«العقيلات».. نجديون مهاجرون تحولوا إلى تجار ومحاربين

لعبوا دورا في التجارة والسياسة داخل الجزيرة العربية وخارجها طيلة 4 قرون

عرض حديث لحال رجالات العقيلات خلال رحلاتهم التجارية («الشرق الأوسط»)
TT

أعاد المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية 23) «العقيلات» إلى الواجهة مجدداً، حين قدم المهرجان لوحة حية عن أولئك الرجال الذين انطلقوا من نجد قبل عدة قرون وجابوا أنحاء المعمورة على ظهور الإبل أو المراكب تجاراً ومحاربين وتركوا بصمات في الدول التي وصلوا إليها. وشارك في هذه اللوحة التراثية أحفاد «العقيلات» تتويجاً لمسيرة الآباء والأجداد وتعريفاً بالجيل الجديد لما قام به هؤلاء الرجال من جهود لدعم اقتصاد بلادهم ونقل ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم إلى البلدان التي كانت محطاتهم طيلة القرون التي شهدت مسيرتهم اللافتة.

وشكل «العقيلات» أحد أبرز وأهم طلائع المهاجرين النجديين الذين ساحوا في الأرض طيلة أربعة قرون طلباً للرزق وجلب الخير، وتمكنت هذه الجماعة من خلال نشاطها التجاري على ظهور الإبل من إيجاد عصر استمر 400 عام، يمكن أن يعرف بـ«اقتصاد العقيلات» القائم أساساً على الإبل والخيول والأغنام والسمن والأقمشة والتوابل والبهارات، وعمروا من خلاله طرق التجارة بين الشرق والغرب وغيرها من الطرق التي كانت شريان التجارة عبر العقود الماضية.

وأوضح لـ «الشرق الأوسط» عبد اللطيف صالح الوهيبي التميمي الباحث في شؤون العقيلات ونائب المشرف العام على مجموعة أحفاد العقيلات بأن العقيلات هم تجار من نجد وبالأخص القصيم وبالتحديد بريدة، لا ينتمون إلى قبيلة أو عائله معينة، وهم من الحاضرة يتاجرون بالإبل بالدرجة الأولى والخيل والتجارة العامة، يصدرون الإبل والخيل والأغنام والسمن إلى بلاد الكويت والعراق والشام والأردن وفلسطين وتركيا ومصر ويستوردون الملابس، الاسلحة، القهوة، الشاي، السكر، التمّن وجميع الأشياء التي يفتقدونها في بلادهم، وعملوا ما يقارب من أربعمائة سنة بهذه التجارة وحتى عام 1949 حين انقرضت هذه التجارة، وتمكنوا من ربط الدول العربية والإسلامية اقتصادياً وتجارياً وسياسياً، كما وضع العقيلات ماضياً مجيداً ومشرفاً لبلادهم في الخارج مثل الامانة والشجاعة والصبر والتعاون ومعرفة الطرق والإيثار والمروءة وحب الوطن والإخلاص والصدق في المعاملة وكان العقيلات يضرب بهم المثل في الأمانة والصدق، يقولون في المعاملة في البيع والشراء في بلاد الشام وغيرها من البلاد، مثالاً( خلك عقيلي) وهم من حاضرة القصيم الاّ أن أهل بريدة كانوا يحتلون المكانة الأولى عدداً ونشاطاً تجاريّاً. أفراد رحلات العقيلات

* تضم قوافل العقيلات أفراداً يحملون مسميات منها: «العقيلي» وهو التاجر صاحب المال، و«الراعي» الذي يتولى الرعي للإبل والمحافظة عليها، و«الملحاق» ويقوم بخدمة الرحلة، و»القهوجي» كمسؤول عن القهوة و«الشراع» الذي يعرف حالياً بالخيمة و«الخوي» ويكون من أفراد القبيلة التي تمر القافلة على أراضيها، كما أن هناك مسميات تطلق أثناء الرحلة فكلمة (غرّبوا) تعني سفرهم إلى الشام والأردن وفلسطين ومصر، أما كلمة «شرّقوا» فتعني عودتهم إلى بلادهم مشرقين، فيما تعني كلمة «عدوا» أي عبروا وادي الأردن، كما أن هناك مسميات أخرى تطلق، كـ «معدية» وهم رجال من العقيلات يعدون الإبل من الجهة الشرقية من القنطرة إلى الجهة الغربية وإيصال الإبل إلى الأسواق في جميع البلاد وخبرتهم في الطرق وهم يقيمون في هذه البلاد، وكلمة «شراع» مجموعة من العقيلات ويقال (سافر أمير العقيلات فلان إلى الشام أو إلى العراق ومعه كذا «شراع» أي كذا تاجر من العقيلات)، كما يطلقون كلمة «مضحّي» على مكان الاستراحة والإقامة ضحى لتناول الغداء، و«معشّي» حيث تطلق على الاستراحة والإقامة مساءً لتناول طعام العشاء.

