المجتمع المكي.. عناصر متنوعة صهرتها أقدس البقاع

شهد نشاطاً متغيراً في عهود العثمانيين والأشراف والسعوديين قبل عقود * هجمة أوروبية تتسبب في ازدحام المدينة المقدسة بالفارين المسلمين خلال القرن الـ19 * عمامة هندية وجلباب مصري وجبة شامية أزياء الأهالي.. وحفلات لافتة بعد الحج النرجيلة فيها سيدة الموقف

منظر للحرم المكي والجهة الشمالية الغربية لمكة صورة التقطت بعدسة ميرزا أحد المصورين المسلمين قبل 12 عقدا خلال زيارته للمدينة المقدسة
TT

أظهرت كتابات الرحالة الذين زاروا مكة المكرمة في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري صورة واضحة المعالم للمجتمع المكي، كما أظهرت نسيج المجتمع ورصدت مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في هذا المجتمع خلال هذه الفترة وألقت الضوء على أنشطته وإيجابياته وسلبياته، كما أوضحت الفوارق والتغيرات التي حدثت في النشاط المجتمعي المكي في العهود: العثماني والشريفي والسعودي.

وسلطت هذه الكتابات الضوء على صورة العمران في العاصمة المقدسة في فترات كتابات الرحالة، وأظهرت قدرة مكة في الفترة ذاتها على استيعاب عناصر متنوعة من مختلف بلدان العالم الإسلامي، وأن تصهرهم في بوتقتها، وتستفيد من خبراتهم وأموالهم في النشاط التجاري والسكاني.

ونجح الدكتور عبد اللطيف محمد الصباغ من قسم التاريخ بكلية البنات بالاحساء في رصد صورة المجتمع في كتابات عدد من الرحالة العرب والأجانب الذين زاروا مكة في فترات مختلفة خلال الـ130 عاماً الماضية وأبرزهم المستشرق الهولندي هور خروينة، والضابط الروسي دولتشين، والياباني تاكيشي سوزوكي، وعدد من العرب والمسلمين منهم إبراهيم رفعت، ومحمد لبيب البتنوني، ومصطفى الراعي ومحمد حسين هيكل، وعباس متولي حمادة من مصر، وعبد الغني الشهبندر من الشام، وغريب الهاشمي من لبنان وغيرهم.

وجاءت دراسة الدكتور الصباغ حول كتابات هؤلاء الرحالة التي نشرتها مجلة «الدارة» الصادرة عن دارة الملك عبد العزيز في عدد خاص عن مكة في أربعة محاور أساسية، قدم المحور الأول منها طبقات المجتمع المكي وأنشطتهم، فيما يعرض المحور الثاني صورة الأسرة والعادات والتقاليد السائدة، في حين يلقي المحور الثالث الضوء على الأمراض الاجتماعية، ويتناول المحور الرابع المؤسسات الاجتماعية والترفيهية في المجتمع المكي.

وبدأت الدراسة بالحديث عن صورة العمران في مكة إبان فترة الدراسة بصفته مظهراً لحركة المجتمع، حيث اشارت إلى أن منازل مكة المكرمة تمتد من الشمال إلى الجنوب آنذاك في واد بطول نحو ثلاثة كيلومترات، وبعرض يقرب من نصف ذلك، ويأتي الحيز العمراني محصوراً بين سلسلتين من الجبال تكادان تتصلان عند أبوابه، مشكلة حماية طبيعية له. وتغطي البيوت كل سفوح الجبال من ناحية الحرم، ثم تتدرج إلى قلب الوادي، وقد بلغ تعداد بيوت مكة في عام 1910 نحو سبعة آلاف بيت، يحتشد فيها زمن الحج ما يزيد على مائتي ألف شخص، وتكثر في منازلها الطوابق المقتطعة، ولا حوش لها في الغالب، إلا ما كان لكبرائها ومبانيها قديمة مشيدة بالحجارة الجيرية، وزينت واجهاتها بالرواشن (البلكونات) ونوافذها بالشيش المثقب (الارابيسك).

وتتراوح بيوت مكة بين ثلاثة وخمسة طوابق، مطبوعة بهندسة معمارية شرقية، وملتصقة ببعضها بعضا، وتغطي جدرانها صفوف من نوافذ (مشربيات) عليها ستائر دقيقة تتصدى لجيوش الذباب والناموس، والطابق الأرضي يقوم مقام الفناء، أما الأدوار العليا فمقسمة إلى شقق صغيرة، وعلى السقف سور عال، يشكل طابقاً مكشوفا، يستخدم للراحة ليلاً، وللطهي نهاراً، تمرح فيه النساء بعيداً عن أعين الرجال.

