برلين.. تتأرجح بين الحزن والفرح وعينها على المستقبل

تسعى جاهدة لنفض غبار الحرب وتبعاتها «الباردة» عن نفسها

رحلات نهرية وزيارات تاريخية رائعة في برلين («الشرق الأوسط»)
TT

لحظة الوصول إلى برلين خصوصا لمن زار لندن أو باريس أو روما سابقا، ربما تكون مخيبة للآمال للوهلة الأولى، فهي مختلفة تماما عن الفكرة النمطية المعروفة عن العواصم الأوروبية التي تزين شوارعها مبان كلاسيكية رائعة وساحرة تخلب الألباب، يعود بعضها إلى قرون مضت وشوارع ضيقة وأرصفة أضيق بالكاد تتسع للمارة. فالعاصمة الألمانية مكتظة بأبنية حديثة ذات تصميمات عجيبة غريبة قد يخلو بعضها من أي لمحة جمالية، انطلقت حملة بنائها منذ ستينات القرن الماضي بعد أن دمرت قوات الحلفاء نحو 80 في المائة من المدينة خلال الحرب العالمية الثانية، بينما تحاكي مبان أخرى أحدث الطرز المعمارية التي يستحسنها عشاق الحداثة.

لكن هل هذه حقا برلين؟ أم أن لهذه المدينة حكاية أو ربما حكايات أخرى؟ بمجرد تجولك لساعات قلائل فيها ستلغي الانطباع الأول فورا، وتكتشف أنها أكبر بكثير من مجرد كتل خرسانيية. فهي مدينة رائعة تجمع متناقضات كثيرة قلما تجتمع في مدينة أخرى، تزاوج بين الحزن والسرور وبين الماضي والحاضر وبين الحرب والسلام، لتجد نفسك أسير سحرها وجمالها الأخاذ، فحتى الأبنية الحديثة التي غزت شوارعها لتملأ شاغر البنايات التي دمرتها الحرب، تروي حكايات وذكريات سكان برلين وأحزانهم، التي ما زالت تكتنف صدورهم جراء مرارة الحرب رغم مرور عقود من الزمان، وتسجل رحيل مدينة لم يتبق منها إلا القليل.

برلين تستقطب السياح من كل أنحاء المعمورة لا لطبيعتها الخلابة فحسب، بل كي يعايشوا تاريخا ما زال ماثلا في الذاكرة وغير بعيد عنا يعكس ما خلفته الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، والحرب الباردة وتداعياتها التي تجسدت في تقسيم ألمانيا إلى دولتين، جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية)، وألمانيا الاتحادية (الغربية)، ثم الضربة القاصمة بقرار تقسيم برلين الجميلة إلى شطرين بجدار خرساني أقل ما يمكن وصفه بـ«القبيح». وهنا تكمن خصوصية هذه المدينة فهي تخالف بذلك معظم العواصم وبقية المدن الأوروبية التي تنشط في قطاع السياحة باعتمادها بالدرجة الأولى على تاريخها البعيد وأساطير ملوكها وقادتها لجذب الزوار.

* رحلة الحافلة

* رغم أن البعض قد يعتبرك «سائحا كسولا» فإن أفضل طريقة للتجول في شوارع برلين وأخذ لمحة سريعة عنها، هي بركوب الحافلات المخصصة للسياح والتي تجوب المدينة طولا وعرضا وتقف في مناطق محددة ومعلومة (تتجاوز الـ20 محطة) في خريطة تتسلمها حالما تدفع ثمن تذكرة الرحلة ليوم واحد (20 يورو) أو ليومين (22 يورو). تركب الحافلة وتضع سماعة الأذن وتختار اللغة التي تريد لسماع الشرح والتعليقات عن أهم وأبرز المعالم السياحية والتاريخية والمتاحف والأسواق والكنائس والقصور التي تمر بها الحافلة لتبدأ من هنا رحلة المتعة. وإذا قررت زيارة مكان بعينه والبقاء فيه لبعض الوقت وربما تناول وجبة طعام في المقاهي والمطاعم المنتشرة على مقربة بإمكانك الترجل من الحافلة ثم الصعود إليها مرة أخرى باستخدام نفس التذكرة. وهذا سيغنيك عن ركوب وسائل النقل الأخرى أو المشي لمسافات طويلة جدا كما سيوفر لك معلومات ثرية، ولو موجزة، عن كل مكان تمر فيه الحافلة عبر الشرح الصوتي.

