«العرضحلجي» المهنة الأولى في ديوان القلم

حظيت قديماً بمكانة بارزة كوسيلة استعطاف وطريق مؤدية لكسب القضايا

TT

لم تتجاوز الساعة الثانية بعد الظهر، عندما تقدمت إحدى المسّنات وهي تستند الى ذراع صبية، من أبو عاطف الجالس خلف مقعده؛ والذي احتل جزءا من الرصيف المقابل للجهة الشرقية لمحكمة جدة العامة، بغرض الاستفسار عن موعد جلستها إلى جانب اسئلة أخرى، ختمتها بالسؤال عن اسم القاضي، ليأتيها الجواب من ابو عاطف «العرضحالجي»، أحد الذين اتخذوا من ذلك الرصيف مكاتب لهم في الهواء الطلق، وتحت مظلة صغيرة بالكاد تقيهم أشعة الشمس الحارقة، خاصة في فصل الصيف، الذي اعتبره ابو عاطف افضل المواسم لكتّاب المعاريض، معلقاً على ذلك بقوله «الناس في الصيف بدون شغل، يعني متفرغين للشر».

بدأ أبو عاطف ممارسة مهنته العتيقة في ثوبها الجديد منذ ما يقارب الثمانية أعوام. هي خلاصة تجربته داخل اروقة المحاكم، وملاصقته لكبار كتّاب المعاريض من أمثال محمد عيضة الحارثي والشيخ باحطاب في زمن لم تتجاوز فيه نسبة أصحاب القلم في معظم مؤسسات الدولة عدد أصابع اليدين. حينها لم يدُر بخلد المراسل الصغير التحول لـ«عرضحالجي»، يحمل حقيبته السوداء المنتفخة بالأوراق الرسمية ونماذج لمعاريض الدعاوى القانونية، بدون أن ينسى قلمه الأزرق الذي يحمل سر المهنة العتيقة، ومكتفياً بدوره في التعامل مع الكومبيوتر في حال احتاج الأمر لمفايتح الكيبورد. وتأتي مهنة «العرضحالجي» التي كانت تحظى قديماً بمكانة بارزة عند اصحاب الدعاوى كونها وسيلة الاستعطاف، والطريق المؤدية لكسب القضية، اياً كانت. وكما هو حال الحِرف التي تعطي صاحبها بقدر ما تأخذ من وقته أعطت هذه المهنة كتّابها وهجاً عموده الفقري قوة الأسلوب وفصاحة البيان، ما كان الفيصل في تميز كاتب عن آخر من دون الحاجة لشهادات عليا، كما أوضح أبو عاطف «موهبة الكتابة هي قوام هذه المهنة، والآن اصبحت اكثر يسراً، في وجود الاستمارات التي تعتمد صيغة واحدة تتطلب ملء ثلاث خانات تمثلها طلب الدعوة وأسانيدها وما يطلبه المدعي، ما يساهم في تسهيل عمل القاضي بنسبة 50 في المائة».

وفي زمن ساهمت تغيراته باغتيال كثير من المهن، ربما كان آخرها مهنة موظفي العرضحالجية، الحريصين على الالتزام بدوام المحكمة، الذي يبدأ في السابعة صباحاً وينتهي عند الثانية بعد الظهر، جاء احتجاج أبو عاطف على دخلاء المهنة من خلال بطاقة معايدته التي ذيلها بتحذير زبائنه، والمارة في طريقهم للتقاضي، بالمثل القائل «احذر من يهرف بما لا يعرف» معللاً ذلك بانعدام ثقافة التقاضي، كما أسماها عند كافة شرائح المجتمع السعودي، ما يوقع كثيرا منهم في فخ النصب والاحتيال، حتى وصلت تسعيرة المعروض إلى مبالغ طائلة ربما تجاوزتها إلى عمل وكالات شرعية في بعض القضايا. فيما تحتل قضايا فسخ النكاح المرتبة الأولى في قائمة المعاريض. ولم تقف مهنة «الأجر والأجرة» كما أطلق عليها ابو عاطف عند بوابة المحاكم الشرعية، بل تجاوزتها لمؤسسات حكومية أخرى، ربما ابرزها الجوازات، ولأن عائد مهنة العرضحالجي لا تُُسمن ولا تُُغني من جوع، فقد شمل تحرير صحف الدعاوى، كتابة المعاريض الموجهة لمن يملكون الحل والربط، كالملك والوزراء. وأرجع أبو عاطف زوال أخلاقيات المهنة التي كان اصلاح ذات البين دعامتها، بين المتخاصمين بالدرجة الأولى، في الوقت الحالي، إلى الخلط بين العرضحالجية والدّعوجية، ممن استبدل رداءه بمعطف المحاماة، فيما غيّر آخرون جلدهم بجلد الفقيه، وهو الأمر الذي علق عليه أبو عاطف بقوله «مع الأسف البعض بجهله اعطى كتّاب المعاريض حجماً اكبر منهم».