والبيوت في مكة ـ على بساطتها ـ نظيفة جدا. جدرانها مبيضة من الداخل والخارج، وغرفها مفروشة بتخوت منخفضة، تحتها سجاد أو حصير، معدة للجلوس على الأرض، أما زينة الجدران فمن آنية من البورسلين والمعدن ومرايات عدة، وأقوال مأثورة على ورق ملون ومركبة في أطر، أما لوازم النوم فيخفونها في غرف خاصة، إذ يعدون عرضها ابتذالاً. والغرف والسلالم مكنوسة بعناية، والحمامات لها أرضية من الأسمنت نظيفة. تصرف ببراعة في خزانات بالشوارع محكمة السداد، وحمامات المنازل ليست لها رائحة، لبعدها عن الخزانات، أما الحمامات العامة على قلتها فلها رائحة كريهة لا تحتمل. وتجلب المياه للمنازل بواسطة سقائين من مجاري عين زبيدة.

أما الشوارع في الأحياء القديمة فتتسع وتضيق وتنحني بشكل غير منتظم، وتتصل بها أزقة ضيقة جدا. أما الأحياء حديثة البناء. مثل: أجياد وجرول والمعابدة فشوارعها أكثر انتظاماً. ومبانيها على جانب من الجمال. ونظراً لعدم وجود أفنية فإنهم يحلبون الأبقار والأغنام في الشوارع. ويربون فيها الدواجن، وهي مرتع للكلاب الضالة، وهي أيضاً غير مرصوفة ولا مضاءة ليلاً إلا بمصابيح جاز يعلقها الأهالي هنا وهناك، وتُكنس الشوارع الكبيرة مرة في اليوم، لكنها سرعان ما تمتلئ بالمخلفات، أما الأزقة فتبقى بها الزبالة مدة طويلة، وتتعفن بها الحيوانات النافقة، والسكان يعدون ذلك أمراً عادياً، وأكثر ما يؤرق الحجاج انتشار الناموس ليلاً، والسبيل الوحيد للخلاص منه الاستتار بناموسية.

واسهبت الدراسة في تناول طبقات المجتمع الكلي وانشطتهم حيث أوضحت انها تشمل كلاً من: الطبقة الحاكمة التي تضم الأشراف والأتراك، أما في العهد السعودي فقد تغيرت الحال، ففي المرحلة الأولى تظهر الصورة العامة واضحة من خلال ما سجله الروسي دولتشين بأن مكة يحكمها الوالي (من الأتراك)، والشريف الذي يعين من الآستانة.

ويعهد إلى المحتسب بحل الخلافات بكل الوسائل بما فيها الضرب. ولحفظ الأمن في الشوارع كانت هناك دورية عسكرية واحدة قرب الحرم. أما حل الخلافات في باقي مكة فيحكمه العرف بين الناس، فإذا حدثت سرقة يقوم الناس بمحاصرة السارق وإيصاله للسلطات.

أما عن الأشراف فقد اعتادت الدولة العثمانية أن تعهد بإدارة مكة المكرمة إلى أحد الأشراف، فينظر في القضايا الكبرى على حسب نظام أربابها، إن كانوا من الأهالي أو من الأغراب. ومن عادة شريف مكة ان يجلس في دار الإمارة يومياً. فتعرض عليه المسائل المهمة، ويخصص يوم الجمعة لمقابلة الوالي والأعيان وكبار الموظفين. ويسكن الأشراف في الغالب حي أجياد مع الأتراك، ويقضون الصيف في الطائف.

وينقسم أشراف مكة إلى قسمين، الأول: يعنى بالأدب والشريعة والتجارة، ويسمون الأسياد. أما الثاني فيحتكر السلاح والأمور العامة، ويلقبونه بلقب الشريف. ومن عادة أشراف مكة أن كبراءهم يرسلون أولادهم منذ نعومة أظفارهم إلى البادية، لا سيما إلى قبيلة عدوان شرق الطائف، فينشأون على البداوة، ويتعلمون الفروسية، والطلاقة في الكلام، ثم يعودون إلى مكة بعد ان تشربوا أخلاق البادية.

