توركو الفنلندية قبل أعوام من تنصيبها عاصمة الثقافة لأوروبا 2011

يقال إنها تقدمت لأنها تخلصت من تاريخها

توركو مدينة الثقافة لهذا العام
TT

تقول الطرفة إن سبب تقدم وتطور الإسكندنافيين يعود بالأساس إلى تخلصهم من تاريخهم، فقد كان الفايكينغ في التاريخ، قبائل همجية، تعيش على سلب ونهب ثروات الآخرين، كما لم يكن لديهم منظومة قيم أخلاقية، تقيم رادعا بينهم وبين أطماعهم البشرية، أو حتى تقيم الحدود بينهم وبين مجتمعهم، وهذا نتيجته كانت غياب القانون خاصة حين يتعلق الأمر بغيرهم من الشعوب الأخرى.

فكانت أعراض وممتلكات وأراضي الآخرين مشاعا لغزواتهم وأطماعهم، ولا تزال بعض الشواهد على ذلك قائمة لغاية اليوم. ففي مدينة بوردو الفرنسية تقيم بعض الشواهد على غزوات الفايكينغ حاجزا بين السكان والتاريخ الذي لا يمكن أن يمحى بسهولة. غير أن الشعوب التي كانت فيما مضى تعيش على هذا، هي اليوم، إذا اعتبرنا فنلندا من ضمنها، من أكثر شعوب العالم تحضرا وتميزا فيما يتعلق بحقوق الإنسان، هذا على الرغم من الفقر الثقافي الذي لا يزال مسيطرا على هذه الدول. مع ذلك، فالسويد، التي تمنح جائزة نوبل في مجالات كثيرة من ضمنها الأدب. لا يكاد يبرز فيها أديب كبير باستثناء توماس ترانسترومر، المرشح بدوره، ومنذ سنوات، للظفر بالجائزة الأعظم.

كانت وزيرة الثقافة اليونانية، ميلينا ميركوري، أول من طرح الفكرة في عام 1983، إضافة إلى زميلها وزير الثقافة الفرنسي حينذال جاك لانغ. وحين تم تطبيق البروتوكول بين الدول الأوروبية في عام 1985، كانت أثينا المدينة الأولى التي حصلت على اللقب، غير أن البروتوكول الأول كان ينص على التسمية «مدينة الثقافة الأوروبية» ليتحول فيما بعد إلى «عاصمة الثقافة الزوروبية»، وهو لا يزال ساريا لغاية اليوم.

قبل عدة سنوات، قادتني المصادفات إلى زيارة مدينة توركو الفنلندية التي تتربع اليوم إلى جانب مدينة تالين الإستونية على عرش اللقب الثقافي لأوروبا ولعام واحد. توركو، ليست على مثال المدن الأوروبية الجنوبية، في الصقيع الفنلندي، والسهوب الثلجية التي لا تذيبها الشمس القليلة التي تحضر في هذه المنطقة، لا يمكن العيش بسهولة ويسر، تصريفات الحياة قاسية تظهر ملامحها على الوجوه الناصعة البياض. ولأن الشمس هنا قليلة، البشر كذلك قليلون، لكن المدينة مع ذلك، على عكس العاصمة هلسنكي، تعتبر الموئل الأساسي في هذا البلد الشاسع للثقافة. كيف ولماذا وأين هي هذه الثقافة؟ لا أحد يدري فعليا، فالناس الذي لا يظهرون كثيرا في الشوارع، منشغلون طوال الوقت بالأعمال التجارية وبصناعة السفن، فتوركو تضم إلى جانب المهن المختلفة أكبر ميناء لصناعة السفن في أوروبا، وعلى مثال سانت نازير الفرنسية تبنى هنا أكبر السفن السياحية على مستوى العالم. إذن أين هي الثقافة؟

