الغاط من قرية وادعة تحتضنها جبال طويق إلى مدينة عصرية ذات مقومات جذب سياحي

الأمير سلمان يعيد الوهج للمحافظة عبر تدشينه مشاريع صحية وبيئية وإسكانية وثقافية فيها

TT

وضعت مدينة الغاط (230 كيلومترا شمال غربي الرياض) والتي تمثل واحدة من أقدم المستوطنات البشرية وسط الجزيرة العربية وتتميز بتضاريس متباينة اسمها على خريطة المدن ذات الجذب السكاني والسياحي، ومعها بدأت هجرة معاكسة إليها من قبل سكانها الذين غادروها منذ عقود ليستقروا بها حالياً، كما استقبلت المحافظة آلافا من أبناء السعودية والمقيمين للعمل في قطاعاتها وأنشطتها المختلفة.

وتحولت الغاط التي كانت إلى وقت قريب قرية وادعة تحتضنها سلسلة جبال طويق إلى مدينة عصرية بعد أن هجر سكانها منازلهم الطينية فوق سفوح الجبال ليقيموا على بعد كيلومترين منها مدينة حديثة.

وسجلت الزراعة في الغاط قفزات لافتة حتى أصبحت واحدة من المناطق المشهورة بزراعة أشجار النخيل ذات النوعية الجيدة وأقيمت تبعاً لذلك مصانع لتعبئة التمور، إضافة إلى اشتهار المنطقة بزراعة القمح من خلال مزارع كبيرة تسقى بأحدث طرق الري، كما تشتهر المنطقة بزراعة الحمضيات والزيتون والفواكه الموسمية المختلفة وسجلت الغاط اسمها منذ سنوات كحاضنة لجائزة في الإبداع العلمي تقام سنويا وهي جائزة الأمير خالد السديري للتفوق العلمي، ودخلت المدينة أخيرا عالم السياحة عندما اختيرت كأول مدينة تحتضن مشروعاً للسياحة الريفية وتطوير القرى التراثية، واحتضنت المحافظة مشروعا ثقافيا لضمها مكتبة الرحمانية التي أمر بإنشائها الأمير الراحل عبد الرحمن بن أحمد السديري على أرض مزرعة العرنية وأوقفها لوالديه، كما سجلت المحافظة اسمها كأول مدينة سعودية تتبنى مشروعا للمحافظة على البيئة من خلال المركز البيئي الذي حمل اسم الأمير سلطان بن عبد العزيز. ويدشن الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض غدا مشاريع صحية وإسكانية وثقافية وبيئية تشمل افتتاح مستشفى الغاط ومركز الأمير تركي بن أحمد السديري للكلية الصناعية، والعلاج الطبيعي، ووضع حجر الأساس لمشروع سلطان بن عبد العزيز للإسكان الخيري، وزيارة مسجد الأمير تركي بن أحمد السديري والذي تبرع بإنشائه ولي العهد.

وسيتفقد الأمير سلمان خلال زيارته للمحافظة مشروع المرحلة الثانية للمنطقة المركزية المحيطة بالجامع، كما سيزور مكتبة الرحمانية يفتتح التوسعة الجديدة لها، يعقبها جولة للأمير في الغاط القديمة يطلع خلالها على المباني الطينية فيها ويستمع لشرح عن مشروع تطويرالمنطقة من قبل الهيئة العليا للسياحة، كما سيزور متنزه الغاط الوطني ويدشن حملة أصدقاء البيئة التي ينفذها مركز الأمير سلطان بن عبد العزيز البيئي، عقبها يشرف حفل محافظة الغاط.

وعبر محافظ الغاط عبد الله الناصر السديري عن سعادته وأهالي المحافظة بزيارة الأمير سلمان بن عبد العزيز للغاط وافتتاحه لمجموعة من المشاريع الصحية والإسكانية والبيئية والثقافية فيها معتبرا أن ما شهدته المحافظة من تطور يمثل الاهتمام الذي توليه الدولة لجميع المحافظات في السعودية، مشيرا إلى أن توجهيات الأمير سلمان ومتابعته لمشاريع المحافظات في منطقة الرياض كانت وراء التطور الذي شهدته وتشهده المحافظة مثلها مثل باقي محافظات المنطقة.