واحتل الأتراك مكانة عالية في مكة في ظل الحكم العثماني. فكان منهم والي الحجاز ومقره مكة، وله السلطة في الأمور العسكرية والمالية، كما استأثر الأتراك بالوظائف الكبرى في الولاية، والمؤسسات التعليمية والخيرية القائمة على أوقات تركية. ويسكن الأتراك شعب أجياد لارتفاعه وسعة طرقه، وجاءت بيوتهم على الطراز التركي، وتظهر في مساكنهم علامات الثراء من الزخرف والزينة والبُسط العجمية النادرة. وقلت امتيازات الأتراك عندما رفع الشريف حسين راية العصيان في وجه الدولة العثمانية.

مجلس أهلي

* بعد دخول السلطان عبد العزيز إلى مكة اجتمع بممثلي الأهالي من العلماء والأعيان والتجار قائلاً: «عليكم أن تختاروا ممثلين لكم بموجب أوراق تمضونها من المجتمعين بأنهم رضوا بأولئك النفر، لإدارة مصالحهم العامة، والنظر في شؤونهم، ويكونون الواسطة بين السلطان والاهلين، فهم عيون لي وأذان للناس»، وبهذا تَكَوَّن المجلس الأهلي بمكة المكرمة بناء على رغبة الملك عبد العزيز.

وتضم طبقات المجتمع المكي: طبقة العلماء، حيث احتل العلم الشرعي المكانة الأولى ـ إن لم تكن الوحيدة ـ في المجتمع المكي، وفي مقدمة هذه الطبقة يأتي القضاة والمفتون، وفي العهد العثماني كان القاضي يرسل من الآستانة. وكان من مهامه النظر في القضايا الشرعية، كما يرأس حفلات تنصيب الأمراء، ويمثل سلطة الأتراك الدينية، ويتولى تقديم الخلع السلطانية للأمير. وهناك مفتٍ واحد عن كل مذهب من المذاهب الأربعة.

وشكل مشايخ الحرم المكي والمعلمون فيه طبقة متميزة، وهم من مختلف المذاهب، ويجرى اختيار شيخ العلماء في الحرم، من قبل الحكومة، من رجال الافتاء غالبا، ويتخذ لنفسه نائبا. ومن مهامه اختيار المدرسين في الحرم، وتوزيع الموارد المالية عليهم وفق رؤيته الشخصية. وقد رصد البتنوني اثناء رحلته ثلاثين معلما بالحرم الشريف، ولاحظ عدم عنايتهم بالتعليم، نظرا لقلة العائد المادي، فالراتب من الحكومة العثمانية كان يتراوح بين مائة وخمسمائة قرش عثماني سنويا.

وكانت مكة المكرمة ملجأ للعلماء المسلمين في عصر سيطر فيه المستعمر الغربي على معظم بلدان العالم الاسلامي. ومن أشهر علماء مكة في هذه الفترة الشيخ محمد بن سليمان حسب الله الشافي (1244 ـ 1335هـ) الذي أفتى بتحريم التدخين، وتعرض لهجوم كبير من العلماء الذين أفتوا بكراهيته فقط، ومنهم الشيخ أحمد زيني دحلان مفتي الشافعية، كما تصدى لمحاولة بناء ضريح على قبر أبي طالب. ومن علماء مكة السيد صالح بن بكري شطا، الذي ولد بمكة سنة 1302 هـ، وكان والده من علماء مكة أيضا، وأصبح من أبرز علماء العهد السعودي، وكان عضوا بمجلس الشورى عن مكة عام 1345هـ، ثم عهد إليه بادارة المعارف العامة، ثم عين مساعدا للأمير فيصل النائب العام. ومن مشايخ مكة أيضا أحمد ناضرين (1270 ـ 1325هـ)، تعلم على يد السيد بكري شطا، وعين في المعهد السعودي عضوا بمجلس الشورى، ورئيسا للمحكمة الابتدائية، ثم قاضيا في المحكمة الكبرى.

أما ثالثة طبقات المجتمع المكي فهي طبقة العامة حيث ازدحمت مكة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي بعدد كبير من المسلمين الفارين من مختلف أقطار العالم الاسلامي اثر الهجمة الاوروبية، فغدا في مكة من آثار ذلك جبل الترك وجبل الهندي وحارة السليمانية (الافغان) وزقاق المغاربة وزقاق البخارية ونقلت هذه الجاليات معها عاداتها وتقاليدها وأخلاقها وكثيرا من صناعتها.

