جزر موريشيوس.. روعة ليلها تنافس جمال نهارها

اكتشفها العرب واستغلها الأوروبيون

موريشيوس تروي ظمأ كل من يسعى وراء الهدوء والسكينة ويعشق جمال الطبيعة
TT

عند الحافة الغربية لقارة أفريقيا تقع جوهرة المحيط الهندي، جزر موريشيوس.

اكتشفها البحارة العرب قبل عدة قرون، ومن ثم تركوها بعد أن وجدوها غير مأهولة بالسكان ولا تشكل مطمعا لهم، كما فعلوا مع جزر أخرى كثيرة ليغنم بها المستعمرون الأوروبيون فيما بعد.

في ذلك الوقت، وقبل نحو ثلاثة قرون، لم يقطن الجزر الاستوائية تلك سوى بعض السلاحف العملاقة وطائر الدودو الذي انقرض فيما بعد على يد البحارة والمستعمرين، وليقترن اسم موريشيوس للأبد بهذا الطائر المسكين.

الآن، الجزيرة الأم وما حولها من جزر مترامية مأهولة بالسكان وعددهم نحو مليوني نسمة، تقترن بقدرة الطبيعة على التفنن في إظهار جمالها.

لم يجد المكتشفون ما يغريهم من ذهب وأحجار، لكنها تحولت إلى مفتاح المحيط الهندي لموقعها الاستراتيجي المميز حيث تقع بين آسيا وأفريقيا.

موقعها الفريد ووفرة المياه العذبة والأراضي الخصبة جعل من موريشيوس محطة استراتيجية للإمبراطورية البريطانية لتأمين الحماية والدعم للأساطيل البحرية وهي تمر عبر خط التوابل من الهند نحو أوروبا، ولهذا خاض الإنجليز حربا مع فرنسا للسيطرة على هذه الجزيرة وانتهى الأمر بطرد الفرنسيين بعد أن أسسوا حياة آلاف المهاجرين من كافة الأصول والمنابت.

خرج المستعمرون الأوروبيون من موريشيوس وآخرهم كان الإنجليز عام 1968 تاركين وراءهم مرآة للجنة يعيش سكانها في رغد وسلام بفضل الاستقرار السياسي والاقتصادي مما أدى إلى احتلالها قمة دول أفريقيا الواعدة اقتصاديا حسب آخر تصنيف دولي، وضمن العشرة دول الأولى في العالم بفضل نسبة التعليم المرتفعة وتطور القوانين واحترام الدستور في بلد يجيد لعبة التعدد السياسي والتوازنات الاجتماعية دون تغول من سلطة على أخرى أو مجموعة إثنية على أخرى.

سكانها جاءوا من خلف البحار قبل نحو قرنين من الزمان، إما كعبيد مكللين بالأغلال تم جلبهم من أفريقيا ليخدموا القوات المستعمرة أو آخرين محملين بأحلام الغنى أو مدفوعين برغبة الهرب من الجوع من الهند ومن الصين.

على مر السنوات، اندمجت الأعراق المختلفة من أوروبيين وهنود وأفارقة وصينيين في هذا المجتمع الصغير ومارسوا حياة طبيعية، ساهم في تحقيق ذلك بعدهم عن أي دولة مجاورة طامعة ولغة الكريول التي نشأت في جزر حديثة الاكتشاف.

كانت موريشيوس قبل قرن من الزمان نبع المياه العذبة التي تروي ظمأ البحارة وهم يتنقلون بين القارات، أما الآن فها هي تروي ظمأ كل من يسعى وراء الهدوء والسكينة ويعشق جمال الطبيعة المثالي. الصورة النمطية للجزر الاستوائية موجودة في موريشيوس. الشواطئ الرملية الناعمة عاجية اللون تتزين بأشجار جوز الهند المنحنية عند طرف المحيط الشاسع احتراما وهي تلقي بظلالها فوق مياه زمردية وجبال شامخة. ولا ننسى الأنهر المترامية في بحر من الخضرة.

المياه تتفنن في إعطاء اللون الأزرق أبعادا لم يتخيلها عقل ولم ترسمها لوحة فنان وهي تعكس أشعة شمس ساطعة تجعل من المكان لوحة حية تزينها الأسماك من كافة الألوان والأشكال تسبح بين الصخور والشعب المرجانية.

قد تجد مثل تلك الشواطئ في أي دولة استوائية بحرية، لكن من الصعب أن تجد التنوع الطبيعي والجغرافي والحضاري في مثل هذه المساحة الصغيرة كما هو الحال في موريشيوس.