وكانت الغاط إلى وقت قريب قرية وادعة تحتضنها سلسلة في جبال طويق التي تبدو كأسياف بأيد مصلتينا كما وصفها الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم في معلقته المشهورة عندما تراءت له اليمامة بجبالها السود، وهو يهيم في صحرائها قبل اكثر من 1500 عام.

ولا تزال المنازل الطينية التي بنُيت في سفوح الجبال خير شاهد على قدم المنطقة في حين تنتشر على ضفاف وادي الغاط مزارع صغيرة تحتضن اشجار النخيل وبعضا من الاثل وقليلا من السدر، وعلى بعد اقل من كيلومترين من مدخل المدينة القديم تقع قرية «الوسيًِّعة» بمبانيها القليلة وبجغرافيتها المميزة واللافتة، حيث اشجار النخيل الباسقات تتناثر في مزارع متراصة على ضفاف الوادي، ومنها ترتفع أصوات محركات إخراج الماء محدثة صدى في الجبال المقابلة لتقطع وحشة الصحراء وتقول للمقبل: إن الانسان هنا لم يبرح ارضه ونخله وماشيته. انها الصورة التي قد لا تتكرر ولا توجد إلا في ذاكرة المدن والقرى، التي حافظت على طابعها القديم.

هنا الغاط التي تركها شاعرها الحطيئة قبل اكثر من 14 قرناً لتبدو هي نفسها عندما كان لغط السيل يحدث دوياً في عرصات الوادي وقيعانه ليجرف الأحجار واوراق الاشجار التي تساقطت وسط الوادي المطلة عليه ومعها حملت المياه بعر الآرام التي كانت ترتع في السهل المقابل، لتأتي إلى هذه العرصات وتستظل بها وتجد طعامها ثم تخرج مخلفاتها في هذه العرصات، وتتحول الصورة فجأة إلى مشهد آخر عندما تنطلق براحلتك إلى «الغاط الجديدة» حيث تستقبلك المدينة بحلة جديدة وجميلة، بعد أن هجر سكانها منازلهم الطينية فوق سفوح الجبال ليقيموا مدينة حديثة ذات شوارع فسيحة ومضاءة ومشجرة ومبان في غاية البساطة والجمال، وتتحلق حولها جبال طويق كمعصم في يد امرأة جميلة وامامها تمتد رمال النفود بكثبانها الحمراء ومزارع القمح والنخيل على طول صحراء الحمادة.

وعلى بعد 20 كيلومترا شرقاً من خشم العرنية الذي يبدو مثل تمثال «ابو الهول» ويطل على فضاء المدينة الواسع بئر الشاعر المخضرم جرول بن أوس المعروف باسم الحطيئة وهي بئر تصارع من اجل أن تحتفظ بقطرة ماء عندما يسيل وادي مرخ الذي احتضنت ضفافه الشاعر وعائلته، لكن ايدي العابثين افقدت البئر معالمها بعد أن تعرضت لعملية دفن متعمدة وأصبحت مكاناً لجمع النفايات، وهي اهانة بحق شاعر اشتهر بشعره القصصي وبهجائه المقذع لنفسه وللأمة وللناس، وقادته إلى السجن، اضافة إلى مدائحه التي جعلت الملوك يقبلون على الزواج من بنات قبيلة كانت تحمل اسم «انف الناقة» فرفع الشاعر الحطيئة قدرهم عندما وصم الآخرين من القبائل الاخرى بالأذناب، في قوله «قوم هم الأنف والاذناب غيرهم ومن يسوى بأنف الناقة الذنب».

ولعل ما يستوقف المقبل إلى الغاط وهو يستخدم الطريق السريع الذي يربط العاصمة السعودية بمنطقة القصيم أو إلى الزلفي ثم إلى الكويت ومنه إلى معظم مناطق المملكة، دلة القهوة التي نصُبت في السهل الجبلي الذي يطل على المدينة، وبالقرب منه نصب ايضاً ابريق الشاي بألوانه الخضراء الزاهية، لينحدر الطريق من المرتفع وتظهر المدينة بشوارعها الجميلة ومبانيها الحديثة ومزارعها التي تمتد على طول صحراء الحمادة وسط كثبان النفود ذات الرمال الحمراء التي تسر العابرين وتجبر البعض منهم على ايقاف مركباتهم ليغوص في الرمال.

