الغطس في لبنان.. رسائل تاريخية من تحت الماء

نوع شائق من السياحة واكتشافات مثيرة عديدة

«سياحة الغوص على حطام الغواصة».. السفلير
TT

تمثل آبار المياه الكبريتية الساخنة في قاع بحر مدينة صور (جنوب لبنان) ظاهرة طبيعية وجمالية وطبية انفرد بها البحر اللبناني، وهي تشكل إلى جانب فوارات المياه العذبة الباردة مع الآثار الغارقة من مدن وسفن وغواصات وطائرات قديمة منتشرة في قاع البحر اللبناني من أقصى شماله إلى أقصى جنوبه، ثروات قل نظيرها في المنطقة. وبالطبع لا يمكن تأمل كل ذلك إلا من خلال «رياضة الغوص» التي يعمل نقيب الغواصين المحترفين في لبنان محمد السارجي منذ عشرين سنة، مع رفاقه لتكوين ما يسمى «سياحة الغوص في لبنان».

يقول السارجي في حديث لـ«الشرق الأوسط» التي التقته في «البيت الأزرق» على شاطئ بلدة الصرفند الجنوبية: «أعتز بالكثير من اكتشافاتي.. فالشاطئ اللبناني غني جدا بالآثار البحرية وقد قمت باكتشاف مدينة صيدون الفينيقية في قاع بحر صيدا عام 1998. وفي عام 2001 قمت باكتشاف مدينة يرموتا الكنعانية الأثرية في قاع بحر الزهراني - الصرفند. وهذان الاكتشافان جرا بالتعاون والشراكة مع الباحث في التاريخ القديم الدكتور يوسف الحوراني».

ويضيف من المكان الذي يتخذه السارجي منطلقا لاستكشافاته البحرية: «يرموتا يعود تاريخها إلى الألف الثاني قبل الميلاد، أما ما غرق من مدينة صور فهو موجود في قاع البحر حول الجهات الثلاث (الشمال والغرب والجنوب) من المدينة اليوم»، لافتا إلى أنها على عمق يتراوح ما بين ثلاثة وأربعة أمتار، وهي تتنوع ما بين الأعمدة الرخامية والطرقات والموانئ وبقايا البناء.

ويشدد على أنه لولا وجود بعض المراجع التاريخية التي وردت في رسائل «تل العمارنة» (نحو 1370 قبل الميلاد) والتي تفيد بأن «يرموتا» كانت مركزا مهما للمصريين وكانت غنية جدا، لما علمنا بوجودها في الأساس.

في المقابل، فإن سياحة الغطس واكتناه أسرار البحار والمحيطات، تعد من الرياضات المائية التي تشد المرء، حيث باتت تكشف مشاهد بحرية ساحرة، وتعرفنا على مكنونات الجمال الطبيعي والبيئي والصخري، وعلى روعة المخلوقات المائية من حيوانية ونباتية.

وبالعودة إلى آبار المياه، فهي تمتاز بعمقها بعددها وأشكالها وضخامتها وغزارة تدفقها، حيث إن بعض فوهاتها التي تشبه الكهوف، تصل إلى الكتلة النارية في باطن الأرض. وفي الوقت الذي يرصد العلماء هذه الآبار في قاع المحيطات وعلى أعماق سحيقة تتعدى آلاف الأمتار، عبر غواصات خاصة، نجد أنها تقع على بعد 4 كلم مقابل شواطئ القاسمية (شمال صور)، بينما عمقها ما بين 36 و60 مترا.