فمن شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، هناك العشرات إن لم يكن المئات من اللوحات الفنية النادرة عند حافة البحر.

بدءا من شواطئ راكدة خلف خلجان مائية مثل منطقة بلوباي وغراند باي وموشوازي شمالا وجزيرة الوسيرف شرقا، إلى سلسلة من الشواطئ الصاخبة التي تعكس جنون البحر، خاصة في المناطق الجنوبية مثل منطقة غري غري وغوش كي بلير، أي الصخور الباكية.

وهناك الشواطئ الشاسعة التي يرتادها السكان المحليون مثل منطقة فليك انفلاك ولي مورن في الجنوب. المنطقة الأخيرة، لي مورن، ربما تكون من الأماكن المفضلة لدي، ليس فقط لأن السباحة في شواطئها ممتعة والنوم على رملها الناعم أجمل نوم، بل لما يحيطها من جمال طبيعي بسبب الصخرة الهائلة التي تقف حارسة على هذا المكان البديع.

جميلة جدا هذه الصخرة البركانية بشكلها الذي نحتته الرياح على مدى ملايين السنين، على الرغم من أن هناك قصة حزينة وراء هذه الصخرة كما تقول الأسطورة المحلية.

عند قمة تلك الصخرة، كان العبيد يهربون من أسيادهم الأوروبيين ويلقون أنفسهم من فوقها خوفا وحبا في الحرية ليلقوا حتفهم. قصة حزينة تلخص جزءا من التاريخ المأساوي لموريشيوس ساعد سكانها على النهوض والابتعاد عن الماضي المعتم ليبنوا لأنفسهم مستقبلا مشرقا. قضينا ليلتنا بالقرب من تلك الصخرة عند الشاطئ، أنا وبعض من الأصدقاء، نتجاذب أطراف الحديث عن موريشيوس والكنوز التي تحملها.

وعلى وقع موسيقى السيغا المحلية بدأو بإخباري عن الجزر المجاورة مثل جزيرة رودريغيز التي يسكنها بعض من السكان تحت إدارة شركة تابعة للحكومة المركزية، وجزر أخرى داعبت مخيلتي وأعادتني لأحلام الطفولة وكتب البحارة والقرصان.

تحدث صديق عن مدى استمتاعه برحلة إلى عمق البحر لاصطياد أسماك البلو مارلين الضخمة، وكم كان ذلك جميلا. وتحدث آخر عن ضرورة أن أتسلق جبل بوس قرب العاصمة بورت لويس لأشاهد الجزيرة كما تشاهدها الطيور، وذكروني بضرورة زيارة الغابات الاستوائية والتجول في الأسواق في العاصمة بورت لويس وبعض المناطق القريبة، وقد فعلت كل ذلك وأكثر.

كان أصدقائي محقين بإعجابهم بما تقدمه هذه الجزيرة من جمال.

بعد أن أنهينا حديثنا قادتني أقدامي عند هدوء الليل الذي لا يعكر صفوه سوى تلاطم المياه بالشواطئ لأجد نفسي أنظر إلى السماء وإذا بي وكأنني أراها للمرة الأولى! ليلها يتلألأ بالنجوم وهي ترسم تحفة في كبد السماء فوق المحيط الهندي مما يشكل امتحانا لكل من يدعي علمه بالفلك والأبراج في بطن السماء.

لا أعرف إن كان ليلها أجمل من نهارها أم العكس، لكنني تأكدت أن هناك جوهرة نادرة موجودة قريبا من المنطقة العربية تستحق أن توضع على رأس قائمة الدول الأجمل في العالم.

ومن الجدير بالملاحظة أن موريشيوس ليست فقط للسياح الأغنياء كما هو متداول لدى البعض، فبإمكان كل من يرغب بزيارتها أن يجد مكانا يسكن فيه هو وعائلته، وعلى البحر مباشرة بمبلغ لا يتجاوز المائة دولار باليوم، وهناك أقل من ذلك إن فضل الزائر أن يكون بعيدا قليلا عن الشاطئ. أما الطعام فهو متوفر وبجميع الأنواع وليس من الصعب إيجاد الأكل الحلال، ناهيك عن التشكيلة التي لها بداية وليس لها نهاية من الأطعمة البحرية.

أعرفها جيدا فقد زرت موريشيوس عدة مرات خلال العقد الماضي بعد أن سلبني جمالها وأسرني سكانها بلطفهم وحسن استقبالهم للزائرين ومن المحتمل أنني سأزورها أكثر في المستقبل فهناك الكثير من الأسرار لم أتعرف إليها بعد.