الخليفي.. الشيخ الذي أبكى بصوته الشجي ملايين المصلين في الحرم المكي

حفظ القرآن وعمره 15 سنة.. وأول من بدأ «التهجد» بنفر قليل من المصلين

TT

هل شعرت برجفة تسري في خلايا جسدك الحي إثر قراءة للقرآن الكريم؟! ربما حصل ذلك يوما، وربما حملتك الذاكرة حتما لتعود خطوات وخطوات إلى الوراء مدة 12 عاما كي تقف أمام محطة اعتدنا الوقوف لديها كل عام في ليلة 28، ليلة ختم القرآن الكريم في الشهر المبارك بالمسجد الحرام كي تسجل لهفتها وشوقها لذكرى الشيخ الراحل عبد الله الخليفي.

والكلمات التي سمعناها مرارا بصوته الرخيم ولسانه المبلل بالدموع الوجلة التي تعبر لحيته معطرة بالخشوع أثناء تلاوته القرآنية خاصة عندما يختمها بسورة الناس ويلحقها بالدعاء فتمتزج ببكائه الحار خضوعا وهو يقول «اللهم اغفر لنا في ليلتنا هذه أجمعين» ثم يتوقف لبرهة بسبب بكائه.

ويكمل «اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين...» ويتوقف لدقائق قليلة باكيا تعبا من فرط الخشوع ومن خلفه تتعالى أصوات آلاف الخاشعين من المصلين ممن تلحفوا بساعة الوجل لتعبر دموعهم إلى مكبرات المايكروفون الموزعة على أرجاء الحرم المكي فتبكي معهم بصوت عال آخر ليلة في ختم القرآن، لكنه يحاول ربط نفسه الرطبة بحب الله كي يكمل «اللهم أعد علينا شهر رمضان أعواما عديدة وأزمنة مديدة والإسلام في عز يا أكرم الأكرمين» والتي كانت آخر ما سمعت منه بصوته الشجي عبر مكبرات الحرم المكي في رمضان عام 1413هـ.

وليس هؤلاء فحسب ممن تباكوا صوتا وقلبا خلفه إثر خشوع الشيخ الإمام، بل كان قد ترك في نفس سامعيه ممن يترقبون صلاة الوتر الأخيرة عبر جهاز التلفاز الصغير أو عبر المذياع العتيق أثرا يتسلل إليهم مع صوته الباكي خشية الرحمن وكأنه الماء العذب البارد أو حبة برد تلامس الجسد الحي فتصيبه برجفة أو رعشة تذكيرا.

والخليفي الإنسان.. هو الرجل المتواضع الخلوق كما وصفه طلابه ومن عرفوه، قد أسماه والده الشيخ محمد الخليفي يوم ولادته بالبكيرية إحدى مدن القصيم باسم «عبد الله» حينما أطل بوجهه المضيء للدنيا ليحمله بين يديه مستبشرا بصغيره عام 1333هـ في أن يكون عبدا مخلصا لله طوال حياته التي امتدت لـ81 عاما أفناها في خدمة العلم والتربية والحرم المكي الذي ظل له إماما على مدى 40 عاما من سنوات عمره.

لقد كان صغيرا حينما أقبل الحلم بين يديه مبتسما وهو واقف كتلميذ وابن يطلب العلم والحكمة من والده الشيخ محمد الخليفي الذي ينتسب بدوره إلى عائلة متدينة في القصيم، فجده قاض وشيخ عالم معروف في زمنه، وكان ذلك محفزا لأن يكون الفتى الصغير مقبلا على ما حرصت العائلة أن تكون عليه، فما ان بلغ 15عاما من عمره حتى أتمّ حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب بجوار مبادئ علم التوحيد والحديث والفقه في بعض مسائله.

لكن والده مع حرصه على أن يكون عبد الله صاحب ثقافة دينية وخلقية كان قد حرص أيضا على أن يتلقى العلوم الحديثة في عصره فأدخله المدرسة ليصطف مع طلاب زمنه في فصول دراسية متواضعة كما اتسم ذلك الزمن، ويكون من أكثر الطلاب اجتهادا حتى حصل على شهادة كفاءة المعلمين من وزارة المعارف وبجوارها شهادة التجويد في القراءات وإجازة للتدريس في المسجد الحرام.

