جادة السليمانية.. إطلالة متنوعة على زمن الإمبراطورية العثمانية

بها مسجد ومطعم وحمام تركي ومكتبة

المكتبة داخل الجادة غنية بالمخطوطات الإسلامية
TT

داخل «جادة السليمانية» بإسطنبول، تنتقل إلى عالم آخر وصورة أخرى من عدة صور تحملها بداخلك للمدينة التي تزاوجت فيها الثقافة الغربية بالشرقية في عرس إنساني بهيج، فالجادة مثل الواحة أو الجزيرة تأخذك بأصالتها إلى زمن الإمبراطورية العثمانية، فتكاد تلمس أجواء هذا الزمن وكأنه حي، يتنفس عبق الماضي والحاضر معا.

تعد «جادة السليمانية» واحدة من أعرق المزارات السياحية بإسطنبول، وتقع على أحد التلال السبعة التي كانت تقع بمحاذاة أسوار مدينة القسطنطينية (إسطنبول قديما قبل الفتح الإسلامي) والتي تظهر عند أودية القرن الذهبي ومضيق البوسفور، وكل تل من التلال السبعة يحمل أحد الآثار الدينية المهمة في التاريخ والثقافة التركية.

فعلى التل الأول، حيث تأسست المدينة البيزنطية «القسطنطينية» في الجزء الأوروبي من مدينة إسطنبول، تقع أهم ملامح مدينة إسطنبول السياحية والتاريخية، فهناك توجد كنيسة آيا صوفيا، وفي مقابلها يقع مسجد السلطان أحمد وأيضا قصر توب كابه (الباب العالي).

ويحمل التل الثالث جامع «السلطان بايزيد الثاني» ابن محمد الفاتح وثامن سلاطين الإمبراطورية العثمانية، وعلى شمال المسجد تقع جادة السليمانية، ويسهل الوصول إليها من ميدان بايزيد القريب من المبنى القديم لجامعة إسطنبول.

ولقرابة عشر دقائق، تسير في أحد الأحياء الشعبية في إسطنبول، حيث تجد الباعة الجائلين بالفاكهة الطازجة والسميط وأيضا تجد منازل لطلاب الجامعة ومطاعم الكباب الصغيرة إلى جانب المكتبات التي تبيع للطلاب مستلزمات الدراسة، وبعد عدة بنايات تجد منحدرا صغيرا يدخلك إلى ممر ضيق يفصل بين بنائين لمكتبة السليمانية، ومن هناك ترى مشهدا رائعا لمآذن وقباب جامع السليمانية.

وبعد أن تمر من الممر الضيق لمكتبة السليمانية، تجد نفسك بين عدة بازارات للتذكارات والأوشحة التركية المطرزة والحلي، ويستمتع السائحون بالمشي في الساحة الطويلة التي تفصل بين البازارات وأسوار الجامع، وكانت هذه البازارات في الماضي دكاكين «قرطاسية» لخدمة الدارسين الذين يأتون لمسجد ومدرسة السليمانية، وهناك يمكن الاستمتاع بأجواء المكان التاريخي، بالجلوس في أحد المقاهي الموجودة بالمكان التي تقدم الوجبات التركية الخفيفة من شطائر الدونور (الشاورمة) والحلويات التركية التقليدية من الكنافة والبقلاوة.

وتعتبر جادة السليمانية بمثابة متحف مفتوح للآثار الإسلامية التي تعكس تاريخ الإمبراطورية العثمانية، فقد جمع تصميم المباني فيها بين فن المعمار الإسلامي والبيزنطي، وتم تشييد الجادة التي تتضمن جامع السليمانية ثاني أكبر مساجد إسطنبول – بعد جامع السلطان أحمد - ومكتبة السليمانية وحمام السلطان ومطعم دار الضيافة، بناء على أمر من السلطان سليمان القانوني، وقام المهندس المعماري العثماني الشهير معمار سنان أغا بتصميم الجادة وبنائها، وبدأ ببناء الجامع في عام 1550 واستغرق بناؤه نحو ثماني سنوات.

وانعكست كل من الثفافتين الإسلامية والبيزنطية على الشكل المعماري للجامع والجادة ككل، فالجامع به المآذن المخروطة، إلى جانب القباب الكبيرة المدعومة بنصف قباب مثل كنيسة آيا صوفيا البيزنطية، التي حولها العثمانيون بعد الفتح الإسلامي إلى جامع، ويقال إن سليمان القانوني أراد بتشييد الجامع بهذا الشكل أن يحاكي قبة الصخرة في فلسطين.

وأسس سليمان القانوني الجامع ليكون بمثابة كلية أو مجمع لخدمة الأغراض الدينية والثقافية، وفي الماضي كان الجامع يضم مشفى «دار شفاه»، وأصبحت الآن مطبعة مملوكة للجيش التركي، ومدرسة ابتدائية وحماما عاما، و«كاروانسرا» أي خانا، وأربع مدارس لتعليم القرآن الكريم، وأخرى مختصة بتدريس تعاليم الحديث الشريف، إلى جانب مدرسة للطب ومطبخ لخدمة الفقراء، وفي بعض الأحيان كانت تقام فيه مآدب السلطان، وفي الوقت الحالي تحول إلى مطعم سياحي شهير.

