مدينة السفن التي نشرت أشرعتها في كل العالم

مرسيليا باب فرنسا على البحر المتوسط

TT

قبل عدة سنوات في بيروت، قررت أنا وصديق لي، عمل جرد مصور للبيوت القديمة التي لا يزال في بيروت البعض منها. يومها، كان الاقتراح دراسة التعددية الثقافية لبيروت من خلال أنماط الهندسة المعمارية التي لا تزال بادية على شرفات المنازل البيروتية التي بنيت ما بين عامي 1850 و1930، ولمن لا يعرف، فإن هذه البيوت التي لا يزال بعضها قائما في أحياء الأشرفية ورأس النبع والجميزة والمصيطبة وشارع مار إلياس وحي البطركية والصنائع والقنطاري وبعض مناطق رأس بيروت، تحمل من خلال نوافذها أنماطا هندسية تدل على الحضارات التي تأثرت بها بيروت، من خلال المهندسين الذين شيدوها، وغالبيتهم أتراك وإيطاليون ويونانيون وفرنسيون، مما يعكس النمط الكوسموبيليتي الذي كانت عليه المدينة في تلك الفترة، والواقع الذي آلت إليه. حيث لم يعد يُرى من كوسموبيليتها سوى مظهر واحد يوجد في محيط الجامعة الأميركية في منطقة رأس بيروت.

قادنا البحث في ذلك الوقت إلى منطقة المرفأ ومحيطها، مثل مناطق الجعيتاوي والحكمة ومار نقولا، التي كانت تكثر فيها الفنادق الصغيرة والبانسيونات. وفي مرحلة من مراحل تاريخ لبنان بعد أول حرب أهلية عصفت به عام 1840 تكاثر طلاب الهجرة من أبنائه إلى العالم. فكان الفلاحون اللبنانيون ينزلون من قراهم العالية في الجبل وفي شمال لبنان ويأتون من الجنوب، ليقيموا لفترت قصيرة في هذه الفنادق والانتظار ليتسنى لهم الصعود إلى المراكب التي كانت تنقلهم إلى العالم، بعيدا من وطنهم الأم، فلا يعود منهم سوى رسائلهم ليتحولوا بعد ذلك إلى ذكرى جميلة. تعبر عن القسوة التي هي في أحيان شريرة، والتي تتمتع بها الأوطان ومنها لبنان.

اللافت في كل هذا أن المهاجرين اللبنانيين الذين كانوا يخرجون من مرفأ بيروت، وأمثالهم من الفلسطينيين الذين كانوا يغادرون من ميناء حيفا، كانوا جميعا، يلتقون في ميناء مرسيليا ليتم فرزهم لاحقا على البلدان التي يمكن أن يحققوا فيها الاندماج الفعلي. فكان الكاثوليك والأورثوذوكس من لبنانيين وفلسطينيين يرحلون على متن القوارب التي تتجه إلى الأميركيتين، وخصوصا إلى أميركا اللاتينية، في حين كان المسلمون الشيعة يرحلون إلى البلدان الأفريقية الوثنية بحجة أنهم غير مسيحيين وبالتالي لا دين معروفا لهم.

حين زرت مرسيليا، قبل وقت قليل، تذكرت ما كنت قد توصلت إليه مع صديقي، هذه المدينة الكبيرة، التي كانت تمثل عظمة فرنسا الكولنيالية في فترة سابقة، وهي تمثل اليوم عصب التجارة الفرنسية وأهم ميناء فرنسي والمدينة التي اختيرت لتكون في عام 2013 عاصمة أوروبا الثقافية، مما يعطيها أو يعيد إليها الزخم الثقافي والحضاري الذي كانت عليه المدينة في عصور مضت. وهي تتحضر هذه الأيام لوضع البرنامج الثقافي الذي سيستمر لمدة عام كامل، حيث ستحكي المدينة من خلاله تاريخها وثقافتها، حاضرها وماضيها، مركزها التجاري والمالي وموقعها على خارطة التجارة الأوروبية والفرنسية، أهميتها بالنسبة لفرنسا وموقعها في قلب الثقافة الفرنسية، وإلى جانب كل هذا، فإن مرسيليا، المدينة التي تعد اليوم ثالث مدينة فرنسية لعدد السكان، والثانية من حيث المساحة بعد باريس، والميناء الأهم، ستخرج وخلا العام الثقافي غالبية كنوز متاحفها وتاريخها كله، ليكون مفتوحا أمام زوارها كافة.

