رحلة في أعماق لحظات أوروبا مع التاريخ

أماكن تفقد بها ذاتك وتتفقد في أروقتها الماضي

مدينة فيرساي الفرنسية التاريخية
TT

من الشائع إلى حد كبير أن تضل طريقك في المدن الأوروبية، بشوارعها الضيقة الملتوية التي يبدو أنه قد ميزتها لفترة طويلة قطعان الخراف المبهرة قبل أن تميزها السياحة واسعة النطاق؛ تلك العلامات المثيرة للحيرة المكتوبة بلغات غريبة؛ والسكان المحليون الذين أحيانا ما يتظاهرون بعدم الفهم، حتى عندما يفهمون. غير أن التسكع بلا هدف يمكن أن يمثل هدفا في حد ذاته. فما الوسيلة الأخرى التي يستطيع من خلالها الفرد التعرف على المخابز الاستثنائية ومتاجر الآثار القديمة المليئة بدمى غريبة وتلك المقهى المدهشة، والوجه الصيني المستدير المثالي المتوهج أمام لوحة للموناليزا؟

كنت محظوظا بالدرجة الكافية كي أعمل مراسلا أجنبيا على مدار معظم فترة الثلاثين عاما الماضية - في أوروبا وجنوب شرقي آسيا وروسيا والشرق الأوسط، ثم في أوروبا مجددا. الآن أشغل منصب رئيس مكتب باريس. لقد حاولت دائما أن أجد بعضا من أماكن الراحة والتأمل التي يمكنني النظر إليها باعتبارها خاصتي. لا يتوقف أحد في حقيقة الأمر عن أن يكون سائحا. إنني مقتنع بذلك، باحثا عن تلك الذاكرة المميزة أو الرابطة التي تجعل مدينة أيقونية تبدو ذات طابع شخصي، على الأقل لفترة وجيزة.

وفي مدن على غرار باريس وبرلين وبراغ، كنت سعيدا بالعثور على أماكن يخبو معها ضجيج الجماهير الضخمة ببطء، أماكن يمكنني أن أفقد فيها ذاتي، تلك هي المسألة.

يمكن أن يحدث ذلك في متنزه أو حديقة، وفي وسط مدينة أيضا. لكن في المعتاد، بالنسبة لي، تأتي هذه اللحظات من التواصل من مواجهة مع الماضي تنتج صدمة فهم، نوع مما أطلق عليه عالم سابق اسم «سلسلة الوجود العظيمة».

ذاكرة عزيزة على النفس: التجول في أرجاء مدينة فرساي في ساعة الراحة - مع غروب الشمس على الحدائق الاستثنائية - وتأمل قرية لا رين، تلك القرية ذات الجمال الأخاذ التي أنشأتها ماري أنطوانيت لنفسها. كانت أيضا مزرعة، مكانا يمكنها أن تتظاهر فيه بأنها عاملة عادية في مصنع للبن.

في ذلك الوقت، لم أكن متأكدا من المكان الذي كنت فيه، ولم يكن هناك أحد على مقربة. بدا المكان يتسم بالخصوصية ويأسر الألباب: جمال الحدائق وغرابة هذه المباني المتواضعة الموجودة في مثل هذه المحيطات النادرة؛ مأساة الملكة، التي تظهر في رداء فلاحة، بما تحمله من دلاء اللبن المصنوعة من البورسلين الفرنسي المطلية بشعار النبالة خاصتها. من الصعوبة بمكان، بصرف النظر عن كم الكتب التي قرأها الفرد، التعرف على عادات وأنماط شخص ما بعيد جدا وشديد الثراء ومكروه من التاريخ، رأسها مقطوع في ميدان الثورة، الذي تم تعديل اسمه إلى «كونكورد» كرمز للمصالحة.

وجدت شعورا مماثلا بالسلام وبالحس التاريخي في باسيليكا في كنيسة سان دينيس في ضاحية متعددة الأعراق مزدحمة مفعمة بالضجيج شمالي باريس بعيدا عن الزخارف وجموع السائحين والبائعين الجائلين في نوتردام. تعود الكنيسة إلى القرن الثاني عشر وينبع جمالها من تحول العمارة الرومانسكية إلى العمارة القوطية. غير أن انجذابي لم يكن للفن المعماري، بل لمجموعة الأضرحة الملكية. هذا هو المكان الذي ووري فيه التراب معظم ملوك فرنسا وأسرهم، وحيث دفنت جثتا لويس السادس عشر وماري أنطوانيت مقطوعتا الرأس.

تعتبر القبور والتوابيت الحجرية رائعة الجمال، لكنها تعمل أيضا كنوع من التذكارات في المشهد الأكبر.

