العرائش.. تتنفس التاريخ وتروي حكايات الإسبان

مدينة مغربية تقتات من السمك

السوق في المدينة العتيقة («الشرق الأوسط»)
TT

أضحت زيارة السياح الإسبان لمدينة العرائش المغربية في شمال البلاد على شاطئ الأطلسي، ظاهرة. هؤلاء سياح لا يملكون الكثير الذين ينفقونه، لكن لماذا يا ترى يزورون هذه المدينة، التي ليس فيها «جاذبية طنجة» أو «سحر شفشاون».

في فصل الربيع وقبل بداية الصيف يكون الطقس «نقيا» في العرائش حيث يهب عليها نسيم البحر من المحيط الأطلسي، مختلطا برائحة نباتات الغابات الذكية. يمكنك التجول خلال ساعات في أهم شوارع هذه المدينة التي تتوفر على تراث معماري تاريخي، وتذهب إلى حيث الشاطئ، أي إلى حيث الهدوء إذا أردت. إذ هي ليست مدينة كبيرة، إنها هناك لا تتمدد كثيرا.

كانت العرائش في الماضي جزءا من «المستوطنات الإسبانية» في شمال المغرب، وحين أجتاح الإسبان مناطق شمال المغرب، كانت من بينها العرائش، نظرا لموقعها الاستراتيجي على المحيط الأطلسي.

على امتداد عقود شيد الإسبان بنية تحتية ما زالت قائمة حتى اليوم، كما أن الكثير من المنازل والمطاعم والفنادق ما زالت تحمل الطابع الإسباني في جانبها المعماري. في بعض الأحيان بقي كل شيء على ما هو عليه فقط تغيرت الأسماء. على سبيل المثال ما كان يعرف باسم «ساحة إسبانيا» وسط المدينة يسمى حاليا «ساحة التحرير» وهكذا. لكن على الرغم من ذلك تعرضت العرائش للإهمال بالمقارنة مع طنجة التي استقطبت اهتمام الأوروبيين والأميركيين، لكنها بقيت وجهة سياحية لبعض الأجانب، خاصة من الإسبان الذين يبحثون عن الهدوء والسكينة. تمتزج الثقافتان المغربية والإسبانية في العرائش، ويتجلى ذلك في الهندسة المعمارية التي ما زالت آثارها ماثلة، كما أن هناك تأثيرات إسبانية في مجال اللغة المحكية ونمط حياة السكان.

تقع العرائش في الشمال الغربي للمغرب على المحيط الأطلسي، وهي تتكون من «مدينتين» مدينة مغربية عتيقة، ومدينة عصرية على الطراز الإسباني، وتعتبر من أجمل مدن الشمال المغربي بطابعها المعماري المتنوع والذي احتفظ ببصمات الحضارة الأندلسية القديمة والعصرية، وما جعلها تجتذب السياح، خاصة من أصحاب الإمكانات المتواضعة، مناخها المعتدل طوال السنة.

جميع الطرق في العرائش تؤدي إلى ميناء المدينة، حيث توجد حركة دائبة خاصة من طرف قوارب صيادي الأسماك، ومن أشهر مداخلها التي تقودك إلى المدينة منطقة «باب الخميس». ونظرا لطابعها المحافظ فإنها تستهوي النساء، خاصة أولئك النسوة اللاتي ينتقلن إلى مدن الشمال من أجل جلب الملابس والمنتجات الإسبانية لبيعها في «مدن الداخل» وهو ما يطلقه أهل الشمال على مدن وسط وجنوب المغرب.

أهم ما يلفت النظر في وسط المدينة «ساحة التحرير»، وهي عبارة عن قوس يتكون من بنايات فيها بصمات مدارس هندسية معمارية أوروبية، لكن مع طغيان نماذج من هندسة الموريسكيين، أولئك الذين أجبروا على النزوح من إسبانيا بعد انهيار الأندلس وخلال فترة محاكم التفتيش.

وعلى الرغم من أن هذه البنايات في «ساحة التحرير» هي التي تميز العرائش عن غيرها من المدن، لكن الملاحظ أنها تتعرض للإهمال. ويأتي كثير من السياح الإسبان لالتقاط صور قرب هذه البنايات قبل أن تدثر إذ إن جدرانها تحكي الكثير من الذكريات.