واختلفت الطرق التي سلكها العقيلات خاصة والمسافرون عامة حسب الوقت الذي تسير فيه القوافل، ففي فصل الصيف تحتاج القوافل إلى الماء الكثير، سواء بالنسبة للمسافرين أو الإبل والخيل، ولذلك تجدهم يتابعون الموارد حتى ولو طال عليهم الطريق في خلاف فصل الشتاء الذي لا تحتاج الإبل فيه إلى الماء مدة طويلة، ولذلك فهم يختصرون الطريق والموارد اختصاراً واضحاً وهنا نوضح بعض طرقهم التي سلكوها في مسيراتهم. بداية يكون منطلق السفر من الجردة في بريدة، وعندما يتجهز العقيلات للمسير يخيم الحزن على أهاليهم وعلى أهالي بريدة عامةً بسبب فراق الأقارب والأصحاب والأحباب. ويسلك «العقيلات» طرقاً على حسب أماكن شراء الإبل ومنها طريق صيفي، وهو طريق بريدة عمان، وطريق القصيم إلى فلسطين ومصر في الشتاء، وطريق القصيم عمان في الشتاء.

ويتعرض العقيلات لبعض المواقف الصعبة ويتمثل أبرزها في عدم العثور على موارد المياه، إضافة إلى العواصف الصحراوية الشديدة والشمس الملتهبة، وقطاع الطرق وأساليب غدرهم المتنوعة والمفاجئة.

وتذكر الكتب التاريخية بأنه رغم ذلك ومع كل هذه المواقف والمعوقات فالعقيلات يتصرفون بحكمة ودراية. ومن تلك المواقف أنهم كانوا متجهين إلى الشام وقد انتابت منصور العبد الرحمن الشريدة ريبة في أثناء السفر من وجود قطاع طريق فقال لمرافقه (حط بالبريق مويه) أي نريد أن تعمل لنا أبريقاً من الشاي فقال له ان ركب العقيلات قد انطلق فقال (حط بالبريق مويه) فتسبب ذلك بتأخرهم عن الركب أكثر من ساعتين ثم لحقوا قريبين من الركب وإذا بقطاع طرق يطلقون النار على القافلة فقال منصور لمرافقه اقترب مني واحمِ ظهري فبدأ بإطلاق النار على قطاع الطرق وقتل عدداً منهم واستسلم الباقون بسبب شجاعة الرجل ومفاجأته لهم لأنهم لم يكونوا يتوقعون من يهاجمهم من الخلف ثم أمر بإشعال النار إشعارا بانتهاء المشكلة.

تجارة العقيلات

* ولرحلات «العقيلات» مستلزمات كثيرة عرفوا باصطحابها معهم في جميع تنقلاتهم، بدءاً بأدوات الركوب التي تشتمل على الأشدة، والهودج، والخروج والحدائج، والمسامات وغيرها، مروراً بأدوات السقي بكل ما تحتويه من القربة، الراوية، الرشاء، المحال، ووصولاً إلى أدوات الراحة والرحلة والقهوة ومستلزمات الطبخ.

وتفرض الحكومات رسوماً على تجار الإبل، وتختلف هذه الرسوم باختلاف هذه الدول ففي الأردن يباع البعير في العاصمة عمان بسبعة قروش أردنية والدينار مائة قرش، أما سوريا فيأخذون على الجمل ليرتين أما مصر فهي أقل البلاد رسوماً فقد كانت الحكومة المصرية تأخذ على الجمل ثلاثة قروش وكانت أعلى قيمة للجمل عندهم ثلاثين جنيهاً وهذا ما جعل التجارة في مصر أكثر رواجاً من غيرها.

كانت تجارة الإبل هي الركيزة العظمى في تجارة العقيلات، حيث يشترون الإبل من جميع انحاء الجزيرة العربية ثم يتجهون إلى الأردن وبلاد الشام، ومقر البيع والشراء مصر في السوق الأعظم. كما يتاجرون بالخيول العربية الأصيلة.