وكمعظم الجوامع الملكية بإسطنبول، يوجد بالجانب الغربي من جامع السليمانية فناء عريض، به بهو مرفوع على أعمدة من الرخام والغرانيت والحجر السماقي، ويتميز الجامع بأربع مآذن تنتصب في الأركان، حيث كان للسلطان وحدة الحق في بناء الجامع بأربع مآذن، أما الأمراء فكان يسمح لهم ببناء مساجد بمئذنتين فقط، وكانت قبة مسجد السليمانية هي الأعلى في الدولة العثمانية وقت بنائها، ولكنها أصغر من قبة آيا صوفيا، فيصل طول قبة جامع السليمانية إلى 53 مترا وقطرها إلى 27.5 متر، والمسجد من الداخل مزخرف بدقة، بها بساطة مريحة للعين.

وفي عام 1660، أعاد السلطان محمد الرابع ترميم الجادة بعد أن خربتها النيران، وتسبب زلزال وقع في 1766 في هدم جزء من قبة المسجد الرئيسية التي كان صممها معمار سنان، وفي أثناء الحرب العالمية الأولى استخدمت ساحة الجامع لتكون مستودعا للذخيرة، ونشب حريق جراء اشتعال الذخائر أدى إلى احتراق هائل بالجامع ولم يستكمل ترميمه إلا في عام 1956.

وتحول المطبخ أو تكية السليمانية إلى مطعم سياحي شهير يسمى «دار الضيافة»، وفي كثير من الأحيان كان يقيم السلاطين بها المآدب الضخمة. والمبنى من الداخل به خمس قاعات كبرى، وهي التي تقع تحت القباب وتستوعب قاعة القانوني، وهي كبرى القاعات، ما يقرب من 350 فردا، بينما تستوعب قاعة سنان نحو 250 فردا، وباقي القاعات تستوعب قرابة 150 فردا، ويفخر العاملون بالمطعم بأنهم يستطيعون تقديم المأكولات التركية لأكثر من ألف شخص في نفس الوقت، ويتبع المطعم فلسفة خاصة تتمثل في دمج طقوس المطبخ العثماني العريق بخبرة المطبخ التركي الحديث، وأهم ما يميز المطبخ التركي التقليدي هو استخدام الفاكهة والخضراوات في مواسمها، ولهذا السبب يقوم المطعم بتحضير قوائم الطعام الخاصة به وفقا لتغير المواسم.

ومن أكثر المزارات التي تجذب السائحين للجادة «حمام السليمانية» الذي شيده معمار سنان أغا في عام 1557، وهو حمام تركي تقليدي به ثلاث مراحل بداية من البارد للفاتر للساخن، وتتراوح درجة الحرارة فيه ما بين 40 و60 درجة مئوية، وبني الحمام على شكل قبة ليتناغم مع مجمع السليمانية، وحوائطه مرصعة بالرخام، وتصل تكلفة الجلسة فيه إلى نحو 100 دولار.

وبالجادة مكتبة السليمانية، وهي مستودع لأكبر مجموعة من المخطوطات الإسلامية في العالم، وأحدث مخطوط بها يرجع عمره إلى مائتي عام، وأنشئت لغرض الحفاظ على المخطوطات الأثرية القيمة، وتتضمن أكثر من 130 ألف مخطوطة، منها نحو 67 ألفا مخطوطة باللغات العربية والعثمانية (التركية القديمة) والفارسية، في الطب والقانون والعلوم والموسيقى، وفيها كتاب «علم البصريات» لابن الهيثم الذي يعد أقدم كتاب في هذا العلم وأيضا «كتاب القانون» في الطب لابن سينا. والكثير من الكتب الموجودة بالمكتبة تمت طباعتها بمطبعة بولاق الأميرية بالقاهرة. ومن الكتب المهمة بالمكتبة نسخة تركية مترجمة من العربية من كتاب «المسألة المصرية» الذي يجسد إشكالية تمتد نفوذ الدولة المصرية إبان حكم محمد علي، وأيضا هناك الكتب الأصلية للرحالة العثماني أوليا شلبي، إلى جانب 50 ألف كتاب عثماني مطبوع، وآلاف الكتب الأخرى باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية.

وأدرجت كل الكتب والمخطوطات بالمكتبة في منظمة اليونيسكو وتم فهرستها ونشرها وتأمينها، ويأتي إليها الباحثون من كل أرجاء الأرض للاستفادة من المخطوطات في أبحاثهم، وفي المكتبة لا يسمح للباحثين أو الزوار بلمس الكتب أو المخطوطات، بل يقوم بهذه المهمة أحد الموظفين المختصين الذي يقلب صفحات الكتب والمخطوطات بطريقة معينة، ويمكن للباحثين تصوير نسخ من الكتب والمخطوطات، ويتراوح سعر الصورة من الصفحة في الكتاب أو المخطوطة بين ثلاثة دولارات والسبعة دولارات، والكتب النادرة والتاريخية محفوظة بعناية داخل طاولات للعرض محاطة بالزجاج، ويحظر التصوير الفوتوغرافي بالداخل.