يشكو سكان العرائش من أن الساحة تتعرض بالفعل للإهمال، ويقولون إن عدم ترميم بناياتها سيجعل المدينة تفقد نقطة جذب سياحية استثنائية.

وكما قال أحد الكتاب الإسبان في وصفه للساحة «إنها بمثابة بطاقة بريدية أندلسية يبعث بها سكان العرائش إلى العالم».

من وسط الساحة يقودك «باب الخميس الكبير» إلى القصبة (المدينة العتيقة). المنازل الصغيرة مصبوغة باللونين الأبيض والأزرق وهي عبارة عن أزقة ضيقة، يوجد بها «سوق صغير» كما يسمى وهي فعلا سوق صغيرة وتعد أقدم الأسواق في المدينة إذ شيدت في القرن الثامن عشر.

معظم سكان العرائش من القرى المحيطة بها، زحفوا نحوها عندما راحت الأسر الإسبانية تترك المدينة فوجا تلو أفواج، وهم يتحدرون من منطقتي «الريف» و«جبالة» في الشمال، لذلك تبدو العرائش، وكأنها مدينة «مهاجرين».

في وسط المدينة توجد السوق الرئيسية ويطلق عليها اسم «البلاصا» وتضم محلات للفاكهة والخضراوات، والأسماك واللحوم، شيدها الإسبان عند دخول قوات الحماية الإسبانية إلى المغرب، ومنطقتها تعرف باسم الحي الإسباني.

معظم مساحات المحلات والدكاكين ضيقة لا تزيد عن ستين مترا، وهي تضم دكاكين للخضر والفواكه، وأخرى للأسماك في الواجهة، ومحلات للقصابين في الأطراف، وهناك مرافق أخرى مثل نقطة الشرطة والطبيب البيطري وإدارات حكومية، ومرافق لتمضية الوقت مثل المقاهي.

تمزج سوق «البلاصا» بين جماليات العمارة الأندلسية والمتوسطية وطغيان اللون الأخضر، وعرفت هذه المعلمة بدورها عدة مشكلات بسبب الإهمال إلى أن تم إصلاحها وترميمها من طرف «حكومة الأندلس» الإسبانية بناء على اتفاقية مع المجلس البلدي للعرائش، واهتمت «حكومة الأندلس» بهذا المكان نظرا لطابعه التاريخي، وبضغط كذلك من السياح الإسبان، الذين يعتقدون أن في أمكنة وأزقة وشوارع العرائش الكثير من تاريخ إسبانيا.

كثيرون يزورون العرائش لأنها مدينة السمك الطازج. وهي بالفعل مدينة السمك حيث يعتمد كثيرون في حياتهم على «غلة البحر». لذلك يقال إنها مدينة «السمك الطازج»، وهي تعتمد على صيد الأسماك والزراعة. لذلك يلعب الميناء على المحيط الأطلسي دورا بارزا في مجال تزويد المنطقة وبعض المدن المغربية بالسمك، حيث يتم صيد كميات كبيرة من السمك المتنوع الذي تزخر به الشواطئ المغربية.

لعب ميناء العرائش دورا كبيرا في تاريخها وأصبحت المدينة ترتبط بحركة هذا الميناء، وجعل أهل العرائش يرتبطون ارتباطا وثيقا بالبحر.

في النهار يبدو الميناء الصغير هادئا خامد الحركة. بحارة شباب يصلحون الشباك المهترئة من كثرة الاستعمال. صناديق أسماك صغيرة تنتظر زبائن فاتتهم أسواق الصباح الباكر. قوارب صيد تتهادى قرب المرفأ. هي في معظمها قديمة. فوق سطح مركب كبير يتجمع عشرات البحارة، ينتظرون صيد اليوم، التي ستحدد مكان صيد السمك. الشباك المتكدسة تحتاج إلى عمل كثير لفكها، وفي قلب المركب، وداخل عنبر في قاعه، بعض البحارة مهمتهم وضع حصيلة الصيد في الصناديق المخصصة ودفنها بالثلج لضمان وصولها طازجة.

يخشى ربابنة مراكب الصيد مدخل الميناء الذي سماه الإسبان «لا بوكا دي ليون» أي (فم الأسد). هناك ستسمع الكثير من الحكايات عن غرق بعض المراكب والقوارب عند هذا المدخل الذي لا تنتهي شهيته.

