جواثا.. الدين والحروب والآثار والتجارة.. ما زال ينتظرها الأحسائيون

مسجدها شهد أول جمعة في الإسلام خارج المدينة المنورة

TT

بين التاريخ والأرض، تخفي أرض جواثا كنوزاً أثرية لم تبصر عيون الباحثين على حلتها القديمة، والتنقيب عن بقايا خلفها قاطنوها والقوافل التجارية التي مرت بها، سوى على مسجد اشتهر منذ التاريخ الإسلامي بما يعرف بـ «جواثا»، الذي يقبع بين رمال صفراء تحيطه أشجار فارعة، ومسطحات خضراء، تعرف بمنتزه جواثا، تابع لمنتزه الأحساء الوطني.

وأشار الباحث علي بن صالح المغنم، وكيل الوزارة السابق لشؤون الآثار، في رسالته للدكتوراه الى «أن أرض جواثا ما زالت مهملة رغم وجود كنوز أثرية تعود إلى قرون من الزمان، حيث اكتشف فيها بعد البحث والتنقيب لموسم واحد، قنوات ري صممت على الطريقة الإسلامية، ذات نظام هندسي جميل، من الري المبكر لتاريخ الإسلام، تتفرع منها قنوات كبيرة التي بدورها تتفرع منها قنوات صغيرة ثم برك لحفظ الماء».

ويضيف «أنه وجدت في أرض جواثا بعد البحث والتنقيب، قصور ومبان سكنية تعود إلى العهد القديم، وقطع أثرية».

ولا يزال مسجد جواثا بلا حماية بسبب تعرضه للرياح وسقوط الأمطار، الأمر الذي يؤدي إلى تآكل ما تبقى من مبناه، ودخول بعض الزائرين بين أروقة المسجد وملامسته، ما يؤثر على المبنى في ظل انعدام الرقابة.

وأوضح مصدر في وحدة الآثار «أن المسجد أصبح تابعاً لمشروع الأمير سلطان بن عبد العزيز الخيري للعناية بالمساجد قبل سنة»، وقال «هناك مشروع لترميم المسجد وحمايته من السقوط، وهو يأتي ضمن المشاريع المعدة في المملكة».

ويرجع بناء مسجد جواثا إلى السنة السابعة للهجرة، وهو أول مسجد أسس في شرق الجزيرة العربية، وثاني مسجد صلي به جمعة، بعد مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، واكتشف أنه أقيم فوق مسجد أقدم منه.ويذكر «أن المنذر بن عائد حاكم عبد القيس، والملقب بالأشج، فور علمه بظهور الرسول صلى الله عليه وسلم، أرسل وفداً إلى مكة، وحين وصل الخبر اليقين، أسلم، وأقام مسجدا يعرف بمسجد جواثا».

وروي عن ابن عباس أن «أول جمعة جمعت في الإسلام بعد مسجد رسول الله، في مسجد عبد القيس في جواثا»، ويقصده الزوار رغم طرقه المتكسرة وغير المعبدة، وعدم وجود لوحات إرشادية له، داخل مدن وقرى الأحساء وخارجها، رغم أهميته التاريخية والدينية. ويقول الباحث خالد الفريدة «قبل بدء عمليات التنقيب لم يبق من المسجد إلا رواق القبلة والرواق الشرقي، منها أربعة أعمدة في القبلة تحمل ثلاثة أروقة مدببة، والشرقي ثلاثة أعمدة تحمل رواقين، وأنهما غير متجانسين في شكلهما ومادة بنائهما لاختلاف فترة اعمارهما».

ويضيف الفريدة أنه بعد التنقيب «توقف العمل خوفا من انهيار الأعمدة والأقواس الأولى للمسجد لعدم وجود أساسات وطبقات متداخلة قوية».وتم العمل على ترميم أجزاء المسجد بعد ذلك في عدة مراحل من شرق وشمال وجنوب المسجد والأروقة كذلك، ولوحظ وجود كوة مستطيلة لوضع المصاحف.وعثر في المسجد على كسر من العظام والفخار والأواني الفخارية المختلفة الأشكال والألوان.