كل هؤلاء الأفراد الأقوياء، الذين كان يعتقد أنهم متمتعون بعطايا من الرب، لقوا عند الموت مصيرا أسوأ من الفلاحين. أثناء الثورة، تم نبش القبور وأخذ الجثث ودفنها في قبور ضخمة وتغطيتها بالجير. أعاد نابليون افتتاح الكنيسة، ولكنه ترك العظام حيث كانت؛ فقط في عام 1817، تم فتح الحفر وتم نقل أجزاء من الهياكل العظمية الملكية، المكدسة معا، إلى مستودع تحفظ فيه عظام الموتى في الكنيسة. وفقط في عام 2004، تم دفن القلب المحنط للابن الأكبر للملك الفرنسي – الذي كان من المفترض أن يكون لويس السابع عشر، لكنه سجن من سن السابعة حتى وفاته في سن العاشرة – في سرداب في الكنيسة.

أثناء الثورة، تم إنقاذ القبور نفسها باسم الفن، عندما تم انتهاك حرمة الجثث باسم المساواة والأخوة والحرية. الأمر ربما يستحق التفكير وربما القيام بزيارة، خاصة عندما يظهر أن شخصا ما يرى باريس معاصرة أكثر واقعية: أفقر، أكثر تشعبا من الناحية العرقية وأكبر في تعداد السكان من المسلمين، وبمعظم الصور، أكثر حيوية مما يواجهه الشخص في شارع ريفولي أو في سان جيرمان.

ثمة مواقع مماثلة بمختلف أنحاء أوروبا، حيث تجتمع ذكرياتي مع التاريخ. في إحدى ليالي الشتاء في براغ، وبعد أشهر من تغطية أخبار حرب كوسوفو، تجولت عبر أنحاء شواهد القبور المزدحمة بالمقبرة اليهودية، حيث يقال إن الحاخام اليهودي الذي قد بنى تمثالا لوحش من الطين لحماية يهود براغ – مدفون. تعتبر براغ مكانا غريبا، مدينة يهودية من دون يهود، يظهر فيها الأشباح من وراء الواجهات المطلية بألوان زاهية لمدينة تعتبر أبهى المدن وأكثرها سكنا بالأشباح.

وفي برلين، في مدينة أخرى مسكونة بالأشباح، زرتها لأول مرة في عام 1981، يوجد النصب التذكاري لمذبحة الهولوكوست من تصميم بيتر آيزنمان الذي يتعرض لانتقادات كثيرة، وتقف الأحجار بزوايا غريبة مثل المقبرة في براغ. توجه للنصب التذكاري انتقادات على نحو خاطئ؛ يتعين على المرء الذهاب إلى هناك ومشاهدة كيف يستخدم أهالي برلين، وليس فقط السائحون، المكان. وبالجلوس على الألواح الحجرية، لا يمكن لأحد أن ينسى ما تمثله. حتى وسط العدد الهائل من الزائرين، في أعماق متاهة تلك الأحجار، التي يرتفع بعضها لأعلى رأسك بمسافة كبيرة، يمكنك أن تشعر بالضياع التام والوحدة الشديدة، وأن تكون ممتنا للتعرف على أوروبا جديدة وألمانيا جديدة.

ويعتبر أحد أماكني المفضلة في برلين أكثر غموضا بكثير – مبنى متواضع يقبع في أعماق شرقي برلين.

كان المبنى، الذي كان من قبل مطعما لضباط الجيش الألماني، هو الموقع الذي أقام فيه الجيش السوفياتي مواقعه في أبريل (نيسان) 1945 وقبل استسلام ألمانيا في عهد النازي، عشية يوم 8 مايو (أيار). سجل الاستسلام النهاية الحقيقية للحرب الأوروبية التي لقي فيها الملايين مصرعهم.

وحتى عام 1994، كان المبنى مصونا من قبل السوفيات، مع وجود دبابة بالخارج وبعض المعارض ولوحة تذكارية. والآن، يبقى مهجورا، نوعا من رفات أوزيماندياس «توصية»، مثلما كتبت مارثا كوهلمان من جامعة بريانت من قبل، «بالنسبة لألماني لم يعد على قيد الحياة، وملكا لروسيا التي لم تعد موجودة».