وفي التجارة العامة كان «العقيلات» يشترون البضائع من بلاد الهلال الخصيب ويوردونها إلى نجد لبيعها، مثل الاقمشة والأصواف والأواني والأرز والتمّن والسكر والشاي والاسلحة وغيرها من البضائع. وحمل سجل «العقيلات» قائمة طويلة من أمرائهم واسرهم ورجالاتهم الذين جابوا الأرض، ومن أبرز أمرائهم: حجيلان بن حمد آل أبو عليان، ومحمد بن علي العرفج آل ابو عليان، ومهنا بن صالح ابا الخيل، صالح بن حسن ابا الخيل، وسليمان بن حسن المهنا ابا الخيل، واحمد بن عبد الله الروّاف، حمد بن أحمد الرواف، فوزان السابق، عبد الله الرميح، سليمان الرميح، عيسى الرميح، منصور بن سليمان الجربوع، ابراهيم بن سليمان الجربوع، منصور بن عبد الرحمن الشريدة، صالح السليمان المطوع، محمد بن عبد العزيز المديفر، علي بن ابراهيم الرشودي، إبراهيم بن علي الرشودي، سليمان النجيدي، محمد بن عبد الله البسام، محمد بن عبد الله بن تركي العطيشان، سليمان النجيدي، محمد بن عبد العزيز الربدي، إبراهيم بن عبد الرحمن الشريدة، يحيى بن عبد الرحمن الشريدة، حمود البراك، محمد بن علي الشويهي، صالح بن عبد الله بن تركي العطيشان، حمود النجيدي، جار الله البريدي وصالح بن عبد العزيز بن عبد الله الحليسي.

ومن أشهر أسر العقيلات كل من: آل الربدي، آل الجربوع، آل الرواف، آل الشريدة، آل حجيلان، آل فوزان السابق، آل مطوع، آل النجيدي، آل الرميح، آل الفايز، آل سمحان، آل المشيقح، آل الربيش، آل العمري، آل عيسى، آل عطيشان، آل حصين، آل خليفة، الحويطي، آل غصن، آل السعيد ـ آل البازعي، آل البراك، آل الرشودي، آل العجاجي، آل الدبيخي، آل القرعاوي، آل أبا الخيل، آل السويلم، آل يحيى، آل الرشيد، آل المطلق، آل شويرخ، آل الغنام، آل المديفر، آل المنجم، آل طويان، آل الوشمي، الحبلين، آل الصبيحي، آل ابن أحمد، آل البليهي، آل سعيد، آل صغير، آل قسومي، آل حميد، آل نودلي، آل لهيب، آل مهلب، آل الفرنجي، آل دبيان، آل سلطان، آل مبارك، آل هدلق، آل قطامي، آل الجاسر، آل نويصر، آل نصار، آل فيروز، آل بابطين، آل الحليسي، آل الظالع، آل العجلان، آل الديسمان، آل الصقير، آل عمرو، آل جلاجل، آل القحيمي، آل الزايدي، آل الأشقر، آل رشود، آل ثويني، آل القفيدي، آل الصانع، آل عباس، آل عمير، آل التويجري، آل حميدان، آل خضر، آل الحسين، آل الحمر، آل الدخيل، آل الخطاف، آل هويمل، آل بديوي، آل حمود، آل سيف، آل جارالله، آل الشرياني، آل قصير، آل خلف، آل الشويهي، آل مديهش، آل الدريبي، آل الصقعبي، آل حمزة، آل رشيد، آل شيبان، آل هزاع، آل طرباق، آل العبيري، آل الضبيعي، آل العليط، آل العويد، آل حماد، آل رميان، آل حميدة، الباحوث، المشوح، العبيد، آل فضل، آل راشد، آل فرج، آل سويد، آل عبد المنعم، الشايع، آل خضير، آل منيف، آل نمير.

خواطر عقيلية

* ويوضح الشيخ صالح السليمان العمري في خواطر نشرت في كتاب «نجديون وراء الحدود» بأن العقيلات يصدرون الخيل النجدية التي تستخدم في صفوف الجيش الانجليزي في بومباي ولركوب البشوات في مصر كما يتعاملون بيعاً وشراءً في الابل والغنم والسمن ويأتون بنقودهم معهم من الشام أحياناً، وأحياناً أخرى عن طريق التحويل على البصرة أو الكويت أو العقير، مضيفاً بأن العقيلات لايسافرون إلا في فصل الشتاء ولكنهم قد يسافرون أحياناً في فصل الربيع. كما أنهم لا يسافرون إلى جماعة للدفاع عن أموالهم وذلك قبل مرحلة استتباب الأمن في البلاد وكان البعض منهم يسافر برعية واحدة وفي بعض الأحايين بعشرات الرعايا وذكر أنه في عام 1345 هجرية عبر قناة السويس 125 ألف بعير في شهر واحد.

وفي خواطر مماثلة ذكر الشيخ محمد بن ناصر الوشمي بأن جماعة العقيلات يعرفون ديار مصر والشام أكثر من أهلهم لأنهم كانوا يسافرون كثيراً إليهما وقد استخدموا طرقاً كثيرة منها طريق دمشق وحلب وحمص وحماة وجبل الدروز وإذا تبقى شيء من الإبل يصدر إلى فلسطين.

