«الصين الشعبية» تحيط بـ«الحرم النبوي» من جميع الجهات

سيطرة تامة لبضائعها وغياب للصناعات والحرف «الوطنية»

بائعات سلع صينية رخيصة بجوار ساحات الحرم بالمدينة المنورة
TT

يدور زوار الحرم النبوي حول جهاته الأربع بحثا عن هدية غالية يعودون بها من أحد الأماكن والديار المقدسة عند المسلمين، فلا يجدون أمامهم سوى طوفانا من البضائع «الصينية الرخيصة»، فيما لا يقف أمام هذا المد الصيني سوى باعة «التمور» و«النعناع» المديني.

سور البضائع الصينية يحيط بخاصرة الأسواق في السعودية، ولكن تظل الأسواق المحيطة بالأماكن المقدسة، أكثر تمايزا بطبيعة الصورة التي كانت تمثلها الأسواق والبضائع التي تشكل جزءا مهما في خريطة اهتمامات أي زائر للمدينتين المقدستين، مكة، والمدينة.

يقول، عبد العظيم السيد، وهو مصري، يأتي للمرة الأولى إلى الأماكن المقدسة، انه واجه حيرة كبيرة في نوعية الهدايا، التي ينتظرها أقاربه «ليس أمامي سوى شراء النعناع والتمر. رائحة البضائع الصينية أزكمت أنوفنا في كل مكان»، فيما عبّر عن دهشته من غياب «المنتجات اليدوية التي تعكس ثقافة المكان والناس».

في المقابل، تقول سعدية، وهي معتمرة جزائرية، جاءت بصحبة ابنها، الذي كان مشغولا بشراء هدايا العودة من الرحلة الأهم في حياته، انها وابنها، على مدى ثلاثة أيام من التبضع، واجها صعوبة، في العثور على منتجات وسلع، لها روح المدينة المنورة، وأن ما فاجأهم أكثر هو أن البضائع التي حاصرتهم في كل مكان ، هي ذاتها التي يشاهدونها في أسواق بلدانهم الشعبية، وتضيف حضرت قبل نحو 15 عاما، وعدت محملة بهدايا يدوية، ما تزال تزين منزلي، والناس يسألونني عنها. وتضيف وهي تملأ رئتيها بالهواء والحسرة: «المكان تغير كثيرا، ونحن لا نعرف سوى الأسواق المحيطة بالحرم النبوي، لم يتبق سوى «التمر» و«النعناع».

البائعون يدافعون عن أنفسهم، بأنه ليس أمامهم سوى هذه البضائع التي يمكن لها تحقيق مداخيل مناسبة لحجم الايجارات المرتفعة حول ساحة الحرم النبوي، إذ يرى، أبو أيمن، وهو بائع لملابس الأطفال، أنه «ليس هناك منتجات محلية في مجال تجارته يمكنها الصمود أو المنافسة سعريا» مضيفا «أين هي البضاعة الوطنية أساسا.. ليس أمامنا سوى ما تجود به المصانع الصينية».

من جهتها، انتقدت الدكتورة عزيزة الأحمدي، مديرة مركز سيدات الاعمال بالغرفة التجارية الصناعية في المدينة المنورة، خطط التطوير والاستثمار في المنطقة المركزية، قائلة: «للأسف غابت خطط إنشاء أسواق متخصصة بالصناعات والحرف اليدوية، عن خطط التطوير السابقة». كما ضربت مثالا عن «تعثر كثير من الافكار المبدعة في بعض الصناعات اليدوية التي كان لها أن تفتح بيوتا عديدة، وتحل جزءا من مشكلة البطالة والفقر خاصة في أوساط السيدات».

الجدير بالذكر أنه كان لأهل المدينة المنورة، سوق يسمى «المناخة»، يعود لعصر النبوة، عندما أقره الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن كان يسمى سوق «بني قينقاع»، ليصبح السوق مركزا حضاريا يؤمه القادمون من كل مكان، وفيه كانت تقضى مختلف الحاجات التجارية والاجتماعية.

وتشير المصادر التاريخية إلى أن تسمية السوق، جاءت نسبة إلى فسحة كبيرة كان أغلب الحجاج ينيخون جمالهم فيها ويقيمون بها مدة الزيارة، في المدينة المنورة. بينما شكل ذلك السوق ما يعتبر بلغة العصر الحديث «سوقا حرة» حيث كان هناك التزام أدبي، بأن «لا يقام في المناخة بناء ثابت، حتى أن المتاجر وعشة المحتسب كانت جميعها مبنية على شكل عشش وصناديق بحيث يسهل إزالتها، فبقيت المناخة سوقاً عاماً ومناخاً لجمال الحجيج. وقد كان الامتناع عن البناء في المناخة تمشياً مع أمر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعدم البناء فيها وجعلها وقفاً للمسلمين».

ومن أبرز النشاطات التجارية داخل السوق، كان هناك، سوق لـ«العياشة»، يختص بجميع أنواع الخبز، وسوق «السمانة والرواسة»، وسوق «الفلتية» وتباع فيه أنواع الخيط والجلود، و«الخضرية»، و«العطارة»، وغيرها من أسواق «النحاسين»، و«الفطايرية والطباخين»، وأسواقا أخرى، لمختلف المهن والحرف، التي كانت تعطي الانطباع الخاص لثراء المدينة المنورة وأهلها، وقدرتهم على التمازج اليومي، مع نمط الحياة العصرية، على مستوى الانتاج، والتخصص، والقيمة النهائية، لقيمة العمل التجاري، قبل أن يتحول الى النمط الاستهلاكي المعروف حاليا.

وكانت فكرة دعم الأسر المنتجة، والمشاريع الصغيرة، برزت على السطح في خطط اللجان التجارية، خلال العامين الماضيين، بعد دخول المرأة مجالس الغرف التجارية وأروقتها الداخلية، إلا أن تعثر هذه المشاريع لتصبح واقعا مهنيا يضخ عشرات الصناعات، ويحقق مداخيل جيدة، لمن لا تساعدهم ظروفهم على الخروج إلى العمل، وأغلبهن من السيدات.

غير أن ناشطات في العمل التجاري، ينظرن إلى الأمر من الزاوية الصعبة، وأنه ما يزال مرهونا بجدية تنفيذ تلك الخطط، والبدء في برامج تدريبية وتأهيلية، وتوفير أجواء ذات جدوى اقتصادية في مرحلة التسويق، والحصول على دعم حكومي، وغطاء قانوني لتلك الصناعات التي لا تزال تخرج رأسها من خلف الباب ثم تعود، تاركة المجال لعشرات الالاف من الاصناف الصينية وما شابهها، في التمتع وحيدة بكعكة قوامها مليارات الريالات.