صفية بن زقر.. من ذاكرة الطفولة في حارة الشام نسجت فنا

رسمت التفاصيل الحياتية الدقيقة في الحجاز

TT

«إن الذكاء الراكض الرافض والمغرض إذا اعتور نفس إنسان كليهما يهزم بالفنان.. ذلك أنه لا بليد.. ذلك أنه يرفض الركض.. فالريشة في يده ذكاء، وهي أيضا أناة، من هنا شريت الرمز المقهور في انحباسه الباهر في انطلاقه عصا تضرب البلادة، اليوم شريت هذا الرمز في معرض ابنتنا الغالية صفية بن زقر».. هذا ما ذكره الأديب الراحل محمد حسين زيدان، من كتاب «كلمة ونصف» عن الفنانة التشكيلية الرائدة التي رسمت التفاصيل الحياتية الدقيقة في الحجاز ومظاهر العادات والتقاليد الشعبية وحفظتها في ذاكرة لوحاتها التي أمنت برسالتها ورفضت حتى بيعها لتكون مشاعة للجميع عبر دارتها في جدة.

وحارة الشام بجدة القديمة، التي تجولت بين أزقتها وبيوتها الحجرية برواشينها سنواتها الأولى، وشهدت ولادتها عام 1940، لم تكن مجرد بيوت عتيقة وأزقة ضيقة وأناس يمشون فيها ذهابا وإيابا ليعبروا في ذاكرة صفية عبور الكرام، إنما كانت مشاهد تلاحقها رائحتها أينما كانت حتى في أسفارها، وعندما غادرت مع أسرتها إلى القاهرة عام 1947، وهي في السابعة، حملت عرائسها الحجازية مع الحلم والحنين في حقيبتها لتغيب 16 عاما تتم فيها دراستها الرسمية حتى تحصل على شهادة الثانوية الفنية عام 1960، ومن ثم يحمل الحلم والفن حقائبها مرة أخرى لتغادر القاهرة إلى بريطانيا كي تلتحق بـ Finishing school، لمدة ثلاث سنوات دراسية.

وفي أواخر عام 1965، تعود أدراجها إلى القاهرة وطن الاغتراب عن الحجاز لتطور موهبتها الفنية من خلال دروس خصوصية، لكنها لا تكتفي بذلك، فتعاود الرحيل إلى لندن كي تلتحق بكلية »سانت مارتن« للفنون ضمن برنامج دراسي حصلت بعده على شهادة في فن الرسم والجرافيك.

وخلال مشوارها الراكض خلف الفن الذي عشقته على راحة كفها الصغيرة، وهي تنثر تراب حارتها العتيقة، وما بجوارها من حارات جدة القديمة في ذاكرة الطفولة، كانت ملامح الوجوه النسائية والرجالية تلاحقها بطيف من حنين الماضي، إليها وحينما عادت إلى حارتها وذكرياتها 1963، كانت تحسب أنها لا تزال تنتظر قدومها، لكن أدراج رياح التحديث حلقت حولها وحامت أداة التغيير حولها ومسها من شح أهل تلك البيوت التي هجروها طالبين حياة أخرى مختلفة عن الماضي... حياة التوسع العمراني الذي اتجهوا نحوه شمالا وغربا وشرقا، تاركين خلفهم جدة القديمة وأنين بيوتها وخشبها المزخرف وحاراتها العتيقة التي سمعتها صفية، لحنا، ترتجي منها أن تخلدها لونا في لوحاتها.

هكذا شعرت صفية بكل ما تركته على أمل اللقاء به مجددا، فما كان منها إلا أن تهب أنين ذلك التراث الراحل بسبب بلادة شعور أناس أهملوه ثلاثة وثلاثين عاما من عمرها، تسجل وتوثق وترسم من دون كلل أو ملل. ولخوفها الشديد من ضياع ما تبقى من تلك الملامح الحجازية، أخذت تصور فوتوغرافيا كل ما تشاهده في المدينة القديمة، كي ترسمه بعد ذلك إحساسا فنيا عميقا بتلك التفاصيل الدقيقة.

فزائر لوحاتها حتما يتحسر على ذلك التراث الذي مسحته البلادة، كما يقول الزيدان، حيث الجارية تمسك بالمرآة لامرأة وهي تمشط شعرها بدلال في ثوب حجازي قديم، وأخرى تجلس على الكرسي مشرعة أمام زوجها الذي ستزف إليه بعد ليال، وفي لوحة لها بمسمى »سوق الحريم»، ترى تلك المرأة بعباءتها وهي جالسة على بسطتها تبيع وتجادل في تجارتها، أما الصبيان والبنات فهم بين الأزقة يمارسون ألعابهم القديمة التي يحملون فيها حميمية العلاقة التي تناستها الحارة في الآونة الأخيرة، وكثير من تلك التفاصيل التي عزمت صفية على تسجيلها ونقلها للأجيال الجديدة ممن حرمتهم البلادة تاريخهم وتراثهم الحجازي.