* حكاية الجدار

* قبل أي معلم سياحي مهم كنت تخطط لرؤيته في برلين، حتى لو كان متحف برلين نفسه أو بوابة براندنبورغ الشهيرة، ستجد نفسك مشدودا رغما عنك إلى ما تبقى من جدار برلين وسيدهشك بقوة هذا الحائط الإسمنتي الذي أبقت السلطات الألمانية على أجزاء كبيرة منه في أنحاء متفرقة من المدينة بعد انهياره كي يكون شاهدا على حقبة سوداء في تاريخ ألمانيا. وكلما أطلت النظر إلى قطعه الإسمنتية التي يبلغ ارتفاع الواحدة منها أكثر من 3 أمتار ونصف المتر والرسومات التي تزينها، سيرد في خاطرك عشرات الصور لمئات وربما آلاف من سكان ألمانيا الشرقية غامروا بحياتهم لعبور هذا الجدار منذ إنشائه عام 1961 وحتى انهياره في 1989، منهم من أفلح ومنهم من قضى نحبه برصاص الحراس أو غرقا بعبور نهر شبري أو نهشته كلاب الحراسة.

باختصار شديد، أقامت السلطات في ألمانيا الشرقية الجدار بين ليلة وضحاها وبلغ طوله الكلي 155 كيلومترا منها 43 كيلومترا تفصل برلين الشرقية عن الغربية من الشمال وحتى الجنوب، أما ما تبقى من الجدار (112 كيلومترا) فيعزل برلين الغربية عن محيطها في ألمانيا الشرقية. ودأبت السلطات في ألمانيا الشرقية على تعزيز الجدار طوال الوقت منعا للتسلل حتى سقوطه التاريخي بعد 28 عاما من بنائه، مع انهيار الكتلة الشيوعية، ما خلا بعض نقاط العبور التي سمحت بها للدبلوماسيين والعسكريين.

وفي برلين اليوم هناك 3 أماكن رئيسة ما زال الجدار قائما فيها تحولت إلى مواقع سياحية، الأول في ساحة بوتسدام الشهيرة التي تعتبر من أهم ميادين العاصمة الألمانية والتي تفتخر بنصب أول إشارة ضوئية في أوروبا بها لتنظيم حركة المرور وذلك عام 1924. وتجد السياح هناك يتحلقون حول قطع الجدار المزدانة بالرسوم وأخرى توضيحية لمسار الجدار وتاريخه وضحاياه. والثاني وهو واحد من أطول الأجزاء المتبقية من الجدار والذي لم يتعرض لأي محاولة للتدمير يقع في شارع «نيدركيرشن»، وتم الاحتفاظ بهذا الجزء من الجدار تحديدا لأنه يمر بمحاذاة أطلال مقر الشرطة السرية في عهد النازية المعروفة بالـ«غستابو» والذي سوته بالأرض لاحقا غارات قوات الحلفاء عام 1945. ويحتضن الجدار متحفا مفتوحا بعنوان «طوبوغرافيا الرعب»، حيث يستعرض تاريخ القمع في ظل النازية من عام 1933 - 1945 كما يعرض أعمدة خرسانية مدمرة من مدخل مقر الـ«غستابو». أما الجزء الثالث المتبقي من الجدار فيمتد بطول 1.3 كيلومتر بمحاذاة نهر شبري في الجزء الشرقي من برلين ويطلق عليه «معرض الطرف الشرقي» بعد أن رسم فنانون من مختلف أنحاء العالم نحو 105 لوحات على جانبيه.

* نقطة تفتيش تشارلي

* إذا لم تكن قد شعرت بالتخمة بعد من جدار برلين فإن رحلتك معه لم تنته حتى الآن، إذ عليك أن تزور ربما أشهر نقطة تفتيش في العالم ورمزا من رموز الحرب الباردة والمواجهات غير المعلنة بين الروس والأميركيين آنذاك، ألا وهي نقطة تفتيش تشارلي أو بالإنجليزية «تشك بوينت تشارلي» والتي تربط بين شارعين مهمين وسط برلين «فريدرش» و«زمر». ونقطة التفتيش كانت في يوم من الأيام إحدى نقاط عبور الدبلوماسيين وقوات الحلفاء والتي تفصل بين شطري المدينة الشرقي تحت قيادة الروس والغربي بقيادة الأميركيين والبريطانيين. ولكن لا تقلق فآثار تلك الحرب زالت إلى الأبد من وسط برلين واليوم نقطة التفتيش هذه ما هي إلا معلم سياحي على جانبيه عشرات المقاهي والمطاعم. وهناك بإمكانك زيارة متحف تشك بوينت تشارلي الذي يروي مرة أخرى تاريخ جدار برلين ويستعرض بالصور والوثائق حالات الفرار الناجحة عبره وأساليبها.

