قرية عشم.. أسطورة التاريخ وقصص الذهب المدفون

TT

في وادي «قرماء» جنوب مكة المكرمة، تختبئ عن العالم قرية أثرية تسمى بـ «عشم»، تحتضن بين جبالها، وتحت ترابها، أحجار نقشت بيد التاريخ المتمثل في من عاشوا على أرضها، وحكايات وأساطير تتناقلها الأجيال عن كنز من الذهب، وحضارة صناعية لم تكشف ملامحها بعد، ومازلت في غياهب النسيان.

فعشم الواقعة في منطقة مكة تعتبر من أهم المواقع الأثرية في المنطقة تسكن جنوب واد يسمى مقر الماء، أو كما يطلق عليه باللهجة العامية لأهالي القرية (قرماء)، وهي منطقة لطالما تسببت مياه السيول القادمة عبر هذا الوادي في جرف القبور وخروج عظام الموتى منه.

وتعرضت قرية «عشم» خلال تاريخها للعديد من عمليات النهب والسلب بيد أبناء القرية غير الواعين بأهمية تلك الأحجار والآثار تاريخيا، والتي كانت تروي قصص الأولين ممن سكنوا هذه الديار.

هذا النهب واجه جهودا من قبل البعض لإعادة ما نهب والمحافظة على القرية كالشيخ محمد بن علي بن مرزوق شيخ قبائل زبيد وحامد الزبيدي المشرف على القرية من قبل وزارة التربية والتعليم ومدير مدرسة عشم الابتدائية.

وكتب عن «عشم» للمرة الأولى في كتب المؤرخين على يد المؤرخ والباحث السعودي الكبير حسن الفقيه في كتاب حمل عنوان «مخلاف عشم»، أي مملكة عشم، والذي تحدث عن تاريخ ذلك الجزء الغائب من كتب التاريخ للجزيرة العربية.

وذكر الفقيه في كتابه عن عملية بحثه للآثار والمنقوشات الغائبة في قرية عشم «بمبلغ 1500 ريال، استطعت استرداد 36 منقوشة كانت بحوزة أحد أبناء القرية، بهذا المبلغ الزهيد فقط، وهذا دلالة على عدم معرفة من نهبوا تلك الآثار بأهميتها».

ويقال ان أهالي هذه المنطقة كانوا يعملون في التهذين (التعدين)، وبالرجوع الى كتب التاريخ التي ذكرت عشم بأنماط مختلفة وباقتضاب، بحث فيها حسن الفقيه ليستنتج بأن عشم مركزاً صناعياً وتجارياً في ذلك الوقت، فقد وجدت عملات نقدية تشير الى التبادل التجاري الموجود لعشم مع الشام واليمن. تلك الاستقراءات تتواصل مع اكتشاف كل جديد فيها، فالقرية بشكلها لا تدل على حضارة عابرة.

ويرجع المؤرخ الفقيه وعدد من الباحثين من أبناء المنطقة اختفاء أثر وذكر قريتهم في التاريخ بأنه يعود إلى ما بعد القرن السادس الهجري، وذلك بسبب انتشار مجاعة ظهرت في ذلك القرن أدت إلى محو الحضارة القائمة على تهذين الذهب في تلك المنطقة الواقعة ضمن حدود الحجاز.

ويصف حامد الزبيدي المشرف على قرية عشم من قبل وزارة التربية والتعليم (هي الجهة المختصة بالآثار في المملكة) عشم بالمدينة الحضارية، موضحا أنه من خلال البحث تبين له تجمع العديد من الأعراق والمذاهب على هذه الأرض اللغز، والتي يتضح من معالمها أن تاريخها يمتد إلى قبل الإسلام ويرجعها البعض للعصور الوسطى.

وقبل أن تتسلم وزارة التربية القرية كان للشيخ محمد مجهودات في سبيل حماية عشم وذلك بإيمان منه لمكانتها وأهميتها حيث قال «كل عالم يدافع عن الآثار في أوقات الحروب وبعضهم يسرق الآثار لصنع تاريخ له، فهذه هويتنا ولم نكن من سلالة القبائل التي سكنت تلك القرية فنحن نفتخر بها ونتمنى أن يكشف ذات يوم عن سرها المدفون».

وقد عين الزبيدي حارسا خاصا لها وأعاد بعض ما نهب، وفي عام 1988 تم تسوير القرية من قبل الوزارة، ولكونها جبلية كان من الصعب إحاطة قرية عشم ضمن سور واحد.

