الحوار الوطني غير الصورة النمطية السلبية عن المملكة

TT

يمثل الحوار في فكر الملك عبد الله بن عبد العزيز أهم ركيزة يمكن البناء عليها واستشراف المستقبل من خلالها، لأنه يرى أن الحوار جزء من تاريخ الثقافة العربية والإسلامية ومكانته كبيرة في حياة المسلمين، وهو امتداد للمبادئ والقيم والفضائل التي ترسخت في المجتمعات الإسلامية على مر العصور، حتى أن كثيرا من المفكرين والمستشرقين الغربيين وغيرهم اعتبروه من أهم قيم الحضارة العربية والإسلامية التي سادت منذ البعثة المحمدية، ومن العوامل المهمة في نشر السلام العالمي لأنه يستوعب الخلافات بين الثقافات والشعوب، ويرى خادم الحرمين الشريفين أن مشروع الحوار الذي أطلقه قبل ثلاث سنوات مشروع تحتاجه المجتمعات الإنسانية في العالم كلما احتاجت إلى الأمن والرخاء ورفضت التطرف والإرهاب، ولا يمكن تجاهله أو التخلي عنه حتى في أبسط الأمور، فالحوار في تفكيره بكل أبعاده الثقافية والإنسانية روح نسمو بها نحو الرقي والازدهار والطمأنينة بعد كل الأحداث التي مرت بها المملكة خلال السنوات الماضية، ونتذكر كلمته حفظه الله عند إعلان تأسيس مركز الحوار الوطني: «ولا يراودني أدنى شك أن إنشاء المركز وتواصل الحوار سوف يكون بإذن الله إنجازا تاريخيا يسهم في إيجاد قناة للتعبير المسؤول سيكون لها أثر فعال في محاربة التعصب والغلو والتطرف ويوجد مناخا نقيا تنطلق منه المواقف الحكيمة والآراء المستنيرة التي ترفض الإرهاب والفكر الإرهابي».

وعندما تبنى الملك عبد الله مصطلح الحوار بمفهومه الواسع وتعريفاته الكثيرة وفكرته أراد أن يحيى الجميع على سماع أصوات الآخرين، وأن يكون هذا السلوك صفة يومية في حياتنا من البيت وحتى العمل والشارع وفي كل مكان، أراد تثبيت وحدة هذا الوطن الكبير والحفاظ على هويته وعقيدته من خلال الحوار الهادف، وأي تفكير يفوق هذا التفكير عند هذا الرجل الذي يريد أن يعيش أبناء وطنه متلاحمين متوادين متحاورين يحاربون التعصب ويتبنون الوسطية والاعتدال من خلال منهج الحوار، ودائماً يؤكد الملك عبد الله في خطاباته أن الحوار لا بد أن ينطلق من ركيزتين أساسيتين: العقيدة الإسلامية والتمسك بالوحدة الوطنية، وأن آداب الحوار يجب أن تنطلق من منهج السلف الصالح الذي يعتنقه شعب المملكة.

وتبنى الملك عبد الله في خطابه أمام المواطنين والوفود العالمية والمؤتمرات الدعوة إلى أصول الحوار والتركيز على مفردة الحوار لما تحمله من رسالة سامية، ويحث شعبه على الاهتمام بالحوار وجعله الأسلوب الأمثل للحياة، وبنفس الوقت تلقى المواطنون هذا الخطاب بكل اهتمام وجدية، ولم يكن هذا القبول والترقب للحوار إلا لكون المواطنين بكل أطيافهم وأجناسهم يعرفون أن من يقف خلف عملية الحوار بكل إيمان وشجاعة هو الملك عبد الله الذي بدأ بنشر هذه الثقافة الراقية بنفسه ثم بمساعدة شعبه لتحقيق التطلعات في إشاعة مفاهيم الحوار وسلوكياته في المجتمع.