تبدأ زيارة المدينة من محطة سان شارل، التي تصل المدينة بالداخل الفرنسي. القطارات تقف هناك، ومن على درج المحطة التي بنيت في عام 1848 على تلة تطل على بعض الأبنية القديمة والبحر. الدرج الذي اعتبرته منظمة اليونيسكو من الإرث الثقافي العالمي، تنزل درجاته الزائر إلى ما يشبه الكنز، هواء البحر الذي يلفح الوجوه، الفوضى التي تمثلها حركة المسافرين من كافة الألوان والأجناس، الطرقات الفرعية المتسخة كأنما هي علامة مميزة للمدن القديمة، الباعة المتجولون ببضاعتهم وأولئك الذين يبيعون، لليوم، البضائع وهم يدورون بها على ظهورهم، البضائع المزورة أو المهربة، تلك التي يأتي بها البحر والقوارب. كل هذا يمنح المدينة جوا من المهابة والإثارة، إلى المقاهي التي تنتشر كما لو أنها فطر أسفل المباني المبنية بحسب الطراز العثماني منذ منتصف القرن التاسع عشر.

منطقة الميناء القديم وشارع رصيف الميناء، هما المنطقة الأكثر جذبا للسياح في المدينة، الميناء القديم في مرسيليا، الذي أصبح منذ منتصف القرن التاسع عشر، خاصا فقط بالقوارب الصغيرة وبعض اليخوت الصغيرة أيضا، هو ما يعطي المدينة الكثير من الجاذبية، مشهد الصواري المرتفعة فيه، يعد من أجمل المناظر في مرسيليا، أما على رصيف الميناء أو ما يعرف بطريق الميناء الذي يزنره من ثلاثة جوانب، فتمتد الكثير من المطاعم والمقاهي والمحال المختصة بأدوات الصيادين وكل ما يختص بالبحر. والحق أن شاطئ مرسيليا يغص بالمطاعم التي تقدم الأسماك، والمدينة التي يمتلئ خطها الساحلي بالموانئ الصغيرة الخاصة بصيادي الأسماك، لا تكاد تتسع لغير ذلك.

بعد النزول من درج المحطة، يمكن بسهولة التجول في الشوارع الخمسة التي توصل جميعها إلى الميناء القديم، فسواء كان الدخول من شارع فوش القديم أو فيليبون أو لونشان شارترو أو شارع ليبيراسيون (التحرير) وهي أكبر الشوارع في المدينة، لا تكون النهاية سوى وجه لوجه مع البحر (المعلم الأساسي في المدينة). وهذه مسافة يمكن قطعها على الأقدام أو في المترو مع الأفضلية بالطبع للمشي لاكتشاف المزيد من سحر المدينة وأبنيتها وأسواقها ومتاحفها ودور السينما، وكذلك دار الأوبرا ومبنى البورصة الشهيران.