ويروي الزبيدي بكثير من الألم فقدان قرية عشم للكثير من معالمها الثمينة بسبب عمليات النهب والسلب التي حدثت، ويقول «كل محاولات الاسترجاع لتلك المسروقات من تماثيل وأحجار منقوشة ما زالت ضمن جهود خاصة بأهالي وسكان القرية، وما تم استرداده محفوظ في متحف خاص بمدرسة عشم الابتدائية».

ويضيف حامد عن أشكال عمليات السرقة «كان اللصوص يستهدفون سرقة النقوش التذكارية التي توضع في المنازل، والتي كانت تمثل وثائق خاصة بمالك المنزل، ولم يستثنى من عمليات السرقة هذه غير المنقوشات الموضوعة على القبور، والتي يتكون محتواها من أدعية خاصة بالمتوفى، وذلك لحرمتها».

وقسمت المنطقة إلى ثلاثة أقسام، يفصلها الزبيدي «قسم السور الى ثلاثة أقسام، القسم الأول، القرية الرئيسية وجزء من المقبرة الشرقية، والثاني يقع جهة الجنوب ويحيط بالمنطقة المسماة بالصناعية لكونها مليئة بقطع من الآثار، وكمية من الطين لصناعة الآجر الذي يستخدم لبناء البيوت، وبقايا من خبث الحديد والفخار المزجج وأكوام من الزجاج».

ويضيف «ويحيط القسم الأخير بمقبرة الأمراء، ويعود سبب اطلاق التسمية عليه بهذا الاسم كون أحد القبور يتصدر نقشة تحمل اسم (الأمير)، والغريب أن هذه المقبرة لم تنجرف بسبب مياه السيول خلافا للقبور الأخرى».

وفي زيارة لـ«الشرق الأوسط» للمتحف الخاص بقرية عشم في مدرستها الابتدائية، والذي يحتوي على 150 منقوشة حجرية، ومصفوفة على رفوف صنعت من الحديد بطريقة بدائية، منها 4 نقوش كتبت بصيغة ذكرى لصاحبها، وواحدة كتبت بخط يدوي، وثلاث غير واضحة المعالم.

وعند وصول «الشرق الأوسط» الى القرية استقبلنا حسن علي حارس القرية بالنهار وصعدنا معه الى برج المراقبة لرؤية القرية من الأعلى. كان المنظر أشبه بجيوش في العصور الوسطى تلبس ملابس سوادء تسمع صوت معادن الأسلحة المصطدم ببعضه بسبب حركة الخيول الجامحة في لوحة ملهمة بالهجوم، حسن رجل كبير في السن بشوش الوجه، ويعاني من الوحدة في ذلك المكان.

ويقول: في الغالب لا يأتي الي أحد فأنا أحرس الحجارة والعظام التي لن تعود، المكان موحش وكثرة مشاهدتي لتلك البيوت المهدمة والحجارة المبعثرة أتخيل عودة الحياة فجأة للقرية فأرى أناسا يبيعون وأناسا يبنون وأناسا يدفنون موتاهم، فمن يصدق أن أمأمنا ليست حجارة وإنما حياة تتحرك في الخيال. يصب لنا حسن الشاي ليروي بعض الأحداث التي مرت عليه وهو في الحراسة ويقول «الوهم الذي يعيشه الناس هنا بوجود الذهب، جعل من القرية هدفاً للثراء».

ويلاحظ في قرية عشم اختلاف في أحجام البيوت، في منتصف القرية نجد أكوام الحجارة العالية جداً يعتقد بأنها لقصر الحاكم في ذلك الوقت وبجانب القصر مسجد بمساحة كبيرة ويبدو أنه كان مسقوفاً في أوله وآخره، أما منتصفه فكان مفتوحا، يظهر هذا من خلال خلو المنتصف من الحجارة ووجودها في أول المسجد وآخره، ويقول حامد «يستوعب المسجد أكثر من 500 مصل».

تجدر الإشارة إلى أن قرية «عشم» التارخية لا يوجد لها ذكر في كتب التاريخ والجغرافيا في المناهج السعودية، وكان التلفزيون السعودي قدم عرضا لأول مرة قبيل الأسبوعين الماضيين، ووسط دعوة من وزارة التربية والتعليم للهيئة العليا للسياحة للحضور واكتشاف جزء من تاريخ البشرية التي عاشت بين جبال هذه القرية.