إستونيا بلاد التنوع.. من الإدريسي إلى «سكايب»

فيها التاريخ والحضارة والتكنولوجيا

بلاد متنوعة جدا وفيها ارث تاريخي غني
TT

كان في السفينة المحيطية السياحية العملاقة الأنيقة «أميرالد برنسيس» (التابعة لشركة «برنسيس كروز» الأميركية) نحو ثلاثة آلاف سائح. وكانت تجوب الدول المطلة على بحر البلطيق (السويد، النرويج، الدنمارك، ألمانيا، روسيا، فنلندا، ليتوانيا، إستونيا). كانت أغلبية السياح أميركيين، والبقية من دول غربية، مثل بريطانيا وفرنسا. وأيضا، أستراليا ونيوزيلندا. وكان هناك تقريبا 20 لاتينيا أسمر، وتقريبا عشرة أميركيين أفارقة وكنت واحدا من الأفارقة، وربما العربي الوحيد، وربما المسلم الوحيد.

لهذا، عندما وصلت السفينة إلى تالين، عاصمة إستونيا، واستقل نحو 50 سائحا حافلة أنيقة لتجوب معالم المدينة، قال المرشد السياحي إن المدينة قديمة.. «بدليل أن الرحالة المسلم الإدريسي كتب عنها»، التفت نحوي الذين يعرفونني، وتندروا: «هل هو ابن عمك؟»، و«أخيرا، وجدت مسلما مثلك»، و«هل تعرفه؟».

في الحقيقة، ما كنت أعرف عن الإدريسي غير أنه سائح وكاتب قديم. وفوجئت بأنه وصل إلى هنا.

بعد 40 عاما من كتاباتي عن الحضارة الأميركية، بدأت البحث عن جذورها (وجذور كل الحضارة الغربية) في 25 دولة أوروبية. في الكاتدرائيات، والأديرة، والقصور، والقلاع، وساحات الحروب، والمتاحف.

في بعض الدول، توجد بقايا وآثار عربية وإسلامية أثرت على الحضارة الغربية:

أولا: في إسبانيا والبرتغال (منذ أيام الخلافة الأندلسية).

ثانيا: في بلغاريا ودول البلقان (منذ أيام الخلافة التركية).

وتوجد معالم متفرقة في دول أوروبية أخرى. وكتابات السياح العرب والمسلمين، مثل الإدريسي.

ومن المفارقات أن أعرف كثيرا عن الإدريسي من متحف إستونيا التاريخي، في العاصمة تالين. ومن المرشد السياحي الإستوني «بييتر» (بكسر الياء)، والذي قال إنه درس التاريخ في جامعة تالين، بل تخصص في تاريخ إستونيا القديم.

رغم أن «بييتر» افتخر كثيرا بما كتب الإدريسي عن وطنه، كتب الإدريسي أكثر عن فنلندا، الجارة الكبرى. (تقع هلسنكي، عاصمة فنلندا، على مسافة 50 ميلا إلى الشمال).

* من هو؟

هو أبو عبد الله محمد بن محمد الإدريسي الحسني السبتي، ويعود نسبه إلى علي بن أبي طالب، ابن عم النبي (صلى الله عليه وسلم). وأثناء الخلافة الأندلسية، ولد في سبته (في المغرب) عام 1100م. ودرس في قرطبة، ثم صار من كبار الجغرافيين في التاريخ.

كان يلقب بـ«الصقلي»، لأنه هاجر إلى جزيرة صقلية بعد سقوط الخلافة الأندلسية. وكان، أيضا، يلقب بـ«سطرابون العرب»، إشارة إلى الجغرافي اليوناني القديم سطرابون.

واستخدم الأوروبيون كتاباته وخرائطه مع بداية عصر النهضة، خاصة لأنه ركز على تحديد الأنهار، والبحيرات، والمرتفعات، وحدود الدول، والمدن الرئيسة (مثل تالين).

بعد أن سقطت جزيرة صقلية في أيدي المسيحيين النورمانديين، وانتهى الحكم الإسلامي فيها، عاش الإدريسي تحت كفالة الملك روجر الثاني (النورماندي). وهناك، عام 1154. كتب كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق»، وجمع فيه خرائط ومعلومات الشرق والغرب، وذلك لأنه كان زار مصر والسودان والجزيرة العربية والشام وبلاد الرافدين وبلاد فارس والهند والصين وفي أوروبا، زار إيطاليا وفرنسا وروسيا ودول بحر الشمال ودول بحر البلطيق (منها إستونيا).