لكن وبالأخص، فإن النزهة في شارع ليبيراسيون تقود إلى ساحة سيباستيبول التي يقع فيها أحد أشهر الأماكن في العالم لصناعة الكريم شانتييه (مملكة الكريم شانتييه)، التي أسسها في عام 1917 جوزيف جانتيوم، ولم تقفل أبوابها على الرغم من الحروب التي مرت، لا تزال تدار من أحفاد هذا الرجل، وكما في معظم المدن القديمة، حيث يوجد أماكن خاصة وحميمية تخبر تاريخ المدينة وحكاياتها وتعبر عن أصالتها، تعتبر هذه المملكة الصغيرة من الكريم شانتييه، من أبرز معالم المدينة، وكذلك من أفضل الأماكن على مستوى العالم التي تقدم هذا النوع من الحلويات. منه بسهولة يمكن الذهاب إلى قصر وبارك لونشامب الذي من على التلة التي يقع عليها يطل على أروع مشاهد المدينة سحرا خاصة عند الغروب. هذا القصر وكذلك الحديقة التي تتقدمه وتحيط به، له قيمة تاريخية وثقافية مهمة في المدينة. فقد عانت مرسيليا خلال القرن التاسع عشر من نقص حاد في المياه، وحتى اليوم فالقانون الذي وضع لإيصال المياه للمدينة يعتبر من القوانين النادرة في العالم. في العام 1838 وضع هذا القانون وفي العام الذي تلاه مباشرة بدأ العمل على شق القناة الرئيسية في المدينة التي تمتد علي مسافة عشرين كيلومترا داخلها. بعد شق القناة المسماة اليوم تاياد تم بناء هذا القصر، وكذلك الحديقة التي يتوسطها شلال ونافورة ضخمة للاحتفال بوصول المياه إلى مرسيليا، وتم ذلك في العام وتم ذلك في عام 1850 بعد أن طلبت بلدية المدينة من المهندس المعماري باسكال كوست تشييد متحف للحياة الطبيعية وقصرا للمياه. ومنذ عام 1999 اعتبرت منظمة اليونيسكو هذا المعلم من الإرث الثقافي العالمي الذي لا يجب التصرف به أو تغييره تحت أي ظرف.

أما المناطق الأخرى التي تجب زيارتها في مرسيليا، فهي بازيليك سيدة البحار أو بازيليك «الأم الطيبة» كما يطلق عليها محليا، وهي أكبر مبنى تاريخي في مرسيليا ترتفع عن مستوى الميناء القديم 149 مترا ويبلغ ارتفاع جدارها الأساسي 13 مترا تم بناؤها في عام 1864 على المهندس المعماري هنري إسبيرانديو على آثار كنيسة رومانية بنيت في عام 1214 ورممت في القرن الخامس عشر ثم أعيد ترميمها في القرن السادس عشر بأمر من الملك فرانسوا الأول، والبازيليك اليوم تكاد تكون أكبر أثر في المدينة منذ العصر الرماني، وقد تمت المحافظة، على الرغم من البناء الضخم الذي أقامه إسبيرانديو، على الكنيسة الصغيرة في الداخل وهي من أهم معالم فرنسا كذلك. أما الجانب السياحي الممتع فيها، فهو الجلوس أمامها عند المغيب لرؤية مغيب الشمس ومراقبة السفن التي تدخل وتخرج من وإلى المدينة وكذلك تصوير الجزر الصغيرة المقابلة لمرسيليا.

والحال أن حي البانيير الذي تقع فيه كذلك الكاتدرائية الكبيرة، من أكثر الأحياء جمالا وهيبة في المدينة. فهو يقع بين الميناء القديم ويصل إلى الميناء الجديد، فيه إلى جانب الكاتدرائية قصر الفنون وقصر فارو وقصر البورصة ومحطة سان شارل وكذلك مبنى البلدية المهيب وكل هذه الأبنية تم تشييدها في أواسط القرن التاسع عشر، حين انتعشت المدينة اقتصاديا.

