جامع السلطان قابوس الأكبر يزيد مسقط رونقا وجمالا

تحفة معمارية ومركز للتفاعل مع روح الإسلام دينا وعلما

جامع السلطان قابوس الأكبر بإطلالته الجميلة في مسقط
TT

يعد جامع السلطان قابوس الأكبر شاهدا على اهتمام السلطان قابوس بن سعيد ببناء بيوت الله، كما يعد مركزا مهما للدراسات الإسلامية، ومنبعا لتعلم العلوم الإسلامية، ومركزا لتخريج الدعاة والمفكرين والناشرين لدين الحق، ومنبرا للتواصل الإنساني والحضاري القائم على سماحة الإسلام وروحانيته الداعية للخير والمحبة والسلام. ويقف جامع السلطان قابوس الأكبر شاهدا حيا، يحكي قصة العمانيين ودورهم الرائد في الحضارة الإسلامية، التي تنعكس في الكثير من المظاهر العمرانية التي استقت روحها من دين الإسلام، الذي اهتم بالعلم والفنون والإبداع الإنساني.

وجامع السلطان قابوس الأكبر، الذي جاء تشييده بأوامر من السلطان قابوس بن سعيد على نفقته الخاصة وبإشراف شخصي، يعتبر الأكبر بين المساجد في السلطنة. استنبطت تصاميمه من الحضارات الأكثر حضورا وتأثيرا وفعالية في بلاد الشرق، فظهر ذلك جليا في دقة تلك التصاميم وروعتها المتناهية وقدرتها العجيبة على استلهام روح الجمال والإبداع. وعند التجول في أروقة المسجد، يبدو أن الزمن انتقل بنا إلى الوراء.. والانطباع الأهم هو تلك القدرة على دمج العديد من الفنون الإسلامية كالفن الهندي والبيزنطي والعثماني بعضها مع بعض في الزخارف والنقوش الغنية التي حفرت على الجدران. وجامع السلطان قابوس أول ما يستوقف الزائر عند الوصول إلى العاصمة العمانية، وقد زارته «الشرق الأوسط» مؤخرا مع مجموعة من الصحافيين العرب والأجانب الذين ذهبوا لتغطية انتخابات مجلس الشورى، بناء على نصيحة شخصية من المهندس حامد الغزالي مدير المنشآت السلطانية، الذي استضاف «الشرق الأوسط» في زيارة لدار الأوبرا - تحفة العمارة والهندسة العمانية. وقال الغزالي لـ«الشرق الأوسط»: «إن مسجد السلطان قابوس تحفة فنية معمارية، وقمة الفنون الإسلامية ستجدها في زخارف وأروقة الجامع. والزيارة لا تكتمل إلى مسقط من دون زيارة المسجد الجامع الذي يحمل اسم السلطان قابوس»، مضيفا: «فزيارة مسقط من دون التوقف عند هذا الصرح الحضاري تظل ناقصة بكل تأكيد. لقد استغرق بناء جامع السلطان قابوس الأكبر نحو ست سنوات، ليفتتح عام 2001». ويقع جامع السلطان قابوس على الطريق السريع المؤدي إلى مسقط بقبته الذهبية ومآذنه الخمس وجنائنه الواسعة، إنه أضخم وأكبر الجوامع المشيدة في عمان، الذي بات اليوم أحد المواقع السياحية الرئيسية في البلاد، ويستقطب سياحا يصل عددهم إلى نحو ألفي زائر يوميا. ومسجد السلطان قابوس لا يعتبر أكبر جامع في السلطنة ومركز دين وصلاة فحسب، بل تم تصميمه ليكون مركزا للتفاعل مع روح الإسلام دينا وعلما، حيث يضم مكتبة تحتوي على نحو 20 ألف مجلد في شتى مناحي العلوم والفكر والأدب وليس فقط الكتب الدينية، بالإضافة إلى قاعة للمحاضرات ومركز المعلومات الإسلامية ومعهد العلوم الإسلامية. وفكرة إقامة جامع السلطان قابوس الأكبر جاءت لكي يستوعب الجامع أكبر عدد من المصلين ويكون معلما دينيا وحضاريا وثقافيا واجتماعيا، حيث صدرت الأوامر بإنشاء أكبر جامع في السلطنة في عام 1992 لتبدأ مرحلة التصميم، وكان الهدف يتمثل ليس فقط في توفير مكان للصلاة والتعبد، بل ليكون مركزا للتفاعل مع روح الإسلام دينا وعلما وحضارة».