سكان مكة قبل قرن

* بلغ تعداد سكان مكة عام 1327هـ وفقا لرواية البتنوني حوالي 150 ألف نسمة، ولم يقدم غيره من الرحالة احصاء دقيقا لسكان مكة وقد أورد توزيعهم وفقاً للجنسيات التي ينتمون اليها كما يلي:

50 ألفاً أهالي مكة الأصليون، 25 ألف نسمة عرب (وأغلبهم حجازيون ويمنيون وحضارم)، 20 ألف نسمة بخاريون، 15 ألف نسمة جاوه (ماليزيون) 12 ألف نسمة هنود، 10 آلاف نسمة أفغان وقندهار، 5 آلاف نسمة شوام، 5 آلاف نسمة مغاربة، 8 آلاف نسمة اجناس مختلفة. ويعكس ذلك أن أهل مكة الأصليين لا يمثلون أكثر من ثلث سكانها، وأكثر سكانها من الاغراب وقد توطنوا مكة، وتعربوا كليا بمرور الزمن، ويمكن تمييز العائلات ومعرفة اصولها.

ونتج عن الاختلاط والمصاهرة بين هذه الانساب المختلفة ان تنوعت قسمات وجوههم وبشرتهم بدءا من الأبيض تماما الى البرونزي القاتم. وعرب مكة اذكياء لطيفو المعاشرة والتخاطب، مجاملون، متأدبون، مع احتفاظهم بشعور العزة والكرامة وأغنياؤهم منعمون، يطيب لهم أن يلبسوا افخر الثياب، ويفرشوا بيوتهم بالمفروشات الجيدة، وهم يحبون الأكل، يستضيفون ويضيفون.

ويأتي في المرتبة الثانية بعد العرب الماليزيون المعروفون بجاوه، وهم يشكلون خمس سكان مكة، ويعرفون بملامحهم، على الرغم من أنهم يلبسون الثياب العربية ويتحدثون لغتها، جاء بعضهم بدافع ديني، وبعضهم الآخر بدافع تجاري، ويتميزون بالطبع الهادئ المسالم، حتى صار المثل «طيب ومسالم مثل جاوه»، وهم محبون للعلم، مترابطون، متضامنون، ولهم كبير يدير شؤون الجالية، اما أبناء القوميات الأخرى فهم بوجه الحصر تجار أو نظار في التكايا التابعة لقوميتهم.

ويأتي المطوفون والتجار على قمة هذه الطبقة من حيث الثراء، ويستأثر المكيون بالطوافة، اذ لا بد للحاج من مرشد يدله، ويقضي له حوائجه، فأكثر الحجاج يجهل المناسك، ناهيك عن الطرق، ولكل مطوف وكيل في جدة يستقبل الحجاج التابعين له، وقد يذهب المطوف بنفسه اذا كان بين الحضور شخصية مرموقة. وللمطوف صبيان وخدم يساعدون الحجاج في عمليات النقل والترحال والسكن واحيانا ينوبون عنه في ارشاد الحجيج الى المناسك، وأماكن الزيارة والنزهة والشراء. ويحصل المطوف على أجر لقاء الوساطة في تدبير المسكن ودواب الترحال وشراء لوازم الحجيج واحضار الاضاحي الى منى.

وللطوافة شيخ يحافظ على تقاليد المهنة، ويشرف على المطوفين، ويساعد الحكومة على تطبيق الانظمة والتعليمات الخاصة بطائفته ويقرر قبول اعضاء جدد في المهنة ويتابعهم ويحدد صلاحيتهم، ويراقب سلوكهم واخلاقهم وتؤدي الوساطة والعلاقات الشخصية والهدايا دورا بارزا في قبول المطوفين الجدد، على الرغم من اظهار الشيخ العدل بين أفراد مهنته، ويقوم العضو الجديد بعمل وليمة لافراد الطائفة وامام الجميع يطلب العضو الجديد من الشيخ ان يسمح له بممارسة الحرفة ويتعهد بالسمع والطاعة وان يكون أخاً صالحاً لزملائه، ويقرأ الجميع الفاتحة بنية التوفيق والقبول. وينطبق ذلك على جميع الحرف في مكة.

وقد سجل الرحالة قبل عهد الملك عبد العزيز جهلا دينيا لكثير من المطوفين، خاصة في مسألة المزارات، وما ينسج حول بعضها من اساطير، وينظر بعضهم للحجاج نظرة طمع لجني ربح وفير.