على بعد مسافة قليلة من قلب مرسيليا النابض بالحياة والحيوية، تعد منطقة استاك الواقعة في الدائرة السادسة عشرة في مرسيليا من أكثر المناطق الراقية في المدينة. كانت بين الأعوام 1870 - 1914 قرية صغيرة يسكنها عدد ضئيل من الصيادين وبعض العمال الذين كانوا يعملون في معامل الرخام والبلاط التي كانت كثيرة هناك. تتميز المنطقة بمناظرها الخلابة، وقد خلدت من خلال لوحات بول سيزان وجورج براك وأوغست رينوار الذي قال إن المناظر في استاك «الأكثر جمالا في العالم»، وقد ترك عدة لوحات تمجد هذه المنطقة التي تحولت بعد عام 1940 إلى وجهة طبيعية لأغنياء المدينة وفرنسا، على الرغم من أن بعض الأثرياء كانوا قد بنوا قصورهم وفيللاتهم في المنطقة، منذ بدايات القرن العشرين. وتعتبر «فيللا فلسطين»، التي بناها بيار لوكليرك، الذي كان شغوفا بالشرق وبفلسطين فبنى الفيللا بالحجارة الجصية التي تمثل الأبنية الفلسطينية القديمة التي كانت حجارتها تنحت من جبال الكرمل. وهي لا تزال لغاية اليوم مع نفس العائلة التي ترفض بيعها، في عام 1991 فتحت الفيللا أمام الزوار لمرة وحيدة، إذ بعد العدد الكبير من الزوار الذين أموها لرؤيتها من الداخل والتجول في حدائقها، تم إقفالها من قبل العائلة، وذلك خوفا من تخريبها من قبل الزوار. اليوم لا يمكن للزوار سوى رؤية الفيللا من الخارج، ولأنها عالية على الطريق فلا يمكن سوى رؤية واجهتها، الجميلة المبنية وفق الهندسة النيو - مورسيك وهو نمط من الهندسة المعمارية يمكن العثور عليه في مدينة كازابلانكا، خصوصا في حي مير السلطان الذي بني وفق نفس النمط.

أما المنطقة التي تكثر فيها البيوت الراقية، فهي مقصد لسكان مرسيليا الذين يحبون السباحة على الرمل، حيث يعتبر شاطئها من أجمل الشواطئ الرملية في المنطقة. كما أنها في بعض الأماكن تحوي صخورا غاية في الجمال والجاذبية.

أما أكثر الأشياء متعة في المدينة، وكما في كل مدينة، فهو تذوق أطباقها التقليدية. في فرنسا، يكاد يكون لكل قرية وصفتها الخاصة من الأطباق، لكن مرسيليا، دونا عن غيرها، لها مطبخها البحري الخاص، وأطباقها المعروفة التي لا يمكن اللعب في طريقة تحضيرها الكلاسيكية. فطبق البويابيس المؤلف من مجموعة أسماء متوسطية مسلوقة بالمياه مع بعض المقادير الأخرى يعتبر طبق المدينة الأول إلى جانب شوربة السمك بحسب طريقة المرسيليين الذي يعد من أشهى أنواع الشوربات الفرنسية على الإطلاق. وفي هذا لا يمكن لزائر مرسيليا عدم زيارة أحد أهم مطاعم الأسماك في المدينة، ويقع على رصيف ميناء فالون الصغير في الدائرة السابعة. أما عشاق المأكولات البحرية الفاخرة، فلا بد لهم من زيارة بوتيت نيس – باسيدا، الذي يديره الشيف جيرالد باسيدا الذي يحمل ثلاثة نجوم من دليل ميشلان. وهو يعتبر أفخر مطعم في المدينة على الإطلاق. لكن غالبية مطاعم المدينة تمتاز بالنظافة والأطباق الشهية.

ستمثل مرسيليا، بلا شك، في عام 2013 الثقافة الفرنسية، إلى جانب ثقافتها الخاصة والمميزة، كما أن المدينة، التي تحتل كل هذا التاريخ، وتعتبر وما زالت بوابة فرنسا على أفريقيا، ودول حوض المتوسط وعلى الشرق عموما، تمتاز بالخليط الجميل من الجنسيات التي تسكنها بين عرب وإيطاليين وإسبانيين وأفارقة من مختلف الدول، مما يعطيها بعدا حضاريا وثقافيا مميزا. وهي إن كانت قد ارتبطت بهجرة اللبنانيين والفلسطينيين في القرن التاسع عشر، فإنها اليوم تستقبل الجميع ولا ترفض أحدا أو تعيده إلى القارب ليواصل رحلة البحث عن الأماكن الأكثر دفئا وأمانا.