وفي فترة قصيرة جداً بالنسبة لتحقيق الإنجازات والتطلعات بدأت النقاشات والمقترحات الخاصة بتفعيل الحوار تتوالى من كل حدب وصوب بالمملكة في المؤسسات والمدارس والأندية، فأصبحت هناك حوارات أسرية وبين الموظف ورب العمل وبين المثقف والجمهور من خلال عقد الدورات المتخصصة بالحوار والمجالس الطلابية الحوارية ونوادي الحوار في المدارس والجامعات وغيرها من مؤسسات الدولة، وتأسست أيضاً جماعات الحوار المختلفة في الأندية الأدبية، ومن أشهر الكلمات التي انتشرت بين المواطنين «لنتحاور نحن في زمن الحوار».

إن حوار الملك عبد الله فتح للسعوديين أبواباً من الخير وصفاء النفوس وطمس الأحقاد والكراهية التي كانت موجودة لدى البعض في خطابهم وفي تعاملهم مع مواطنيهم أو غيرهم، فالحوار أعطى صبغة الهدوء والركون إلى الراحة النفسية عند الخطاب، وكما أراد الملك عبد الله فإن حياة الحوار المليئة بالمودة والألفة صارت بوقت قياسي أسلوباً وعادة لشعبه يذكرونها ويتذكرونها كلما نطقوا باسمه أو شاهدوه فيما بينهم أو عبر وسائل الإعلام، فقد أراد هذا الرجل تمتين أواصر الأخوة ونشر الأساليب الداعية إلى الاستمتاع بالحياة تيمناً في أساس هذا الدين الإسلامي.

ولأجل هذا الاهتمام الشخصي والكريم من الملك عبد الله بالحوار فقد حظي الحوار الوطني بمتابعة جميع المواطنين من الكتاب والمثقفين والصحافيين وغيرهم من الجنسين الذين طرحوا رؤاهم وأفكارهم ومقترحاتهم في وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية كما حظي باهتمام ومتابعة وسائل الإعلام العالمية.

وجدد الملك عبد الله اهتمامه وعزمه على مواصلة الحوار مهما كانت الظروف ودعمه له عندما أكد خلال كلمته السنوية التي ألقاها أمام أعضاء مجلس الشورى على المضي في محاربة الإرهاب والفكر التكفيري واستمرار عملية التطوير وتعميق الحوار الوطني، حيث قال: «إننا لا نستطيع أن نبقى جامدين والعالم من حولنا يتغير، ومن هنا سوف نستمر بإذن الله في عملية التطوير وتعميق الحوار الوطني وتحرير الاقتصاد ومحاربة الفساد والقضاء على الروتين ورفع كفاءة العمل الحكومي والاستعانة بجهود كل المخلصين العاملين من رجال ونساء».

وحتى في الخطاب الذي يتبناه الملك عبد الله في خطاباته الخارجية الموجهة إلى العالم فإنه يرى أن الحوار مشروع مجتمعي ودبلوماسي وإعلامي وعالمي لا بد أن يوجد في كل حين وكل ساعة لتحقيق الأمن السلام والوصول إلى الانسجام والاتفاق بدلاً من التضاد والتمزق، حيث دان فكرة تصادم الحضارات ودعا المثقفين المسلمين إلى اختيار الحوار والتفاهم، ودعا للحوار القائم على احترام كل طرف لمقدسات الطرف الآخر وهويته، وطالب المثقفين العرب والمسلمين خلال حفل افتتاح المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) الأخذ بزمام المبادرة والحوار لإبراز الوجه الحقيقي للأمة الوسطية، معتبراً أن ما تقوم به قلة من المتطرفين والمتعصبين لا يعكس ثقافة الأمة وأصالتها، وإنما يعكس أوهام أصحابها الخالية من أبسط آداب الحوار.

كما شجع الملك عبد الله الحكومة اللبنانية على استمرار الحوار الوطني اللبناني وأبدى سروره لنتائجه وقراءته لتفاصيل ما تم الاتفاق عليه، حيث أكد أن منهج الحوار والهدوء والتروي هو الذي يجب اتباعه في كل القضايا العالقة ويفترض أن يكون متبعاً في جميع العلاقات بين الدول.