الصيادون يتحدثون كثيرا عن المدخل الصعب وخطورة أمواج المحيط عندما يكون الطقس رديئا. معظمهم يتذكرون حوادث غرق صيادين منهكين بخلال رحلات البحث عن السمك، ربما ليس فقط بسبب الأمواج الهادرة، ولكن أيضا بسبب المراكب المهترئة التي تفتقد لعنصر الأمان. والمفارقة أن هذه المراكب والقوارب تستهوي السياح الذين يأتون كثيرا إلى الميناء ليكتشفوا كيف يصارع الإنسان من أجل كسرة خبز.

خلال الستينات والسبعينات ومطلع الثمانينات عرفت العرائش ازدهارا واضحا، لكن الآن تعرف ركودا وشللا بسبب إغلاق معظم المصانع الموجودة بها مما أثر سلبا على المدينة، وارتفاع نسبة البطالة واتساع الهجرة إلى أوروبا قبل أن يغلق الأوروبيون أبوابهم. لذلك اتجهت العرائش إلى السياحة لتبيع «تاريخها» القريب والبعيد إلى السياح، كما أن الناس امتهنوا الزراعة في سهل حوض «نهر اللوكوس» وهي إحدى المناطق الزراعية الرئيسية المغرب، حيث يتميز الإنتاج الفلاحي بالمنطقة بتنوعه من الإنتاج النباتي والحيواني مع تركيز على الزراعات التصديرية والتحولية خاصة الطماطم والبطاطس والحوامض والزراعات السكرية والحليب. ويتوفر هذا الحوض على منطقة سقي بسبب وجود «سد واد المخازن» قريبا من العرائش.

زائر لمدينة العرائش لا بد أن يقف مشدوها أمام بناية «الكوماندانسيا» المعروفة بصومعتها والتي كانت تتوسطها ساعة، يمكن رؤيتها من عدة أمكنة بالعرائش. هذه البناية شيدها الملك مولاي إسماعيل في القرن الثامن عشر، خلال زيارته للمدينة بعد استرجاعها من طرف الإسبان خلال حملتهم الأولى على المدينة واتخذها قصرا له. وكان الإسبان شيدوها لتكون مقرا للقيادة العسكرية خلال استعمارهم المدينة، وهي تقع قرب «حي القصبة» التاريخي والمتحف الأثري ومسجد الأنوار.

روعي في بنائها الفن الأندلسي حيث تتوفر على مئذنة وزخارف إسلامية. تعرضت هذه المعلمة للتخريب بعض الشيء، من خلال إتلاف ساعتها الشهيرة في أعلى الصومعة، ويقال إن الإسبان حملوها معهم عند رحيلهم من المدينة، ومن أجل أن تظل معلمة سياحية، تم إصلاحها وأصبحت حاليا مقرا لفرع وزارة الثقافة في المدينة، وقريب منها توجد المقبرة الإسبانية القديمة التي ما زالت موجودة، حيث دفن عدد من الشخصيات فيهم أدباء ونجوم سينما، وهي تستقطب أيضا بعض السياح المولعين بالتاريخ.

تحيط بمدينة العرائش غابة في غاية الروعة والجمال على طول شاطئ يسمى «مسيترو» يحتوي على أشجار الصنوبر والكليبتوس، حيث تشكل حزاما بيئيا طبيعيا للمدينة ومتنفسا لسكان المدينة، ويفضل كثير من السياح الإقامة في هذه الغابة خاصة في الصيف. وتوجد في ضواحي العرائش كذلك محمية طبيعية عبارة عن بحيرة مائية تتجمع فيها أصناف نادرة من الطيور المهاجرة، يزورها الكثير من السياح الأوروبيين.

لا توجد أرقام دقيقة حول عدد السياح الذين يزورون العرائش، لكن كثيرين في المدينة، يلاحظون بوضوح أن تاريخ المدينة يجذب أعدادا كبيرة منهم. ومن الظواهر اللافتة أن بعض الرسامين والمصورين الإسبان راحوا يركزون كثيرا في معارض متنقلة على العرائش، حيث يحاولون تذكير الإسبان بهذه المدينة، التي عاشت وما تزال تعيش فيها عائلات إسبانية.. والكثير من التاريخ كذلك.