الشكل المعماري للجامع مبني على وجود خمس مآذن ترمز إلى أركان الإسلام الخمسة، حيث تبرز المئذنة الرئيسية وترمز إلى الركن الأول من أركان الإسلام، وقبة المصلى بارتفاع كل منهما كعنصرين أساسيين ضمن بيئة الجامع، وتتخلل الجدران البيضاء المهيبة مجموعة من الأقواس والكوات المفتوحة مع دعامات تستهل واجهة المصلى الرئيسي.

هذه الدعامات لها وظيفة إنشائية، فضلا عن أنها ملاقف للهواء على غرار عناصر الأبراج المناخية التقليدية والسائدة في العمارة المحلية، كما أن للقبة غشاء مخرما متشابكا منمقة خطوطه بشعرية ذهبية، وتتجلي من خلال شفافية هيكل القبة الخارجية القبة الثانية المكسوة بقشرة من أحجار الفسيفساء الذهبية بأكملها.

إن جدران المصلى الرئيسي تتوج بشرفات يتأصل طرازها في عمارة القلاع العمانية خاصة، ومسننات الشرفات في العمارة الإسلامية عموما، بينما يتميز جدار القبلة بكوة المحراب البارزة في نتوئها عند الواجهة كما هو التقليد في وضوح التعبير عن حائط القبلة في تصميم المساجد العمانية، مما يضفي البعد الثلاثي لفضاء المحراب على حركة الواجهة، ويعتلي المحراب من الخارج نصف قبة مماثلة في تكوينها لتشكيل القبة المركزية. هناك روعة في زخرفة الأروقة (الشمالي والجنوبي)، تم تقسيمها إلى ردهات تحتوي كل ردهة على زخرفة من الزخارف التي تنتمي إلى حضارات إسلامية، منها الزخرفة العمانية، والعثمانية، والمملوكية، والمغربية، وزخرفة بلاد الحجاز، وزخرفة الفن الإسلامي المغولي، وزخرفة آسيا الوسطى، والزخرفة الإسلامية المعاصرة، التي تضفي على المكان جماله وبهاءه بنقوشها الجميلة، ومن هنا يأتي حوار الحضارات في مكان واحد.

ويتوسط الرواقين المصلى الرئيسي، ويتسع لأكثر من ستة آلاف وخمسمائة مصل، وقد زخرف هذا المصلى بقطع الفسيفساء والرخام الأبيض والرخام الرمادي الغامق، حيث وصل عدد قطع الفسيفساء المستخدمة في تزيين المصلى الرئيسي ما يقارب من ثمانية ملايين قطعة، ومع إمكانية احتواء الصحن الخارجي لثمانية آلاف مصل، بالإضافة إلى الصحن الداخلي والأروقة، فإن السعة الإجمالية للجامع تصل إلى إمكانية احتواء (20) ألف مصل ومصلية.

* سجادة قاعة المصلى مصنوعة باليد، استغرق تصنيعها أربع سنوات، وقد حيكت في إيران بواسطة ستمائة شخص، ودخلت موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية باعتبارها أكبر سجادة في العالم ويتوسط جدار القبلة محراب يعد روعة في الجمال بنقوشه الجميلة، ويعتبر أعلى محراب في السلطنة، إذ يبلغ ارتفاعه 14 مترا وبعرض يقارب التسعة أمتار. وقد فرشت قاعة المصلى الرئيسي بسجادة مصنوعة باليد من الصوف الخالص، استغرق تصنيعها أربع سنوات، وقد حيكت في إيران في منطقة مشهد بواسطة ستمائة شخص، واستغرقت الحياكة وحدها 27 شهرا.. وقد دخلت السجادة موسوعة «غينيس» للأرقام القياسية باعتبارها أكبر سجادة في العالم، حيث تبلغ مساحتها (4263) مترا مربعا. ويوجد بالجامع مصلى للنساء مزخرف بالأحجار المصقولة والمنقوشة والمحفورة يدويا، يتسع لأكثر من ثمانمائة مصلية، وقاعة للمحاضرات والفعاليات الثقافية المختلفة سعتها (300) شخص، تقع إلى الغرب من الرواق، ومكتبة تضم (20) ألف مجلد مرجعي في شتى العلوم والثقافة الإسلامية والإنسانية التي تقع في الشق الشرقي من الرواق وهي مجهزة بأحدث التقنيات السمعية والبصرية وشبكة المعلومات العالمية (الإنترنت) ومهيأة لاستقبال الدارسين والباحثين، بينما تم تصميم أماكن الوضوء في الوسط حول باحات وقاعات خاصة لها على طول خلفية الرواق المحاذية للصحن الخارجي.. كما انبثق عن تطوير مشروع الجامع بفعالياته الثقافية ومهامه الدينية والروحية معهد للعلوم الإسلامية الذي تم إنشاؤه بمبنى مستقل بمرافقه التعليمية الخاصة جنوب مجمع الجامع.

