكذلك بهوه الرئيسي الذي يعلق فيه أكبر ثريا من الكريستال في العالم.

و«دولمه باهتشه»، أول قصر يبنى في تركيا على الطراز الأوروبي بدلا من قصر توب كابه (الباب العالي)، الذي لم يكن يتمتع بوسائل الحياة الحديثة، ويروى أن المنطقة التي شيد عليها القصر هي نفس المكان الذي أنزل عليه السلطان محمد الفاتح سفنه على اليابسة للتوصل إلى «القرن الذهبي» أثناء فتح إسطنبول في القرن الخامس عشر.

وتم ردم المكان في القرن السابع عشر بعد أن كان مخصصا من قبل «قبطان دريا» قائد القوات البحرية للاحتفال بالحفلات البحرية، وتحول المكان إلى حديقة خاصة بالسلاطين وأطلق عليه اسمه «دولما باهتشه»، ويعني بالتركية «الحديقة المردومة».

وأمر السلطان عبد المجيد الثاني ببناء القصر في عام 1843، وفيه عاش مصطفى كمال أتاتورك المؤسس الأول للجمهورية التركية آخر سنوات حياته، وفي عام 1938 فتحت «صالة المعيدات» في القصر لمدة ثلاثة أيام ليلقي الشعب التركي النظرة الأخيرة على أتاتورك بعد وفاته. وظل «دولما باهتشه» المركز الإداري الرئيسي للبلاد حتى عام، 1887، استخدم خلالها أيضا قصر يلدز (قصر النجم) حتى عام 1909.

وإذا فرغت من «دولمه باهتشه» وأكملت طريقك في ضاحية بيشكتاش فستقع في حيرة من أمرك بين المطاعم والمقاهي المتنوعة إلى جانب أكشاك بيع شطائر الشاورمة والأسماك، ولكن يفضل الذهاب إلى أحد المطاعم التي تقدم مأكولات المطبخ التركي، وحبذا إذا كان واحدا من تلك المطاعم التي تقع على المرتفعات فتتمكن من رؤية مشهد البوسفور وأنوار المركبات تنعكس على مياهه، وكذلك كوبري البوسفور المعلق والأنوار الملونة، وهي تنعكس على أسواره فتضيء ليل إسطنبول الساحر.

وسط هذه الأجواء المفعمة بالجمال، قد تدفعك برودة الجو إلى أن تستمتع بقصور إسطنبول، حتى وإن لم تكن من هواة السياحة الثقافية، فالسياحة داخل قصور إسطنبول لها متعة لا يمكن أن تشعر المرء بالضجر، كما أن مناظر القصور من الخارج تشعرك بفضول لتشاهدها من الداخل. يعزز ذلك أن معظم القصور القديمة في إسطنبول تم استغلالها لتصبح مطاعم وفنادق سياحية واستخدمت حدائقها كحدائق عامة بها مطاعم تابعة لبلدية إسطنبول وأخرى خاصة.

كما الحال بالنسبة لقصر «كشك مالطة» الذي كان في السابق واحدا من الاستراحات الموجودة بحدائق قصر «يلديز» الشاسعة، وهو مبنى على الطراز الأوروبي تم ترميمه في الثمانينات، والقصر يقع في الجزء الأوروبي من إسطنبول على ارتفاع شاهق، وإذا كنت تجلس في شرفة القصر الواسعة أو تتجول في الغابة فسترى مشهدا لا ينسى لمضيق البوسفور.

وتحول هذا القصر إلى مطعم كبير تابع لبلدية إسطنبول، والقاعة الرئيسية له تقام بها الحفلات، وهي مشهورة بتصوير الأفلام الرومانسية بداخلها. وداخل غابات القصر توجد مقاهٍ مغلقة بالزجاج وأخرى تطل على بحيرات، وتحب العرائس أن تلتقط لهن الصور داخل الغابات وبجانب القصر.

ويعد قصر الخديو عباس حلمي بالجزء الآسيوي من إسطنبول من أشهر قصور إسطنبول التي تحولت إلى مزار عام، وتمتد حدائق القصر على مساحات شاسعة مزروعة أكملها بالورود والأشجار، وتعتبر حديقة القصر هي أكبر حديقة ورود بإسطنبول، وقد شيده الخديو ليكون منتجعا صيفيا، لكنه دخله كآخر خديو لمصر والسودان بعد أن عزله الاحتلال الإنجليزي من حكم مصر. ورغم أصول الخديو تركية فإن هناك أقاويل تتناقل على ألسنة الناس في تركيا عن القصر وصاحبه بأن الخديو كان يعتبر القصر منفى له وأنه كان يقضي وقته في الصلاة. والقصر يقع على ربوة عالية تطل على مضيق البوسفور، واشترته الحكومة التركية في عام 1937 بناء على رغبة كمال أتاتورك وتحول إلى أحد المطاعم الفاخرة.