وسط كثير من الأوروبيين، كتاب «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» يسمى «تابيولا روجاريانا» (كتاب الملك روجر)، لأن الإدريسي كان أهداه له. ولأكثر من 400 عام، ظلت خريطة العالم التي رسمها الإدريسي مرجعا رئيسا وسط الأوروبيين؛ ساعدت الإيطالي كريستوفر كولومبس على اكتشاف أميركا. وساعدت البرتغالي فاسكو دا غاما على اكتشاف الطريق البحري إلى الهند (نهاية القرن 15، وبداية القرن 16). وأكد المكتشف البريطاني جون سبيك، ثم المكتشف الأميركي هنري ستانلي (القرن 19) تفاصيل خريطة الإدريسي عن منابع نهر النيل.

وكان السائح اليوناني القديم بطليموس قال إن نهر النيل ينبع من جبال في القمر.

* المرشد «بييتر» كرر المرشد السياحي الإستوني «بييتر» اسم الإدريسي عندما وصلت حافلة السياح إلى قلعة «تومبي» في قلب العاصمة تانين. قال «بييتر» إن القلعة هي أساس العاصمة. وبنيت في القرن العاشر، وزارها الإدريسي بعد ذلك بقرن تقريبا.

استعمل الإدريسي اسم «استلاندا» بدلا عن اسم الدولة «إستونيا». واستعمل اسم «غلافين» بدلا من اسم العاصمة «تالين». أصل الاسم القديم هو «غاليف»، اسم ملك خرافي يعتقد أنه عاش قبل ميلاد المسيح. نزل من السماء. وحارب أعداءه بسيف من الحجر. ومشى على الماء، وبعد أن قتل نفسه بسيفه صدفة، دفن في قلعة «تومبي».

وقال المرشد إن الإدريسي كتب عن هذه الخرافة (وربما تندر عليها). وعن خرافة حول نافذة في سور المدينة القديم، اسمها «كيك دي كوك» (معناه: التلصص على النساء وهن يطبخن في المطبخ). وعن خرافة بحيرة «أولمستي» (تكونت بتراكم دموع الملكة الخرافية «ليندا»). وعن خرافة عجوز تحت البحيرة، يخرج منها كل ربيع، ويسأل سكان المدينة: «هل حققتم كل شيء؟» إذا أجابوا بـ«نعم»، يغرقها انتقاما، لهذا، يقولون: «لم نحقق كل شيء»، وصار هذا شعار المدينة، دليلا على أنها تستمر، وتتطور، وتتقدم.

* «سكايب» هنا اعتمادا على هذا الشعار الخرافي، تستمر تالين في التطور. منذ أن زارها الإدريسي (عام 1154)، وحتى اخترعت «سكايب»، موقع اتصالات الهاتف والفيديو في الإنترنت، (عام 2003).

قال المرشد «بييتر» ذلك في فخر هائل. لكن، في الحقيقة، يوجد جدل حول ذلك. والسبب هو اشتراك مهندسين في اختراع «سكايب» ينتمون إلى دول أخرى مجاورة، منها السويد، والدنمارك، وفنلندا. (فنلندا، قبل ذلك، اخترعت هاتف «نوكيا»، أول هاتف جوال).

أصل اسم «سكايب» هو «سكاي بير تو بير» (نظام اتصالات مشترك في السماء، من زميل إلى زميل).

في وقت لاحق، اختصر الاسم إلى «سكاي بير» (زميل السماء). ثم اختصر إلى «سكايبر» (السماوي). لكن، كان شخص حجز هذا الاسم في الإنترنت. لهذا، حذفوا حرف «آر»، وبقي الاسم «سكايب» من دون نطق حرف «إي».

في عام 2010، بعد خمسة أعوام من اختراعها، اشترى «سكايب» بيل غيتس، صاحب ومدير شركة «مايكروسوفت»، بأكثر من ثمانية مليارات دولار. يبدو أنه عرف أنها رهان المستقبل الرابح، وذلك لأنها تقدم خدماتها مجانا، مما يهدد شركات الهواتف. في الوقت الحاضر، وصل عدد المشتركين في «سكايب» إلى قرابة 700 مليون شخص. وتعمل بقرابة 50 لغة.