ويتميز جامع السلطان قابوس الأكبر بتفرده، إذ لا يوجد هناك نموذج هندسي آخر مشابه له، ولذلك فهو صرح فريد من نوعه، ويتميز بأنه مكسو بالحجارة المحفورة يدويا من الخارج، مما يضفي عليه طابع الرسوخ، ومن ينظر إليه يحسبه كأنه مبني شامخا من مئات السنين، وقد روعي في المواد المستخدمة في البناء أن تكون مواد طبيعية حتى يظل هذا الصرح خالدا لآلاف السنين. وموقع الجامع يحتل مسافة ألف متر على طول شارع السلطان قابوس وبعمق 885 مترا من الشمال إلى الجنوب.. وقد تم البناء على مساحة إجمالية بما فيها الشوارع والتشجير قدرها (416) ألف متر مربع، كما أن تشييد الجامع تم على أرضية متسعة ومرتفعة عن سطح الموقع بمقدار (1.8) متر، وذلك للإبقاء على المبدأ العماني السائد في رفع عمارة المساجد التقليدية القائمة في أحياء وقرى المدن القديمة عن مستوى العمارة السكنية والعامة وكذلك عن مستوى أرض الولايات. ويأخذ المصلى الرئيسي شكلا مربعا أبعاده الخارجية (74.4 في 74.4 متر) بقبته المركزية التي ترتفع عن سطح البلاط بخمسين مترا وتشكل مع المئذنة الرئيسية المنظور المميز للجامع. ويقع إلى الشرق من المصلى الرئيسي مصلى النساء مشكلا امتدادا للمصلى الرئيسي عبر الصحن الداخلي، وتحيط بالصحن الداخلي ومصلى النساء مجموعة من الأروقة المعقودة وست قباب تبرز على مداخل الواجهات. وقد تم تصميم المصلى الرئيسي ليضم أكثر من 6500 مصل، وتبلغ سعة مصلى النساء 750 مصلية. ومع إمكانية احتواء الصحن الخارجي لثمانية آلاف مصل، بالإضافة إلى الصحن الداخلي والأروقة، فإن السعة الإجمالية للجامع تصل إلى إمكانية احتواء 20000 مصل ومصلية. وتشكل الأروقة الشمالية والجنوبية الفضاء الانتقالي الفاصل بين أماكن العبادة ومرافق الجامع الأخرى، ويمتد كل منها على مساحة داخلية طولها 221 مترا.

وتسقف فضاءات الأروقة سلسلة من القباب الهندسية المستلهمة من قباب مسجد بلاد بني بو علي الفريدة معماريا، الواقع في المنطقة الشرقية من السلطنة.

وتكون جدران الرواق الجنوبي ساترا مرئيا مزدوجا يضم مجموعة من مرافق المجمع الوظيفية، ومنها المكتبة التي تضم 20 ألف مجلد مرجعي في شتى العلوم والثقافة الإسلامية والإنسانية، وتقع قاعة الاجتماعات والندوات (سعتها 300 شخص) إلى الغرب من الرواق، بينما تم تصميم أماكن الوضوء في الوسط على طول خلفية الرواق المحاذية للصحن الخارجي. وتبدو الأروقة بمثابة سور أمين حول عمارة الجامع، حيث تختتم بالمآذن الأربع التي ترسم حدود الموقع بارتفاعها إلى 45 مترا، وتجتمع المآذن الخمس في الجامع لترمز إلى أركان الإسلام الخمسة. وتتخلل الجدران البيضاء المهيبة مجموعة من الأقواس والكوات المفتوحة والصماء مع دعامات تستهل واجهة المصلى الرئيسي، وهذه الدعامات لها وظيفة إنشائية فضلا عن أنها ملاقف للهواء على غرار عناصر الأبراج المناخية التقليدية والسائدة في العمارة المحلية (البراجيل).) وتتوج جدران المصلى الرئيسي شرفات يتأصل طرازها في عمارة القلاع العمانية خاصة ومسننات الشرفات في العمارة الإسلامية عموما. أما جدار القبلة فيتميز بكوة المحراب البارزة في نتوئها عند الواجهة كما هو التقليد في وضوح التعبير عن حائط القبلة في تصميم المساجد العمانية.