غير أنه أيضا يعد تذكرة بما ضحى به الاتحاد السوفياتي لهزيمة النازيين، إذ إن شكلا من أشكال الفاشية التهم آخر في نهاية الأمر، وأصبحت الحرب الساخنة هي الحرب الباردة التي قسمت أوروبا وميزت جانبا كبيرا جدا من مراحل حياتي العملية الأولى. ومع التقارب الغريب من موسكو، تغير الاسم من متحف الاستسلام غير المشروط – وهو اسم حفز كاتبة بارعة، وهي الكرواتية دوبرافكا أوغريسيك، على استخدامه عنوانا مثيرا لرواية عن النفي والتاريخ - إلى اسم واقعي لا يحمل أي لمسة خيالية، وهو المتحف الألماني - الروسي بكارلشورست في برلين.

وتعتبر أمستردام إحدى غرائب أوروبا – جمال القنوات والدراجات التي تسير بسرعة هائلة والتذكرة المستمرة بطاقة المياه والرياح. يمكن أن تعج شوارعها الضيقة وجسورها بالسائحين، غير أن ثمة منطقة واحدة صغيرة على الأقل للراحة. وتعتبر بغيجنهوف إحدى الباحات الداخلية القليلة المتبقية في أمستردام وتضم أقدم منزل في المدينة، «إت هوتين هويز» (المنزل الخشبي)، الذي يعتقد أنه يعود لعام 1420 أو نحو ذلك. وله واجهة خشبية، ما زال واحدا من منزلين خشبيين على هذه الشاكلة باقيين في أمستردام.

يذكرني هذا بإحدى أكثر اللوحات الغريبة لفيرمير، لوحة مشهد لشارع تعرف باسم «الشارع الصغير»، الذي يظهر اليوم في المتحف الوطني الذي لا نظير له في أمستردام. وكانت الساحة مخصصة للبيغوين، وهي طبقة من الراهبات العلمانيات الكاثوليكيات الرومانيات، اللائي لم يكن راهبات ولكنهن نذرن حياتهن للرهبنة.

اليوم، تعتبر الباحة صدمة في هدوئها، مع وجود منازل جميلة حول رقعة ضخمة من المروج. وبالقرب من المدخل المنخفض، توجد كنيستان متواجهتان، إحداهما كاثوليكية رومانية والأخرى إنجليزية بروتستانتية. كانت تقام في الكنيستين القداسات والحفلات الصغيرة. ولكن في انعكاس للحروب الدينية التي اجتاحت أنحاء أوروبا من قبل (والتي تذكرني بشكل مؤكد بالشرق الأوسط اليوم)، كانت الكنيسة الإنجليزية هي الكنيسة الكاثوليكية، التي تم تسليمها للبروتستانت. أنشئت الكنيسة الكاثوليكية لاحقا سرا.

يضم قبر منبثق عن ممر الطوب رفات إحدى راهبات البيغين، وهي كورنيليا أرينز، التي توفيت في عام 1654. وبدلا من أن ترقد في سلام في الكنيسة الكاثوليكية التي اعتبرتها «دنست» من قبل المنتمين للكنيسة المشيخية، اختارت أن تدفن في بالوعة بالباحة. أقدر شراستها وإيمانها وإنكارها لذاتها، وفوق كل هذا، تمردها.

غير أن المواقع التاريخية ليست هي الأماكن الوحيدة التي فقدت نفسي فيها. فبإمكان مطعم مدار بشكل جيد أن يحقق لك بغيتك. بالنظر إلى موضوع التاريخ والجمال، أقترح القيام بجولة طويلة عبر حدائق القصر الملكي في باريس، وهو المكان الذي يقال إن نابليون أقام به أولى علاقاته الجنسية مع واحدة من الغواني اللائي ترددن على المكان. بعدها، اترك كل شيء واذهب لتناول العشاء مع من تحب في مطعم «لو غراند فيفور»، على الطرف الشمالي الغربي من القصر الملكي. ويعتبر واحدا من أقدم المطاعم في العاصمة – الذي يقال إنه يعود إلى عام 1784، والذي تكتسي حوائطه بالأشغال الخشبية والمرايا ولوحات براقة لأسماك وورود تحت الزجاج. ولا يعتبر هذا فقط من بين أبهى المطاعم في العاصمة، ولكنه يحمل أيضا نجمتي ميشلان ويدار بحكمة وكياسة، بل وبسحر. تناول شيئا استثنائيا مثل سمك الترس أو سان بيير (جون دوري) أو فطائر الفوا غرا الشهيرة بالجبن والصلصة الحمراء مع صوص كريمة الشوكولاته. بالطبع ستكون هناك فاتورة يجب دفعها، وكما هو الحال في جميع مطاعم باريس الباهظة، ربما يتحدث من هم إلى جوارك بلغتك. ولكن لبضع ساعات، يمكنك أن تفقد نفسك بسعادة في عالم مصطنع تماما يسجل أيضا لحظة من الحضارة الرفيعة.

* خدمة «نيويورك تايمز»