رحلة إلى قلب عمان النابضة بالحياة

يراها البعض مدينة هادئة في منطقة مهتاجة

المسرح الروماني في عمان مدينة التاريخ
TT

عندما تسرب خبر افتتاح أول محل لـ«لوي فويتون» في العاصمة عمان، وتحديدا في مركز «تاج»، كان مفاجأة. سارة بالطبع لكنها غريبة، فرغم أن الدار تتمتع بحضور قوي في منطقة الشرق الأوسط، من دبي إلى بيروت، وبرهنت دائما على أنها سباقة في الكثير من الأشياء، وعلى نظرة واضحة ثلاثية الأبعاد، لكن العاصمة الأردنية ليست من الوجهات التي تخطر ببال كل من يريد التوسع في المنطقة، فهي لا تتمتع بتلك الهالة التي تتميز بها مدن أخرى في المنطقة، مثل بيروت، المعروفة بثقافة البوب والتسوق والحياة الليلية الصاخبة، أو القاهرة، بتاريخها العريق وثقافتها الغنية، أو دبي بتطورها السريع كأرض للأحلام في منطقة الخليج. عمان، في المقابل تعطي الانطباع بأنها مدينة هادئة في منطقة مهتاجة، أو متفجرة أحيانا.

لكن عندما تتوقف عندها «لوي فويتون» المعروفة بتمتعها بحدس تجاري لا يضاهيه أحد، وتجعلها محطة من محطاتها المهمة في المنطقة، فإنه لا بد من وقفة تفكير وإعادة النظر. وبالفعل فإن زيارة قصيرة يمكن أن تغير الكثير من الانطباعات الخاطئة وتفتح العين على جماليات هذا البلد الذي يتآلف فيه ماضيه مع حاضره ومستقبله لتشكيل خلطة دافئة تستكين لها النفس وتشد الأنفاس في بعض الأحيان. الانطباع الذي تخرج به أن عمان خصوصا والأردن عموما من الوجهات السياحية المثيرة التي تستحق زيارتها ولو مرة في الحياة، وأنه إذا كان هناك مأخذ عليها فهو أنها لا تسوق لنفسها بالحجم الذي تستحقه.

من أول يوم يشعر الزائر بلقاء الحضارات وبأن التاريخ فيها يخاطبه بلغة سلسة تتغلغل في الأوصال لتخلق شعورا بروعة المكان وهيبة الأحداث التي مرت عليه عبر القرون. والمثير في كل هذا أن العمليات لا تزال تكشف كل مرة عن آثار جديدة لتكتب فصلا جديدا من هذا التاريخ، كان آخرها اكتشاف لبقايا قرية قديمة، يوجد فيها قصر الحاكم الذي شيد إبان الإمبراطورية الأموية، التي حكمت العالم العربي من العام 661 حتى 751 قبل الميلاد. وإذا كان كل هذا لا يكفي فإنه لا بد من الإشارة إلى أنها تحتضن البترا التي مهما قيل عنها من أوصاف فإن «من شاف ليس كمن سمع».

* عمان التاريخ

* إذا كانت البترا موضع فخر الأردن لعقود خلت، فإنه ما من شك أن عمان انضمت إليها بكل أجزائها الثلاثة، القديمة والحديثة والمستحدثة، النابضة بالحيوية الإبداعية والرغبة في معانقة العصر وتطوراته، وهو الأمر الذي تلمسه بمجرد أن تخرج من المطار القديم والصغير، حيث تطالعك عمليات توسع تبشر ببناء محطة جديدة في مطار المدينة، مستوحاة من التراث البدوي الأردني.

من أعالي جبل القلعة، أقدم التلال المأهولة بالسكان في عمان، تطالعك الأقسام التقليدية للمدينة. تعيد جمع أرخبيل جف من المياه بينما تمتد التلال الشاهقة والوديان العميقة المكسوة بلحاف من المنازل المربعة الأحادية اللون، المبنية من أحجار باهتة استخرجت من المقالع خارج المدينة. أما قمة جبل القلعة فتتشكل من الأعمدة والجدران التي بناها اليونانيون أولا، والرومان من بعدهم. ومع ذلك من السهل أن تكون انطباعا خاطئا عن عمان، إذ صحيح أنها كانت مأهولة بالسكان قبل مجيء الإسكندر الكبير إلى المنطقة، لكنها لا تعتبر مدينة قديمة كما هي حال القدس أو دمشق. فعندما وصل أمير الأردن الذي تم تعيينه حديثا إلى عمان في العشرينات من القرن الماضي، كانت المدينة عبارة عن قرية صغيرة، شبه منسية، رابضة على حوافّ الصحراء يقيم فيها نحو 15 ألف نسمة فقط. ومع الوقت توسعت وسط التلال والوديان لتصبح اليوم عاصمة من نحو مليوني شخص.

بالإضافة إلى عمان القديمة عند جبل القلعة، وعمان الحديثة، سيكون باستطاعة الزوار التجول لاستكشاف عمان الثالثة، نزولا على طول الشارع الرئيسي لجبل عمان وسط المدينة الجديدة، بين القصور القديمة للملوك الأوائل، ومبنى البرلمان الأول، ومن ثم مبنى رئاسة الوزراء، سيصادفهم جسر عصري صمم بشكل انسيابي على هيئة حرف «S»، فيصل بهم إلى وادٍ آخر يدخل حي عبدون. هنا تبدأ عمان الثالثة، حيث تختلط السفارات مع محلات الفخاريات التقليدية، وتقوم فيه المطاعم الفاخرة بمحاذاة دور الأزياء الراقية. لفترة طويلة خلت، كانت عمان الأولى والثانية والثالثة منفصلة كل واحدة عن الأخرى. فكان السياح يقصدون الآثار، في حين يقيم السكان التقليديون في الأحياء المحيطة بجبل القلعة، ويعيش المواطنون الميالون إلى الغرب في المجتمعات العصرية الحديثة. ولكن، بعد نمو عمان كعاصمة، أصبح السكان والزوار على حد سواء يقدرون الهندسة المعمارية للمدينة وأحيائها التي تتداخل في انسياب مثير.