وقد استخدمت مجموعة غنية من الزخارف الإسلامية في تصميم النقوش المحفورة في أبواب المصلى الخشبية التي تعلو كلا منها آيات قرآنية بخط الثلث. أما الأبواب الخشبية المحفورة التي تربط الصحن الداخلي بمصلى النساء، فإنها تحتوي على مشربيات مبطنة بألواح الزجاج الملون لتؤكد تواصل ووحدة المكان المخصص للصلاة. وتقتصر تفاصيل عناصر الجدران الخارجية على تقاسيم الزخارف المحفورة بأنماطها الهندسية والنباتية والآيات القرآنية الكريمة المكتوبة بخط الثلث.

وتزداد كثافة الزخارف ودقة إيقاعها تدريجيا مع الانتقال من فضاء عمارة الخارج إلى داخل الجامع وحرمه. وفي جدران المصلى، تعتلي شبابيك الزجاج الملون بتقاسيم هندسية ونباتية رائعة التصميم والدقة».

ويحزم قمة جدران المصلى والصحن الداخلي شريط غني بالآيات القرآنية الكريمة بخط الثلث الممشوق. وتملأ الزخارف الهندسية الإسلامية أطر أقواس الأروقة والمتوجة بحزام من السور القرآنية عند العقود. وطبيعة التشكيل الفني هذه تنتشر إلى جميع أقواس المداخل الرئيسية. أسماء الله الحسنى تحتل موقعها بين أقواس واجهات الأروقة وغيرها، وهي محفورة بالخط الديواني. أما قاعدة المئذنة الرئيسية، فتحتوي الواجهة الجنوبية منها على نص الأذان. بينما حفر اسم الجامع على واجهتها الشمالية.

ورصفت أرضية الجامع بكاملها ببلاط الرخام بترتيب ونمط هندسي متناسق، وصممت قطع بلاط الصحن الخارجي والداخلي الرخامي بمقياس وحدة سجادة الصلاة. ووضعت هندسة الجنائن، في حديقة صممت شرق الجامع، بما يقترن بمبدأ تصميم الحديقة الإسلامية، حيث بنيت مقصورة بصحن وأروقة وإيوان، في وسطها بركة رخامية بمجرى مائي (فلج) يربط المقصورة مع وسط الحديقة.

وقد صمم على الصحن الداخلي مظلة متحركة لتمتد حين تدعو الضرورة لتوفير الظل داخل الفضاء المكشوف.

وقد تم تصميم المحراب بإطار مرتفع يضم كوتين بتقاسيم متراجعة في عمق الجدار بمقرنصات وعقود، ويحيط بإطار المحراب حاشية من الآيات القرآنية الكريمة، وثنية خزفية ناتئة على شكل حبل مفتول مصنوع من الخزف المطلي بالذهب، وتعتلي فتحات الجدران الجانبية شبابيك الزجاج الملون بزخارف مكملة في تصميمها لطبيعة ونمط زخارف الجدران.

إن منظومة كل عنصر معماري في الداخل تجمع أنماطا من الفنون والحرف الإسلامية الأصيلة، ولكن في بنية حديثة ومعاصرة لسياق عمارة الجامع، وأفضل دليل متكامل على هذا يكمن في تصميم وصناعة القبة الداخلية للمصلى والسجادة، حيث كان كل منهما مشروعا فنيا ضخما ومستقلا بحد ذاته، مشكلا تحديا على صعيد التصميم والابتكار والتنفيذ الإنشائي.

والقبة مجمعة بمقرنصات تشكل مثلثات كروية هندسية ضمن هيكل من الأضلاع والأعمدة الرخامية الخالصة المتقاطعة بأقواس مدببة، مرصعة في جميع عناصرها بألواح من القيشاني، وتمتد الألواح الخشبية في السقف بطراز ينبثق عن تطوير السقوف العمانية الأصيلة».

وتم استيحاء أشكال العمارة العمانية في العناصر الزخرفية والهندسية المستخدمة في تصميم الجدران والسقوف والشمسيات المغشاة بالزجاج الملون. والسجادة أحد مقومات التصميم الداخلي، التي تفرش بلاط المصلى بقطعة واحدة تغطي مساحة 4263 مترا مربعا، وهي مؤلفة من 1700 مليون عقدة وتزن 21 طنا، استغرقت صناعتها وإنتاجها أربع سنوات، ولقد جمعت هذه السجادة في تأليفها ونوعية تصميمها سجادة تبريز وكاشان وأصفهان الأصلية، واستخدم في نسج السجادة 28 لونا بدرجات متنوعة، تمت صناعة غالبيتها من الأصباغ النباتية والطبيعية. وتم تصميم السجادة في وحدات من خانات الصلاة تفصل بينها حواش زرقاء وبيضاء بزخارف مستمدة من النسيج العماني.