وصفية التي درست وكافحت لتشتغل بفنها وتهبه حياتها، لأنها لم تتزوج لأجل رسالتها، كانت رائدة بحق، بل من أوائل المؤسسين للحركة التشكيلية في السعودية، حينما افتتحت أول معرض فني في مدرسة دار التربية الحديثة للبنات عام 1968، في وقت لم يكن فيه معارض فنية يمكن للفنانين أن يعرضوا أعمالهم بها، فأعدت المعرض بنفسها لتقدم لوحاتها لزواره، وكان هذا المعرض نقطة انطلاقتها إلى معارض عديدة محلية ودولية وصلت إلى 18 معرضا شخصيا، وستة معارض جماعية، لتلقب بعدها بـ »فنانة التراث السعودي».

ويبدو أن حلمها الذي حملته معها في أسفارها وبين جفنيها، قد بدت ملامحه تتحقق بعدما بدأت في مشروعها الذي يعد الأول من نوعه في السعودية، حيث أنشأت دارتها التي تحمل اسمها في مدينة جدة على طراز معماري فاخر، حوى مرسمها ومكتبتها الخاصة ومتحفا لمقتنياتها الحجازية القديمة، التي شهدها التاريخ إلى جانب لوحاتها التي رفضت بيعها كي تجعلها متاحة لرؤية الجميع. والدارة التي افتتحت عام 2000 على شرف أمير منطقة مكة المكرمة الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز، تعد متحفا يحمل حلمها الذي أرادت تحقيقه منذ ثلاثين عاما، وقد فتحت أبواب الدارة للزوار والباحثين بالمجان في مواعيد محددة كي يطلوا على جدة القديمة بتفاصيلها الحجازية وتقاليدها وحياة شخوصها من لوحاتها العميقة التي تنتمي فيها إلى المدرسة التأثيرية الانطباعية.

ولم تتوقف عند هذا الحد، بل حولت دارتها أيضا إلى ورش عمل للكبار والصغار في تعلم فن الرسم، وأقامت بها المحاضرات الثقافية التي تعنى بالأدب والفن التشكيلي. ولحبها الشديد للأطفال وإيمانها بأنهم أساس المستقبل، أخذت تهتم بذائقتهم الفنية، كما اهتمت بتعليمهم الرسم، بل ونظمت العديد من المسابقات الفنية والثقافية للأطفال لتشجيعهم وتحفيز موهبتهم كي تكون أيضا علامة مؤثرة في مشوارهم الفني إلى جانب اسهامها في الدعم الخيري للأطفال المحتاجين.

وقد صدر للفنانة صفية كتابان، الأول «المملكة العربية السعودية: نظرة فنانة إلى الماضي» باللغتين الفرنسية والإنجليزية، والثاني «رحلة عقود ثلاثة مع التراث السعودي»، وفي الأخير عملت على توضيح أهداف ونشاطات الدارة بعد رحلة ثلاثين عاماً من المثابرة لأجل توثيق التراث بشكل جمالي وبنّاء.

وكما تقول صديقة الدارة وقريبتها الناقدة الدكتورة لمياء باعشن، عن أسلوبها في تتبع سيرتها الحياتية «حددت صفية بن زقر مسارها الفني الذي تمضيه في الاغتراف من ماضي الناس لتغذي به حاضرهم ومستقبلهم، وكما اختارت لنفسها مساراً، فقد اختارت أيضاً لنفسها أسلوباً يعينها». وقد ذكرت صفية بن زقر في أحد حواراتها ذات مرة، أنها تعتمد على المدرسة الواقعية والتأثيرية وقالت: «اتجهت إلى هذه المدرسة منذ بداياتي، لأنني اعتقد أن الواقعية أقرب الاتجاهات إلى الناس، ونظراً لأن هدفي كان الوصول للناس، فقد اتخذت الواقعية سبيلاً للوصول لهم».

وصفية التي تعد بصمة مؤثرة في الساحة التشكيلية السعودية والعربية، حازت على الكثير من الجوائز كجائزة كأس ودبلوم دي إكسيلانس من جرولادورا عام 1982 في إيطاليا، كذلك شهادات تقدير عديدة ودروع تكريم لإنجازاتها الفنية الثرية، وما حازت على ذلك إلا لأنها أمنت بإحساس الإنسان كما تقول: «الفن ينبع من الأحاسيس الإنسانية»، أما علاقتها مع الألوان والريشة فهي «كالقلم الذي أسطر به أحاسيسي ومشاعري في تعبيراتي الفنية».

ذات مرة استوقفها صحافي في حوار بعد كل هذه الإنجازات الثرية التي غذت بها الساحة التشكيلية والثقافية: هل تبقى شيء من تلك الطموحات؟، فقالت: «الدارة ليست آخر الطريق، لكنها الطريق الذي من خلاله سأنفذ بقية طموحاتي».. فماذا سننتظر أكثر من هذه القامة التي وهبت الفن حياتها ووهبتنا من خلاله اطلالة جدة القديمة التي غادرت إلا في لوحاتها والذاكرة، وكما قال المهندس محمد سعيد فارسي ذات مرة عنها: «لقد أبدعت الفنانة التأثيرية السعودية الأولى فناً جديداً هو بحق التاريخ بالألوان، حيث تقف هذه الفنانة الرائعة فوق قمة منفردة بين زملائها من الفنانين السعوديين المعاصرين، لأنها اختارت لنفسها أسلوباً هو التأثيرية الصادقة واختارت لنفسها هدفاً وهو الجمال».