أما الشيخ عمر البراك فذكر بأن والده جاء من «الشقة» في بريدة وانضم إلى العقيلات وكان يتعامل معهم في تجارتهم بكل أنواعها وخاصة الإبل، وقد استقر في بلبيس الشرقية وهي مقر إقامة «عقيل» حيث جمال نجد كلها تأتي إلى بلبيس ثم تتوزع بعد إذ في أسواق مصر. ويصف الرحالة داوتي مدينة بريدة وهي طالعة فوق ربوة عالية في النفود بقوله: «تبدت لنا كما تتبدى الرؤيا في الأحلام من على بعد، مدينة طينية عظيمة تقوم على ذلك التيه محاطة بأسوار وأبراج ثم طالعتنا المدينة بشوارعها ومنازلها، نعم تلك هي بريدة، وتلك هي المئذنة المربعة التي ترتفع على مسجدها القديم. لقد خيل إلي وكأني أنظر من على جبل الزيتون قدساً أخرى قامت في الصحراء»، ويقدر الرحالة عدد سكان بريدة عام 1879 بحوالي 5 آلاف نسمة وقد راعه أن يجد حبال السجق الطويلة التي ربما قد تكون جلبت من بلاد الرافدين تتدلى على أبواب المطاعم الواقعة خلف سوق العلف. كما وجد داوتي في كثير من الحوانيت سلالاً ممتلئة بالجراد المجفف. وفي هذه المطاعم يستطيع من يبذل نقوده أن يستمتع بوجبة ساخنة من الأرز ولحم الضأن، أو لحم الإبل المسلوق ويزيد داوتي بالقول: «لقد أدركت أن الإنسان يمكن أن يعيش هنا في بريدة في قلب شبه جزيرة العرب وسط بدوها كما يعيش في بلاد الرافدين، مع فارق واحد وهو عدم وجود مقاه عامة. ولاحظ داوتي أن بعض نساء بريدة يعملن في بيع الخضراوات وقال: «أجد هنا أن دمشق ليست بمثل هذا التحضر». أما عنيزة التي استأثرت باهتمام العديد من الرحالة فقد وصف داوتي وصول قافلة أهل عنيزة من الكويت واسترعى انتباهه أن أحد أفراد القافلة عاد بسبعة عشر جملاً محملة بالأقمشة تزن نحو ثلاثة أطنان وهي خاصة بابنه التاجر في الكويت أرسلها ليسدد بها ديناً مقداره ثلاثة آلاف ريال مستحقة لورثة القاضي أحد أصدقائه توفاه الله قبل أن يستخلص دينه، مضيفاً أن القوافل تأتي لعنيزة محملة بكل شيء حتى الأدوية الانجليزية وذلك عن طريق الهند عبر الخليج. ويحكي بأنه وصف لمريض استعمال زيت كبد الحوت ووجد الرجل في اليوم نفسه زجاجة منه في السوق.

وصحب مجموعة من الاوروبيين العقيلات في رحلاتهم ووصفوهم بأنهم مثل ابلهم يتحملون التعب ومشاق الصحراء، كما أنهم يتميزون بقوة البنية وقد عرفوا بالشجاعة وبالوفاء والأمانة فلا تضيع عندهم الوديعة أبداً يدافعون عن أموال الغير بالغيرة نفسها التي يدافعون بها عن أموالهم جديرون بالثقة التامة النابعة من روح المسؤولية. كما تتصف العقيلات بالقناعة في تناول الطعام وبالبساطة في عاداتهم كما يتميز سلوكهم بالخلو من كافة أنواع التكلف ويتصرفون على سجيتهم. ويبذلون شتى ضروب الفدا وهم غيورون على دينهم في غير تعصب ويبتعدون تماماً عن تناول المشروبات الروحية وكل المسكرات، ويحكي داوتي عن شخص يدعى إبراهيم عمل في حفر قناة السويس فيقول: «إن بعض جيرانه في المعسكر من الأوروبيين دعوه إلى تناول الخمر فرفض ولكنه قبل دعوتهم لتناول الطعام دون حرج، لم يكن في العقيلات تعصب يبعدهم عن مخالطة الأقوام الآخرين ولا تهاون يجعلهم يتركون تراثهم انبهاراً بالآخرين. وكانت لهم مجالس هزلهم حين يلتقون في المدن الكبيرة يتبارون فيها بشعرهم في براءة وعفوية».

وحظي «العقيلات» بتقدير واهتمام القيادة السعودية، منذ زمن بعيد، وتميزت علاقاتهم بذوي الشأن والقرار، عبر الزيارات المتبادلة والمراسلات والوثائق، كما حظي أحفادهم الذين يعيشون اليوم بالتقدير ذاته، حيث سبق وأن أطلق عليهم خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز خلال زيارة له لمنطقة القصيم لقب «سفراء الوطن».