ولشهرة القصر الواسعة في إسطنبول يحيطه بعض الغموض تزداد أقاويل الناس حوله، فيقول الناس إن إحدى زوجات الخديو عادت إلى مصر بعد مدة من نفيهما، وشيدت قصرا طبق الأصل من قصر الخديو بإسطنبول على ضفاف النيل بمصر. ويمكن أن تصدق تلك الأقوال، فإذا تجولت داخل أروقة القصر ستجده يتشابه إلى حد كبير مع قصور العائلة الملكية في مصر، وعلى الرغم من فخامته فإن به بساطة لا تجدها في القصور الإسطنبولية الأخرى التي تزيد فيها الفخامة والأبهة بشكل مبالغ فيه، إلى جانب أن حدائق القصر تذكرك بحدائق قصر المنتزه بالإسكندرية.

وتحولت صالونات القصر في الدور السفلي إلى مطاعم فاخرة تقدم أشهى مأكولات المطبخ التركي والعالمي، وكل ليلة تعزف إحدى فرق الموسيقى التركية الشعبية أغاني من التراث التركي، كما تحول الجزء العلوي من القصر إلى فندق 5 نجوم لفترة من الوقت، ولكنه أصبح مزارا في الوقت الحالي.

ولا يعتبر السائح أنه زار إسطنبول إلا إذا عرج على حي «باي أوغلو»، حيث يوجد به شارع استقلال، أشهر شوارع تركيا، ولا يمكن للمرء أن يكف عن الكلام عن تجربته داخل شارع استقلال، فأيا كانت غايتك فستجد ضالتك في شارع استقلال. رغم أنه من المتعارف عليه أن الشارع ملجأ عشاق التسوق لكثرة محلات الملابس الشهيرة ذات الماركات العالمية، فإن متعة التسوق تعتبر واحدة من متع كثيرة يمكن أن يستمتع المرء بها داخل شارع استقلال، فإلى جانب المقاهي والمطاعم الشرقية والغربية توجد المكتبات ودور السينما والمسارح والملاهي الليلية، ومترو شارع استقلال الأحمر الشهير والكنيسة الأرمينية.

وبعد عدة جولات في المناطق السياحية بإسطنبول يفقد العربي داخل حي أيوب التاريخي بالجزء الأوروبي من إسطنبول إحساسه بالغربة، ويتبدد الشعور بأنه سائح وينسجم مع عادات الأتراك وطباعهم التي لا تختلف كثيرا عن العرب، ويستمتع بأجواء الحي الشرقي، ويتكيف مع الناس على الرغم من عدم معرفة أغلبهم بأي لغة أجنبية. وفي الشوارع الداخلية من الساحة تجد بعض المطاعم السياحية التي تقدم الكباب التركي الشهير والدنور (الشاورمة) إلى جانب المقبلات التركية المعروفة، ولكن تشتهر مطاعم المنطقة بمقبلات جبن الماعز وأطباق الجبن الساخن وسلطة الطماطم بالفلفل الحارة مع الخبز التركي الشعبي الذي يفضل الأتراك في الوقت الحالي تناوله طوال شهر رمضان.

وفي المقاهي المنتشرة بساحة الحي يمكنك الاستمتاع بتناول الحلويات التركية الشهيرة، من الكنافة بالجبن والبقلاوة والمهلبية والأرز باللبن وغيرها. ويعتز الأتراك بهذا الحي لما له من قيمة تاريخية ودينية، حيث يوجد عدد من الجوامع الأثرية المهمة، منها جامع أيوب، وجامع السلطان أحمد، وجامع محمد الفاتح، وجامع السليمانية، وهو أول جامع يشيده الأتراك بعد فتح القسطنطينية في عام 1458 بالقرب من القرن الذهبي، وتسمع هنا من الأتراك أن الجامع شيد بالقرب من قبر الصحابي أيوب الأنصاري الذي توفي بالقرب من أسوار القسطنطينية في عام 670 ميلاديا عند محاولة المسلمين فتح القسطنطينية.

كل هذا الجمال في إسطنبول، ناهيك بالتنزه في البحر، أو تناول الطعام على ظهر أحد المراكب، أو في المطاعم المتاخمة للشاطئ.. حينئذ سيتضاعف إيقاع متعك، وسيغمرك الجمال من كل اتجاه.