ومع وجود مدن غارقة تحت الماء أمسى الشاطئ اللبناني، منذ سنوات، مقصدا لغطاسين محترفين وهواة وسياح عرب وأجانب ينشدون تصوير ما هدمته الزلازل التي ضربت الساحل اللبناني على مدى العصور، خصوصا في مدينتي صور وصيدا (جنوب لبنان).. فصور المدينة القديمة، التي غرقت في البحر إثر الزلزال الذي ضربها قبل أربعة آلاف سنة، ها هي اليوم تقدم اكتشافا عالميا يكمن في الآبار الكبريتية التي تشكل مشهدا طبيعيا خلابا وساحرا لكل من يغوص لمعاينتها أو تصويرها. وقد أطلق عليها «الكنز الساخن»، إذ إنه «لا مثيل لها في البحر المتوسط كله»، وفق السارجي.

وبعد الركون إلى المراجع التاريخية تبين أن العالم الفرنسي ديبرتيه الذي زار لبنان عام 1842 من قبل الأكاديمية الفرنسية لدراسة الشاطئ اللبناني، كان قد تحدث عن فوارات المياه الساخنة تلك جنوب مصب الليطاني، حيث كان يأتيها الناس من كل لبنان لمعالجة بعض الأمراض.

ويحتفظ السارجي بصور فوتوغرافية وشريط فيديو التقط من قاع البحر لدعم اكتشافه لمنشآت مدينة «يرموتا» في مقر النقابة بحارة صيدا (في مدينة صيدا)، وتظهر فيه الطرقات المتجهة من الشرق نحو الغرب وبقايا لتماثيل ومجسمات مختلفة الأشكال والأحجام.

ويؤكد السارجي أنه يمكن لأي سائح يهوى سياحة الغطس مشاهدتها بالتعاون معه ومع رفاقه، الذين يوفرون أيضا شروط ومستلزمات هذه الرحلات السياحية.

وكان السارجي وفريقه قد اكتشفوا موانئ تاريخية عدة لعبت دورا مهما في الحركة التجارية. ووصلوا إلى قواعد السفن القديمة وهي عبارة عن حجارة منحوتة (Ballast Stones) كانت تتموضع في قعر السفن القديمة بغية الحفاظ على توازنها، لكن بعد غرقها يتأكل الخشب وتختفي السفينة، وتبقى الحجارة في قاع البحر بعد آلاف السنين.

ويعد هذا الاكتشاف إنجازا علميا وتاريخيا للسارجي، فضلا عن اكتشافه عن طريق الصدفة بعض التماثيل الصغيرة والفخارية.

كذلك قام السارجي بتصوير الحيوانات البحرية النادرة كالسلاحف والدلافين والفقمة وكلاب البحر وصولا إلى أسماك القرش التي تعيش في مياه لبنان والمتوسط.

ويمارس السياح هواية الغوص على أعماق تتراوح بين متر و40 مترا للهواة، أما بالنسبة لعمق البحر فهناك أعماق سحيقة تصل إلى أكثر من ثلاثة آلاف متر ويمكن للسائح معاينة الإسفنج والمخلوقات البحرية وفوارات المياه الكلسية والآبار الطبيعية في عمق المياه.

كما ينظم السارجي العديد من دورات الغوص المتعلقة بكافة أنواع الغوص ومنها الغطس التصويري، والليلي، والبيئي، والأثري.

والمعروف أن الغواصين اللبنانيين بذلوا جهودا لتطوير رياضة وسياحة الغوص، فقاموا بعدة استكشافات منها الغواصة الفرنسية «سوفلير» (الغارقة في منطقة خلدة جنوب بيروت)، والطائرة الحربية الإنجليزية قبالة منطقة البياضة (الناقورة) الجنوبية على الحدود مع فلسطين المحتلة، وجعلوها حيزا بحريا مهما وضروريا لعيش المخلوقات البحرية.

وفي النهاية يتمنى السارجي «إقامة متحف لجمع المكتشفات البحرية، ويشكل مكانا نعرض فيه تاريخ أجدادنا»، داعيا إلى تشجيع سياحة الغوص مما سيؤمن موردا سياحيا مهما للبنان، كما يحصل في مصر باعتمادها على رياضة وسياحة الغوص كمصدر للدخل القومي.