وعندما ينحرف الزائر بسيارته أثناء نزوله من «طلعة الغاط» فإنه سيمتع ناظريه برؤية المدينة عن قرب وأول ما يواجه الزائر منشآت نادي الحماده الذي سجل حضوراً لافتاً في دوري الدرجة الاولى في السعودية قبل سنوات وكاد أن يصعد إلى مصاف الاندية الممتازة، واشتهر بنشاطاته المتعددة اجتماعياً وثقافياً وعلى بعد امتار يستوقفك مبنى طيني حديث ذو طابع معماري لافت انه احد المراكز الثقافية الحديثة في السعودية الذي يضم مكتبة الرحمانية التي أمر بإنشائها الأمير عبد الرحمن بن احمد السديري على أرض مزرعة موقوفة لوالديه، وليس ببعيد عنه يوجد معهد الغاط العلمي الذي خرج اجيالاً من ابناء الغاط اصبح لهم شأن في المجتمع من مسؤولين وسفراء وقضاة ومعلمين وصحافيين وكتاب.

وعندما تسير عبر الطريق جنوباً تستوقفك لوحة كتب عليها طريق «أبا الصلابيخ» حيث تنتشر على جنباته مزارع حديثة تسقى بأجهزة الري المحورية، واذا واصل السالك للطريق الذي يخترق المدينة باتجاه الجنوب فإن أول ما يشاهده الزائر البلدة القديمة حيث قصر الامارة الشامخ بمبانيه الطينية وشرفاته وسواريه ومسجد العوسجة القديم، والمباني التي بنيت في منحدرات الجبال وامامها الوادي ومجاري السيول ومزارع النخيل ذات المساحات المحدودة، ثم ينجرف الطريق يميناً ليمر بالزويلية حيث كثيب رملي كان مرتعاً لطفولة السكان، وبئر القيعانية التي اشتهرت بحلو مائها.

وعلى بعد امتار من الطريق يقبع خزان المياه القديم الذي كان يغذي القرية منذ عقود وعندما تسير متجهاً صوب الجنوب فإن الصورة تتغير لتفاجأ بوجود قرية تحدها الجبال من جهة الغرب ومزارع النخيل من جهة الشرق انها قرية الوسيعة التي حافظت على طابعها القديم وارتبطت مع سكانها بقصة عشق لن تنتهي فهذا احمد السعدون ابن القرية الذي لامس الثمانين يذرع شوارع القرية ونخيلاتها كل يوم ويصلح ما افسده الدهر في مبانيها ومزارعها. وعندما تترجل من سيارتك وتقابله يصطحبك اجبارياً في جولة على القرية ليشرح لك تاريخها، ثم يخرج مفتاحاً من جيبه ويأخذك إلى مسجد القرية الوحيد ليريك معالمه القديمة وسواريه وخلوته «البدروم» التي بنيت منذ عقود وما زال يقف شامخاً يصارع عوامل التغيير.

وعندما تنطلق بسيارتك إلى اقصى الجنوب ستشاهد مزارع صغيرة على ضفاف وادي الغاط تسقى من آبار حفرها الاجداد وسط الصخور، لينتهي بك المطاف في شلال القلتة الذي تتدفق منه المياه منذ مئات السنين مشكلة لوحة طبيعية في غاية الجمال.

ويقول محافظ الغاط عبد الله بن ناصر السديري وهو شاب قاد المحافظة إلى مستوى كبير من التطور خلال سنوات قليلة: إن قصة التحول في الغاط من قرية وادعة وسط جبال طويق إلى مدينة عصرية يمثل انموذجاً للتحول الذي طرأ على المجتمع السعودي ككل، فالقرية التي كانت منازلها وشوارعها تضاء بالفوانيس والسرج وسكانها يوقدون النار داخل منازلهم من الحطب والجريد والخوص ويذهبون إلى الرياض لتصوير ابنائهم قبل دخولهم إلى المدرسة في محلات التصوير بالعاصمة لعدم وجود استديو للتصوير في قريتهم ولا يعرفون من وسائل الاتصال سوى الرسائل التي تسلم لمتعهد النقل من الرياض إلى الغاط وبالعكس، اصبحت الآن مدينة عصرية فالاطباق الفضائية تنتشر في سطوح اغلب منازلهم والمطابخ داخل المنازل توقد بالكهرباء والمكرويف والشباب الذين كانوا يقرأون مجلة العربي واليقظة بعد صدورها بأشهر أصبحوا يلتقطون المعارف عبر الكومبيوتر