* البحث عن هتلر

* أين هتلر؟ سؤال يطرح نفسه في برلين، وستستنتج بسهولة أن سكان هذه المدينة يسعون إلى محوه من ذاكرتهم إلى الأبد وكأن لسان حالهم يقول: «لا مكان لهتلر»، رغم مرور نحو سبعة عقود على رحيله. واليوم لا تجد سوى صور لاجتماعاته وبقية أنشطته معروضة على استحياء ومضض في المتاحف. أما إذا كنت مهووسا بزيارة مخبئه الأخير المعروف بـ«قبو هتلر»، حيث قضى أيامه الأخيرة هناك فلن تعثر عليه بسهولة، فحتى إشارات الشارع تتجاهل ذكره. وعندما تصل فلن تجد سوى قطعة معدنية تشير إلى أن هذا قبو هتلر بعد أن دكت طائرات التحالف أركانه ودمرت معظم ممراته ولم يتبق منها إلا النزر اليسير وحتى هذا فهو غير مفتوح أمام الزوار، ويرجع جزء من ذلك إلى خشية السلطات الألمانية من أن يتحول إلى «مزار» للنازيين الجدد. ويقع القبو على مقربة من نصب ضحايا المحرقة النازية (الهولوكوست) وهو ليس ببعيد عن بوابة براندنبورغ العملاقة في قلب برلين.

* جزيرة المتاحف

* من منا لم يسمع بمتحف برلين؟ لكنه في الواقع ليس متحفا واحدا، بل يتألف من 5 متاحف رئيسة في منطقة يطلق عليها «جزيرة المتاحف» في شارع أونتر دن لندن، أحد أشهر شوارع برلين. تعرض الكثير منها للتدمير خلال الحرب وأعيد ترميمها على مر العقود الماضية. أولها «المتحف القديم»، ويضم كلاسيكيات الآثار العالمية منها الإغريقية، والثاني «المتحف الحديث» الذي يضم آثارا من الحضارة المصرية القديمة أبرزها تمثال نصفي للملكة نفرتيتي. والثالث «المعرض الوطني القديم» ويضم أعمالا وقطعا فنية تعود للقرن التاسع عشر، والرابع «متحف بودة» وخصص لعرض تماثيل من الحضارة البيزنطية، والأخير «متحف بيرغامون» ويستعرض حضارة الشرق الأوسط القديم والحضارة الإسلامية.

وإذا لم يتسن لك الوقت الكافي لزيارة جميع هذه المتاحف فلا بد من زيارة متحف بيرغامون على الأقل الذي يعتبر من أعظم متاحف برلين وربما في العالم أسره ولا ينافسه في ذلك سوى المتحف البريطاني في لندن، إذ يضم مجموعة من أهم القطع الأثرية في العالم بينها بوابة عشتار، أحد معالم مدينة بابل الأثرية. كما يحتضن بين الحين والآخر معارض خاصة آخرها عن مدينة الوركاء الأثرية في جنوب العراق بمناسبة مرور 5000 سنة على إنشائها، وسيستمر المعرض حتى سبتمبر (أيلول) المقبل. وبالإضافة إلى متحف برلين هناك عشرات المتاحف المهمة الأخرى التي عليك زيارتها مثل المتحف اليهودي عن ضحايا الهولوكوست.

* الأصالة والحداثة تتنافسان

* إذا تعبت من التجوال داخل المتاحف فخارجها لا يقل روعة، إذ إن شوارع برلين هي في حد ذاتها متحف مفتوح تتنافس أو ربما تتعانق على جانبيها مبان ومعالم سياحية كثيرة كلاسيكية وحديثة لا بد من زيارتها، أولها بوابة براندنبورغ التي شيدت أواخر القرن الثامن عشر كرمز للنصر والسلام، وعلى مقربة منها مقر البرلمان الألماني المعروف بـ«رايشستاغ» وبالطبع لا يمكن إغفال كاتدرائية برلين التي يعود تاريخها إلى عام 1451 ومبنى دار الأوبرا شديد الروعة. وجميع هذه الأبنية لم تسلم بدورها من التدمير وأعيد إعمارها على مراحل مع الحفاظ على طرازها الأصلي.