وأبدى ـ حفظه الله ـ الاهتمام الخاص بفعاليات الحوار العالمية ومتابعتها، وأكد على أهمية مشاركة السعودية الجدية في مثل هذه المناسبات لمواجهة التحديات الكبيرة في ظل الصراعات الدولية والظروف العالمية المتوترة، حيث شاركت السعودية بعدة وفود كبيرة في عدد من المنتديات الحوارية العالمية كالمنتدى الأول للحوار العربي ـ الأوروبي الذي أقيم في معهد العالم العربي في باريس، وفي حوار الأديان الذي عقد في تونس وغيرهما من المؤتمرات والندوات.

وكون الحوار مشروعا عالميا فإنه سيشمل بكل تأكيد الأوضاع الاقتصادية التي هي محل الصراع العالمي الدائم، وحول ذلك قال خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله في افتتاح المقر الدائم للمنتدى الدولي للطاقة في الرياض: «إن سياستنا البترولية جزء من سياستنا العامة التي ترمي إلى إحلال الحوار محل الخصام والتعاون محل الصدام»، ومن هنا أصبحت المملكة أول دولة عملت منفردة لإيجاد أرضية مشتركة للحوار بين المنتجين والمستهلكين للطاقة بالعالم، وهنا يأتي الدور المسؤول لـلملك عبد الله ليتبنى مثل هذه السياسات التي تدعو العالم إلى العمل معاً من أجل السلام العالمي.

وأخيرا وافق الملك عبد الله على إقامة مركز دولي لتشجيع الحوار والتعاون الثقافي والتعليمي يحمل اسمه ويقام في بولندا، حيث تأتي هذه المبادرة لتؤكد مرات عديدة على استمرار العمل بالحوار من أجل أمن البشرية وخلق أفضل الفرص الايجابية في العلاقات بين الدول، وتعزيز الحوار الحضاري بين الثقافات والشعوب المختلفة، وإبراز الصورة الحقيقية للمملكة ممثلة في خطاب وسياسة هذا الرجل العظيم.

وبعد هذا كله نجد أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود وضع السعودية ضمن الدول الرائدة في تفعيل الحوار الفكري والحضاري العالمي من خلال دعم عملية الحوار سواء داخلياً أو خارجياً وفي أي بلد في العالم حتى في أحلك الأوضاع الاقتصادية.

لقد غير الحوار الوطني كثيرا من الصورة النمطية السلبية عن العالم العربي والإسلامي وعن السعودية بالذات، وهي صورة تصفنا بأننا شعوب لا تجيد التواصل الثقافي والحضاري، ولا تتفاعل ولغة الحوار العالمي، وأننا شعوب تفرخ الإرهابيين، وهي صورة نمطية تعزف موالها كثير من وسائل الإعلام الغربية، لكنها صورة آخذة في التغير والتحول فلقد جاء الملك عبد الله ليؤكد على أن الحوار قيمة إسلامية وإنسانية يتشارك فيها السعوديون مع جميع أبناء العالم، وأن السعودية رمز لفكر الحوار ومبادئه ونموذج مشرف بالعالم في أسلوب الحوار، وكان هذا التحول في الصورة ظهر من خلال اهتمام الوفود العالمية بزيارة مركز الحوار الوطني، واستقبل المركز العديد من البعثات الدبلوماسية والإعلامية الأجنبية وكذلك عدد من البرلمانيين والأكاديميين من مختلف دول العالم وتم توضيح مهام المركز وبرامجه الهادفة إلى ترسيخ مفاهيم الحوار والوسطية والاعتدال في المجتمع وتوضيح الموقف الصحيح لشعب المملكة نحو الثقافات العالمية.

إن القيم الحوارية التي أرساها خادم الحرمين الشريفين عبر الحوار الوطني تعد قيما تسهم في إضاءة الصورة السعودية المشرقة في العالم، وتؤكد على أن السعودية التي تحمل هوية ترتكز على عقيدة الإسلام ورسالته، هي مهد رسالة النور والتفاعل الإنساني والحضاري، وهي تحمل دائما رسالة التسامح والسلام والخير لكل الإنسانية.