* نهضة مدنية ما بين العصرية والتقليد

* على مر السنوات العشر الأخيرة، وقفت عمان في مواجهة التغيير. فعوضا عن أن يتوجه الشباب الأردنيون إلى بيروت لصناعة الموسيقى أو إلى القاهرة لصناعة الأفلام، أو إلى دبي لريادة الأعمال، آثروا البقاء فيها ليعمروها بالمعارض الفنية. فالآن يلاحظ الزائر المهتم بالفن بأنها تغص بأعمال فنية تحمل توقيع فنانين أردنيين وبكم من المعارض مثل «ناباد» الواقع في مبنى قديم وجميل، و«جاكاراندا» المعرض الفني الصغير الذي يقدم عروضا لأفضل الفنانين الصاعدين في الأردن. وأسهمت المطاعم الجديدة، مثل مطعم «سفرة»، بأطباقها المحلية المبتكرة على الطراز البيتي في الترويج لسمعة المدينة الطيبة كوجهة جديدة وجذابة. وأعاد المصممون المعماريون ابتكار المشهد المدني من خلال إنشاء مبانٍ جديدة تحترم التعرجات العضوية للمدينة القديمة من دون أن يتجاهلوا إعادة إحياء الهندسة المعمارية للثلاثينات والأربعينات من القرن العشرين. وهكذا دخلت عمان عصرا جديدا كمدينة شابة تتحول شيئا فشيا إلى وجهة سفر مقصودة ومرغوبة.

اللافت أيضا فيها أنها مدينة تعيد اكتشاف تراثها باعتزاز كبير، فسحر عمان القديمة لا يزال حيا بين الشوارع الضيقة المرصوفة بالحصى التي تمهد الطريق عبر الأحياء الحديثة. ولعل التحول الأبرز فيها خلال السنوات الماضية يتمثل في إعادة تجديد شارع قوس قزح في جبل عمان. وكان ذاك الشارع الذي ينبسط على امتداد كيلومتر واحد رمزا لتاريخ المدينة، يغص بمنازل بعض أهم العائلات، بما فيها من مساكن ملكية سابقة، وتم تحويل هذا الشارع والحي الصغير المحيط به إلى شارع للمشاة يمكن التنزه فيه بكل أمان، حيث تنتشر أفضل مقاهي المدينة وأرقى مطاعمها، بما في ذلك مطعم «سفرة» الذي يقدم أمثلة شهية عن الطعام المنزلي، و«بيسترو وان»، وهو مطعم حديث مع نفحة من ماضي الأردن العريق في عالم الطبخ.

انطلاقا من شارع قوس قزح، يمكن للزوار تأمل جبل اللويبدة، وهو هضبة أخرى من هضاب عمان القديمة، حيث تشهد المدينة ازدهارا لمشهدها الفني. ومن بين المعارض البارزة دارة الفنون، التي تتضمن مجموعة من المنازل التقليدية الأنيقة والمعارض الفنية الكثيرة. وتشكل هذه الدارة نقطة لقاء بين عمان القديمة وعمان الحديثة. في القسم الأقدم من المدينة، ويطلق عليه العمانيون اسم «البلد»، شيد متحف جديد يعرض التراث الأضخم الأثري والثقافي. يضم المبنى الأنيق، ويطلق عليه عن حق اسم «متحف الأردن»، تاريخ البلاد من خلال المنتجات، من العصر الحجري وصولا إلى العصر الحديث. فتكشف الفخاريات، وأعمال الفسيفساء، والأعمدة، والتماثيل والأدوات من مختلف الثقافات التي كونت الأردن، الكثير عن البلاد العصرية. جدير بالذكر أن عددا كبيرا من هذه التحف يعرض للمرة الأولى.

إذا كانت عمان مفاجأة يتآلف حاضرها ومستقبلها مع ماضيها، فإن مدينة البترا القديمة تبقى تحفة للعين ومشهدا لا تكتمل زيارة الأردن من دون زيارته رغم بعد المسافة، التي قد تستغرق أربع ساعات بالسيارة. فهي تختبئ بعمق في الصحراء، وقد ازدهرت كمفترق طرق للتجارة لأنها توفر مكانا آمنا للحرفيين. ولعل أفضل معالمها الخزنة الشهيرة بنقشها البارز في فيلم «إنديانا جونز والحملة الصليبية الأخيرة» الذي لا يمثل إلا نقطة في بحر ما ستقدمه المدينة. معظم البنى منقوشة انطلاقا من الحجر الرملي الذي يمنح المدينة اسمها «الحمراء الوردية». وتتأثر مئات الواجهات بثقافات مصر، وأشور، واليونان، وروما. كما تتأثر بجماليات الأنباط المحلية، التي تتعرف عليها في معبد جرى تجديده حديثا يتميز بأعمدة ذات تيجان مزينة بالفيلة.