* وادي «سيلكون» رغم أن رئاسة «مايكروسوفت» في الولايات المتحدة، استمر جزء كبير من «سكايب» في تالين، عاصمة إستونيا. وخلال جولة حافلة السياح في المدينة، وقفت الحافلة أمام المبنى في منطقة فيها شركات إلكترونية كثيرة.

وقال المرشد السياحي «بييتر»: «ها نحن ندخل وادي سيلكون بحر البلطيق». هذه إشارة إلى كثرة شركات الكومبيوتر والإنترنت. ومقارنة بوادي «سليكون» في ولاية كاليفورنيا، حيث تتجمع بعض أكبر شركات الكومبيوتر والإنترنت في العالم.

وقال إن رئاسة تكنولوجيا المعلومات (آي تي) الدفاعية التابعة لحلف الناتو توجد هنا. وأيضا، رئاسة «آي تي» التابعة للاتحاد الأوروبي.

وفي فخر واضح، قال: «ها نحن جمعنا بين الماضي والمستقبل؛ في جانب، هنا وادي سيلكون بحر البلطيق. وفي الجانب الآخر، هنا قلعة تومبي التي تحميها منظمة اليونيسكو (صارت القلعة التي زارها الإدريسي منطقة تراث تاريخي، بقرار من اليونيسكو)».

وجاء في قرار اليونيسكو: «تقديرا لجهود نادرة ومستمرة للمحافظة على مدينة رئيسة من القرون البدائية في أوروبا».

خلال جولة الحافلة في المدينة، وقفت أمام مقهى «مايسموك»، واحد من أقدم مقاهي أوروبا، وعمره 150 سنة تقريبا. وفيه واحد من أقدم مصانع الشوكولاته في أوروبا (معنى اسم المقهى: الأسنان الحلوة).

ثم وقفت الحافلة في «ميدان الأغاني». هنا، في عام 1987. بدأت «ثورة الأغاني» ضد الاحتلال الروسي (تحت اسم الاتحاد السوفياتي). كل يوم أحد، يجتمع عشرات الآلاف، ويغنون أغاني وطنية. حتى عام 1991، عندما سقط الاتحاد السوفياتي، ونالت إستونيا الاستقلال.

* التتار في متحف إستونيا التاريخي إشارات إلى إمبراطورية مسيحية امتدت من هناك إلى البحر الأسود. وتحالفت مع خلافة إسلامية في منطقة التتار في روسيا.

لكن، لم تكن رئاسة الإمبراطورية في إستونيا، بل في ليتوانيا (ثالثة ثلاث جمهوريات بحر البلطيق: إستونيا، ليتوانيا، لاتفيا).

في القرن الـ14، صار فيتوتاس، ملك ليتوانيا، أقوى ملك في شرق بحر البطليق، بعد أن اعتنقت ليتوانيا المسيحية (كانت آخر مملكة وثنية في كل أوروبا). ونصب الملك فيتوتاس نفسه حاميا للمسيحية، ووصل حكمه إلى أطراف روسيا.

هناك، كانت توجد خلافة إسلامية تعود جذورها إلى «بلغار فولغا»، إشارة إلى نهر فولغا (اليوم، توجد في مكانها كييف، عاصمة أوكرانيا). وكانت جزءا من منطقة التتار (اليوم، توجد جمهورية التتار الروسية). وشملت المنطقة شبه جزيرة القرم (اليوم، تتنازعها أوكرانيا وروسيا).

قبل الإدريسي بمائة سنة تقريبا، زار المنطقة سائح عربي آخر مشهور، هو أحمد بن فضلان. وتوجد إشارات كثيرة إلى بن فضلان في متاحف النرويج، لأنه كتب عن «فايكنغ» (أجداد النرويجيين، وبقية شعوب إسكندينافيا).

في القرن الـ14، تحالف الملك فيتوتس مع الخلافة الإسلامية في منطقة التتار، التي كانت امتدت من نهر الدانوب إلى سيبريا، ومن البحر الأسود إلى بحر قزوين.

لكن، اكتسح المنطقة تيمورلنك المغولي (سليل المغولي جنكيز خان). ولجأ مسلمون إلى ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا (تقريبا بعد ثلاثمائة سنة من الإدريسي). لكن، اليوم، لا يبدو أن هناك أثرا لهم.