وإذا مللت من القديم فكل ما هو حديث بانتظارك أيضا من المراكز الفنية إلى برج التلفزيون في ساحة ألكسندر ومركز «سوني» الذي افتتح عام 2000 قرب ساحة بوتسدام، ويعتبر أحد مفاخر برلين إذ يضم مقاهي ومطاعم وشركات ومصارف. وهناك أيضا مبنى المستشارية الذي أعيد بناؤه وفق الطراز المعماري الحديث. وإذا أردت اكتشاف الوجه الآخر لبرلين فما عليك إلا ركوب إحدى الحافلات النهرية وما أكثرها في العاصمة الألمانية التي تضم شبكة من القنوات المائية ترتبط بدورها بنهر شبري الذي يشق برلين إلى نصفين.

* شوارع برلين الخلفية

* تسمية «شوارع برلين الخلفية» أصبحت مرادفا للحي القديم في برلين وهو ضمن أحياء قليلة حافظت على وجودها واجتازت الحرب بسلام فلم تستهدفها غارات الحلفاء، على ما يبدو، حسب اتفاق بين تلك الدول إذ كانت تسكنها آنذاك غالبية يهودية. ولم يتبق الكثير لتلك الجالية الآن سوى معبد ومقبرة. وإذا كنت تحب المشي فقد حانت اللحظة الآن لأن أفضل طريقة لاكتشاف جمالية هذا الحي الذي يقع ضمن قطاع «المته» أو الوسط في برلين، هو السير مشيا على الأقدام، فعلى جانبيه تنتشر مقاه صغيرة تضفي حميمية على المكان ومطاعم تقدم مأكولات عالمية وبأسعار معقولة، ومكتبات تعرض واجهاتها كتبا مستعلمة وأسطوانات قديمة، بينما أصص الزهور ذات الألوان الزاهية تطل من النوافذ والشرفات لتشكل لوحة فنية زاخرة بالألوان تنسجم مع المنازل العتيقة، وتتفاعل مع كتابات «الغرافيتي» والرسومات التي وجدت لها حيزا كبيرا على جدران تلك المنازل وكأنها تستنسخ جدار برلين.

وأقصر طريق للوصول إلى هذا الحي هو من ساحة «ألكسندر بلاتس»، التي تعتبر واحدة من أهم ساحات برلين، ولا يمكن إغفالها حتما عن برنامج الزيارة، فهي عصب برلين وروحها إذ تتفرع منها شبكة مواصلات معقدة كما أنها تضم برج التلفزيون، الذي يعتبر واحدا من أعلى المباني في أوروبا الغربية، ناهيك بأسواقها ومطاعمها. وينصح السياح عادة بالإقامة على مقربة من هذه الساحة فهي قلب برلين النابض.

* «شانزليزيه» برلين

* قبل أن تغادر لا بد من قليل من التسوق، وبرلين كأي مدينة عالمية تعج بالأسواق الراقية والشعبية، لكنك إن سألت أي شخص حول أفضل مكان للتبضع فسينصحك بالتوجه إلى شارع «كورفورشتندام» أو كما يعرف محليا بـ«كو دام». ويشبه كثيرون الشارع بجادة الشانزليزيه الشهيرة في باريس، فهو شارع عريض تحفه الأشجار ويمتد لأكثر من 3 كيلومترات على جانبيه عشرات المحال التجارية والمطاعم والفنادق ومعارض السيارات والشقق السكنية، وهناك حتما ستجد ضالتك.

* وداعا برلين

* تحين ساعة الرحيل وتحزم حقائبك بأسف لانتهاء زيارتك إلى برلين لكنك ستجد نفسك حتما تفكر بزيارتها مرة أخرى فسكانها يتميزون بـ«الكياسة» ويجيدون الإنجليزية بطلاقة مما يسهل عليك التواصل معهم ويجيبون بلطف عن أسئلة الغرباء على عكس ما يشاع عن الألمان من «فظاظة» ويبدو أن جيل الشباب يحاول جاهدا أن ينفض عن نفسه غبار حقبة من تاريخ أمته لم يكن له فيها صوت.