وأصبح الفتى رجلا يشهد له من عرفوه بجمال روحه داخل جسد خاضع بملامحه لله تعالى، مبلل قلبه ببكاء صامت لا يفلح في إخفائه متى ما توحدت روحه الشفيفة مع كتاب خالقه؛ فاختاروه إماما لمسجد التحتي بمدينته الصغيرة البكيرية، ثم اختاروه إماما ليكون في مسجد المدينة بالقصيم، وهو خلال ذلك لم يكتف بشهادته العلمية بل ظلّ يطلب العلم من مشايخ عصره ومنهم الشيخ محمد بن مقبل والشيخ عبد العزيز بن سبيّل والشيخ سعد وقاص البخاري وغيرهم، حتى ذاع صيت الشاب المتفاني في العلم فيما بينهم ووصلت أخباره إلى الملك فيصل بن عبد العزيز وكان لا يزال أميرا لم يتول عرش الحكم.

حينها طلبه ليكون إماما خاصا به في الطائف، فلبى عبد الله نداءه عام 1365هـ واستمر لديه إماما لفترة سنتين حتى سمع به الشيخ عبد الله بن حسن آل الشيخ، وطلبه ليكون إماما مساعدا لإمام المسجد الحرام في مكة الشيخ عبد الظاهر أبو السمح رحمه الله، فوافق الملك فيصل وأمر بتعيينه، وبقي كذلك حتى وافى الأجل الإمام أبو السمح ليتولى هو زمام الإمامة للمسجد المكي فترة عشر سنوات متتالية يصلي بالناس الفروض الخمسة والجمعة والتراويح، وبعدها جاء من أئمة الحرم المكي ما يؤدي بجواره المهمة الكبيرة فأصبح بعد وجودهم يؤم الناس في صلاتي العصر والمغرب ثم صلاة المغرب بجوار صلاة التراويح وختم القرآن في شهر رمضان المبارك.

وقد كان له دور جلي في المسجد الحرام كان أبرز ما قام به أنه أول من جمع المصلين على صلاة التهجد آخر الليل في العشر الأواخر من رمضان التي بدأها هو في حصوة باب السلام جهة بئر زمزم، ثم انضم إليه نفر قليل من المصلين الذين أرادوا أن يكون إمامهم فيها ويوما بعد يوم تزايد العدد، وأصبح يكمل صفا منهم وهكذا إلى صفين وثلاثة حتى أصبح من يصليها خلفه بالآلاف من المصلين، ثم شاركه فيها باقي الأئمة واستمرت تقام هذه الصلاة في كل عام إلى يومنا هذا خلف أئمة المسجد الحرام.

والخليفي لم يكن إماما فحسب بل كان مربيا اشتغل في مدارس وزارة المعارف للعلوم الدينية منذ أن تمّ تعيينه عام 1373هـ في الثانوية العزيزية بمكة، ثم اشتغل بالإدارة المدرسية لثلاث مدارس ابتدائية بمكة، وكان بجوار ذلك مدرسا وملاحظا على المدرسين في المسجد الحرام، وقد كرمته وزارة المعارف بعد وفاته كرائد من رواد المعلمين بالمملكة.

لقد أحب الخليفي الإنسان في الإسلام فكان صوته ناصحا ومؤدبا ومعلما لا يأتي عبر خطبه لصلاة الجمعة فحسب، بل عبر أوراق الصحف من خلال مقالاته الصحافية التي كان أبرزها مقال أسبوعي في جريدة عكاظ وعبر محطة نداء الإسلام الإذاعية التي كان يقدم فيها برنامجه «دروس في الفقه الإسلامي».

وكذلك عبر مؤلفاته التي أثرى بها المكتبة الإسلامية بعدد منها لتبقى في خزانة الذاكرة لدى طلابه، ومن أراد أن يعرف ويدرك كيف كان عبد الله يفكر، وما أسرار قنوته الذي تخشع معه الأفئدة خلفه، وكيف استطاعت روحه الشفيفة أن تتوحد وجلا في صوته مع كلمات القرآن حتى أنها أبكت آلاف المصلين في المسجد الحرام، ورغم رحيله سنة 1414هـ يوم الاثنين 28 من شهر صفر في الطائف ودفنه في مكة رحمه الله لا تزال ذكراه توقظ داخلنا برودة حبات البرد ليومنا هذا عبر ما تبقى لنا من صوته الشجي في أشرطة تحمل عبقا خاشعا له، وأخرى بها مصحف مرتل بصوته يذاع عبر إذاعة القرآن الكريم من حين لآخر.