تعرف هذه المدينة بعلاقتها المميزة بالموسيقى، ففيها عدة مسارح أحدها لا يزال يعمل منذ أربعة قرون خلت، إضافة إلى الكثير من دور السينما، وصالات عرض الفنون التشكيلية المنتشرة بكثرة في المدينة، وضمن الضواحي التي تزنرها. كما أن فيها أقدم جامعة في فنلندا وهي جامعة أكاديمية توركو الملكية التي أصبحت تسمى جامعة هلسنكي وقد تأسست في عام 1604، وهي أكثر مدينة في (العالم الإسكندنافي) تقام فيها مهرجانات موسيقية، والرسمي منها هو مهرجان أسواق القرون الوسطى الذي يقام في يوليو (تموز) كل عام، إلى جانب مهرجان توركو للموسيقى إلى جانب مهرجان رويسروك، الذي يعتبر من المهرجانات الفريدة عالميا لموسيقى الروك والأقدم إسكندنافيا، إلى جانب المهرجانات الصغيرة الموجودة طيلة أيام العام. وتعتبر مكتبة توركو، التي تحتل بناء حديث التصميم أكبر مكتبة في فنلندا، وهي لا تغلق أبوابها طيلة أيام العام، وفيها واحد من أقدم أنظمة إعارة الكتب للقراء، وهو لا يزال قائما حتى اليوم، فالفنلنديون، الذين بسبب مناخ بلدهم الصعب والقاسي طيلة أيام السنة، يعتمدون على استعارة الكتب لقراءتها في منازلهم، وهي في أحيان تبقى شهورا طويلة حتى إعادتها إلى المكتبة والفارق هنا أن الحق «ليس على الطليان»، بل على الثلوج ودرجات الحرارة التي تصل أحيانا إلى ما تحت الصفر في موسم الشتاء العادي، لكنها تتمتع بصيف جميل ودافئ على عكس مناطق الشمال التي لا تعرف من الشمس إلا اسمها.

تحتوي هذه المدينة، التي يقطنها نحو مائة وسبعين ألف شخص، إضافة إلى كل هذا، على مجموعة من المتاحف الهامة في إسكندنافيا، يصل عددها إلى أكثر من عشرة متاحف، يعتبر أشهرها على الإطلاق متحف واينو ألتونين للفن، وكذلك متحف الجامعة، إلى جانب متحف سيبيليوس، الذي يعتبر المتحف الوحيد في كل البلدان الإسكندنافية المخصص حصريا للموسيقى. كما يمكن اعتبار معظم واجهات المباني الأثرية القديمة متاحف في الهواء الطلق لما تمثله من قيمة تاريخية وفنية وهندسية، ولما تضمه جدرانها من زخرفات وتماثيل وأعمال فنية. أما في وسطها الذي حصل على جائزة غولدن آبل للسياحة، فتبرز مجموعة من المباني القديمة، التي نجت من الحريق الكبير الذي تعرضت له المدينة في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ويعتبر التجول في تلك المنطقة، حتى أيام البرد القارس، متعة فريدة، خاصة، حين تختلط الألوان الجميلة التي صبغت بها المباني باللون الأبيض وبالأنوار الصفراء الخافتة التي تضيء ليالي المدينة.

في توركو، التي تعني باللغة القديمة وسط السوق أو وسط المدينة، حياة مثالية لنمو الثقافة، فالمدينة تستقبل نحو ثلاثة ملايين سائح سنويا، منهم من يقصدها هي دون غيرها، ومنهم من يعتبرها الممر الطبيعي والسهل للوصول إلى السويد أو إلى المدن الفنلندية الأخرى. وهي بهذا المعنى، من أكثر مدن شمال أوروبا استقبالا للغرباء، الذين، من خلال احتكاكهم المباشر بالسكان، يتعرفون على دفء سكان الشمال وقدرتهم على الترحيب، كما يتعرفون على الزخم الثقافي التقليدي لبلدان الشمال.

كانت الأيام الخمسة التي قضيتها في توركو، قبل ثلاث سنوات، على الرغم من أنها كانت في الشتاء، وسيلة، مهمة، للتعرف على ثقافة وتقاليد أجمل ما يقال فيها إنها فريدة وطازجة، وسواء في السوق العامة، حيث مشيت أكثر الأوقات، أو على ضفة نهر أورا، بالقرب من الكاتدرائية، أو حتى في العبارات التي كانت تنقلنا من مكان إلى آخر، إلى جانب زيارو، بعض الجزر المأهولة بالسكان أياما مثقلة بهم التعرف على ثقافة شعب يعيش في ظروف مناخية صعبة، وبإرث تاريخي يستميت هذا الشعب لإثبات عكسه، من أكثر الرحلات التي تعنى بالبحث عن الآخر المختلف، وبناء جسور تواصل معه. لكن هذه المدينة التي تحتل اليوم لقب العاصمة الثقافية، وإن كانت تزخر بكل هذا وما يزيد، لم تنتج كاتبا واحدا أو شاعرا معروفا على مستوى العالم أو حتى أوروبا. وعلى الرغم من الاهتمام العام بالثقافة، لا يزال يلزم بلاد الشمال الكثير من الجهد لتتساوى من بلدان الجنوب الأوروبي التي تحتكر، إلى جانب الثقافة، كل شيء.

تركت توركو بعد الأيام الخمسة، وهنا أنا أعود إليها من جديد، فالمدن التي تترك علامات في النفس لا يمكن محوها بسهولة من الذاكرة. الذاكرة نفسها التي تحفظ الكثير من البشاعات التي تلتقطها من أحداث العالم، تلتقط كذلك الأشياء الجميلة والنفيسة التي تبقى لامعة كأي معدن نفيس.