وكانت مادة البناء المستخدمة من الطوب اللبن والمونة التي تم إعداد الطوب منها في عملية البناء واللياسة، وتولي وحدة الآثار في الأحساء عناية فائقة بهذا المسجد.أرض جواثاوعلى الرغم من اختزان أرض جواثا على معالم أثرية، إلا أن وكالة الآثار لم تحرك ساكناً لوضع مشروع كبير إلى أرض جواثا للتنقيب والبحث، وتخصيص مبالغ مالية لإعادة تلك القصور والمباني الأثرية للأجيال المقبلة، ما قد يكون معلماً بارزاً في الأحساء، وحسب ما يؤكده معنيون بالآثار، فهي ما زالت أرضاً تعلوها تلال رملية، ربما تمحو جزءا كبيرا من معالمها مع مرور الزمن.

وذُكرت جواثا في كتب التاريخ والحديث والجغرافيا والأدب، فيما اعتبرت حصناً أو قصراً لعبد القيس بالبحرين وهو مسمى «الأحساء، القطيف، البحرين» سابقا، فيما ذكرها الهمداني في صفة جزيرة العرب، وعدها مدينة في البحرين، كذلك ذكرها البكري.

وتبعد جواثا مسافة سبعة عشر كيلو عن مدينة الهفوف، شمال شرق، وتقع ضمن نطاق القرى الشرقية، بالقرب من قرية الكلابية.

واشتهرت جواثا بالرخاء، ورغد العيش، وجاء وصف تجار جواثا في شعر امرئ القيس، بكثرة ما يتاجرون به من أمتعة، وواصفا كذلك كثرة ما معه من الصيد، يقول امرؤ القيس:«ورحنا كأنا في جواثا عشيةنعالي النعاج بين عدل ومشنق»وعرف عن جواثا كما تقول بعض الدراسات التاريخية «انها مركز تجاري، تقصدها القوافل التجارية، وتعود منها محملة ببضائع التمور والمنتجات الزراعية والعطور» أو «سوق تجارية ترد إليها تجارة جنوب الجزيرة من البخور والعطور وتجارة بلاد فارس من المنسوجات والمصنوعات، ومنها إلى أجزاء الجزيرة العربية، وقد استمر عمرانها خلال الفترات الإسلامية»، فيما وردت في شعر أبي تمام: «زالت بعينيك الحمول كأنهانخل مواقر من نخيل جواثا»وبني في المكان مسجد، لنشر الدين الإسلامي، الذي سمي باسم المكان، ويذهب أهل اللغة أن كلمة جواثا من جأث الرجل إذا فزع، إذ كانوا يرجعون إليها عند الفزع، وهذا ما يؤيد وجود حصن.

وعلى الرغم من وجوده ـ المسجد ـ بين كثبان التلال الرملية، وظهور منخفضات في الأرض، ودلائل استيطان قديم ومبان مندثرة لا ترى، إلا أن معالم الزمن لم تمح رائحة المكان من القدم، فبقي دلالة على أهميته رغم السنين.

والمتتبع للمكان من ذوي الخبرة تظهر له دلائل استقرار نشط موضع التلال الرملية، ضمن نطاق مشروع حجز الرمال «منتزه الأحساء الوطني»، فتشاهد مجموعات من التلال الأثرية التي تغطيها الرمال، وتنتشر فوقها أصناف عديدة من الكسر الفخارية والخزفية وأنواع من الزجاج الملون والأبيض الشفاف، لكن ذلك منذ عقود، كما يفيد أحد الباحثين.

وضمت جواثا رفاة من استشهد من المسلمين في حروب الردة ومنهم الصحابي الجليل عبد الله بن سهيل بن عمرو، وعبد الله بن عبد الله بن أبي رضي الله عنهما.

وذكرت مصادر تاريخية أن حصن جواثا الذي اعتصم به المسلمون الذين ثبتوا على دينهم عندما حاصرهم أهل الردة، وقد استنجدوا بخليفة المسلمين أبي بكر الصديق رضي الله عنه، على لسان شاعرهم عبد الله بن حذف الكلابي:«ألا أبلغ أبا بكر رسولاوفتيان المدينة أجمعينافهل لكم إلى قوم كرامقعود في جواثا محصريناكأن دماءهم في كل فجشعاع الشمس يعشي الناظريناتوكلنا على الرحمن إناوجدنا النصر للمتوكلينا»وقد أنجدهم أبوبكر رضي الله عنه بجيش يقوده العلاء بن الحضرمي وقضى على الفتنة، فجواثا الأمس مدينة بها حصن ومنبر.