«الطباشير».. عكازة من رحم المدرسة

TT

الطباشير الأبيض بذراته المتناثرة في وسط الفصل، وشخبطاته التي تملأ السبورة الخضراء، ورائحته التي تسبق عطر المعلمة في المدرسة، كان واحدا من أهم الاختراعات التي اكتشفها الإنسان، ليدون بها كلمته بعد أن عبر عما يريد قوله.

وما يميز التعليم التقليدي توأمان: السبورة الخضراء والطباشير الأبيض، وقد ارتبط مسمى الطباشير بالمعلم كثيرا، وصار جزءا من هويته، بحيث لا يحتاج المعلم أن يعرف نفسه للقادم إلى المدرسة، لأن ذرات الطباشير تسبح فوق رأسه، وتلبس كفيه قفازين بيضاويين.

ومن روتين اليوم المدرسي مرور الخالة (وهي بمثابة الدادة) كل الفصول حاملة علبة الطباشير مع صباح كل يوم دراسي، لتبدأ بعدها المعلمة كتابة التاريخ والمادة الدراسية والموضوع، وتخط هي بقلمها الطباشوري وتلميذاتها بأقلام الحبر.

وتختلف الكتابة بالطباشير عن القلم الحبري أو الرصاص، من خلال التفنن والإبداع على السبورة يعرف مدى عشق المعلمة للطباشير.

المعلمة نهى أمين تتذكر كيف أتعبت تلميذاتها في الصف الرابع الابتدائي، وهن يتابعن منحنيات خطها على السبورة، فقد لاحظت بأنهن يملن برؤوسهن تارة وتارة يرفعنها، وتعجبت من تصرفهن وكما يقال «إذا عرف السبب بطل العجب»، تقول ضاحكة «لقد كتبت آنذاك وكانت تجربتي الأولى بخط مائل».

ومن منا لم يصوب المعلم مسدسه على جبهته، ضاغطا على الزناد ليطلق رصاصة طباشورية صغيرة تنطلق بسرعة صاروخية من السبورة إلى آخر الصف لتوقظ ذاك التلميذ النائم أو لتنبه المشاغب، وهنا يعلق الشاب أحمد بلال موظف في الخطوط الجوية السعودية قائلا «كنت عادة ما أعود إلى البيت ووجهي شبيه إلى حد كبير بالسبورة».

وألوان الطباشير تميز معلم كل مادة عن بقية المواد، إذا رأيت معلما يحمل طباشيرة بيضاء فقط فاعرف أنه معلم دراسات إسلامية، واللونان الأحمر والأصفر لمعلم اللغة العربية، والأزرق والأصفر والأخضر لمعلم الجغرافيا، وجميع الألوان لمعلم العلوم أو الأحياء، والأصفر مع الأبيض لمعلم الرياضيات.

وعشق رائحة الطباشير لم تحتكره أنوف المعلمين لأن التلاميذ قد تقاسموا معهم هذا ليرسموا ويكتبوا على السبورة التي تنتصف الفصل بعد انتهاء كل حصة دراسية ما يحلو لهم من رسومات وتعليقات كاريكاتورية يرسمها التلاميذ كتنفيس لهم، وما أن يدخل المعلم التالي حاملا أدواته حتى يقوم أحد التلاميذ متبرعا بمسح الشخبطات الصبيانية متأففا متذمرا. ولم يتوقف التلاميذ عند هذا الحد بالعبث بالطباشير، فهم يحملون بعضه في جيبهم ليرسموا ويكتبوا على جدران المدرسة من باب العبث.

وكثير من التلميذات ما يلففن إصبع الطباشير بورق ملون ليقدمنه إلى معلماتهن اللاتي يفضلهن، وتتسابق الصغيرات في ذلك ويتفنن في تزيينه وترتيبه في صندوق من الورق المقوى، وإذا كان التلاميذ قد رسموا بالطباشير قصصهم وشعاراتهم على جدران المدرسة، فإن التلميذات يرسمن على أرض ساحة المدرسة مربعات ويرقمنها بأرقام متسلسلة مستخدمات الطباشير ليلعبن لعبة «البربر».

وقبل أكثر من عشر سنوات نافس الطباشير الأقلام الخاصة بسبورات الألمنيوم البيضاء، وأحبه الكثير من المعلمين، لأنه لا يسبب أضرارا للجهاز التنفسي والجلد والشعر والعينين بعد أن عانى كثير من المعلمين من أمراض سببها الطباشير.

شيئا فشيئا دخلت السبورة الالكترونية إلى بعض المدارس الخاصة والنموذجية، فودع المعلم السبورة التقليدية وتوابعها، إلا أن بعض المعلمين ما زالوا يحنون إلى سحر الطباشير ويدخرونه في أدراجهم كحال المعلمة ابتسام مدني معلمة جغرافيا تقول «صبغ أصابع اليد بألوان الطباشير كان مقياس ما قدمته المعلمة لتلميذاتها».

وبعد اختفاء عكاز المعلم الأبيض لفترة عادت شهرته قبل وقت قريب، حيث يعود الفضل إلى حرب الطباشير «وور جوكينج» التي ظهرت في بريطانيا على يد مصمم مواقع الانترنت «مات جونز»، حيث سرعان ما انتشرت في دول أوروبية وأميركا، وقد سبقتها مواقع الإنترنت في سرعة الانتشار.

وباختصار فإن الحرب يقصد بها رسوم رمزية ترسم بالطباشير على أرصفة الشوارع والجدران معلنة عن وجود شبكات ربط لاسلكية بالإنترنت قريبة لأي شخص يرغب في تصفح الشبكة عبر جهاز كومبيوتر محمول أو كومبيوتر جيب.

وللطباشير فوائد غير الكتابة، فمثلا لتلميع الرخام والمعادن يطحن متحولا إلى بودرة ومن ثم تمسح تلك الأدوات بقطعة من القماش الجافة، ولمنع الرطوبة بخزانة الملابس والأحذية ينصح بوضع إصبع منه في قماش وتعلق، ولمنع جنود الله «النمل» من اقتحام البيت عادة ما يرسم خط بالطباشير حول النوافذ والأبواب، فالنمل لا يمر فوق هذا الخط.