ويستبد المطوفون بالحجاج، ويرغمونهم على دفع ما يفرضونه من مكوس، لا يفرقون بين غني وفقير، ويقول أمير الحج المصري عام 1221هـ: ليس بمكة من يرفع ظلم هؤلاء، فإذا كتبت الى الشريف أو الوالي رسميا كان جوابهما: اننا لا نتدخل في أمور الحج، وقد يعقد المطوفون مزايدة على اغنياء الحجاج، ويسافر المطوفون بعد موسم الحج الى الخارج، لزيارة من تعرفوا عليهم اثناء الموسم، ويعودون محملين بأموال البدل (أموال يجمعها المطوف لاداء فريضة الحج نيابة عمن لا يستطيع أداء الفريضة) والهدايا.

اما تجار مكة فلهم المكانة الافضل، ومعظمهم من الهنود، والمنافس الحقيقي للهنود الحضارم، الذين جاءوا الى مكة دون أي ثروة، فيعملون في خدمة التجار، ثم ينتقلون للعمل لحسابهم، عندما يتقنون فن التجارة ويجمعون قدرا معقولا من المال. ويكسب التجار اموالا طائلة من التجارة، واقراض المال للاهالي، ويتم اقراض المال بأن يبيع التاجر للمدين بعض حاجات بأسعار عالية جدا، على ان يدفع ثمنها في وقت لاحق، ويأخذ صكا بذلك، ثم يعود ويشتريها منه بثمن بخس ويعطيه الثمن الأخير، ويعرف هذا البيع في الفقه الاسلامي ببيع العينة، وهو من البيوع المحرمة شرعا.

مسابح وخواتم وحناء وسواك وتؤدي مكة دور الوسيط في التجارة استمرارا لدورها القديم، فتجبى اليها متاجر الغرب لبيعها للحجاج دون ان يكون للمسلمين دور فاعل في صناعتها، حتى ان ما يشتريه الحاج من سجاد للصلاة على سبيل التبرك انما هو من صناعة الغرب، تضاف اليها الاطعمة، مثل: الجبن والبسكويت وما اليها. ولا تنتج مكة سوى أشياء قليلة، مثل: المسابح والخواتم الفضية والحناء والاراك (السواك). وتنتشر محلات التجار في كل مكان، فهي تملأ حتى شارع المسعى، وتتحول مكة الى سوق كبيرة في الحج ويبدو ليلها كنهارها، الطرق تعج بالناس، فالباعة والحجاج والمتسولون الجميع خرج يلتمس الرزق.

والأكثر رواجا تجارة العملة، نظرا لقدوم الحجاج من مختلف دول العالم فيشتري التجار العملة بسعر منخفض ويبيعونها بسعر مرتفع.

ولا يتورع تجار مكة شأن التجار في أي زمان ومكان عن استغلال الظروف، واحتكار السلع الغذائية، وهذا ما حدث ابان حصار جدة في عام 1925، حيث استمرت الاسعار في ارتفاعها رغم انتهاء الحرب، وفتح الموانئ للاستيراد، فاضطرت الحكومة السعودية الى اصدار بلاغ لأهالي البلد الحرام كافة بالتحذير من احتكار الارزاق والاقوات، وتهديد المحتكرين بمصادرة السلع المحتكرة وبالجزاء الرادع.

أما عن العمال والحرفيين، فالفقراء من أهل مكة يعملون عند التجار الاجانب، يتجولون بالبضائع في الحارات والازقة، يعرضونها على الحجاج في المنازل، ولهم نظير عملهم جزء بسيط لا يفي بحاجتهم، وللحلاقة أهمية خاصة في بلد الله الحرام، لأن التحلل من الحج والعمرة يتطلب الحلق أو التقصير، لذا انتشرت محلات الحلاقة بجوار الحرم، وازدحم بهم شارع المسعى. كما مارس الحلاقون الحجامة والختان. ومداواة الجراحات البسيطة، وكان الحلاقون يتقاضون من الفقراء مقابلا عينيا مثل: قطع الخبز، وهناك حرف البناء والنجارة وما يتعلق بهما، والعرب حرفيون مهرة في النقش على الخشب والحجر، ويمتلكون ذوقا رفيعا.

والصناعة لا تخرج عن صياغة بعض قطع ذهبية وفضية والحدادة بسيطة، لكنها دقيقة في عمل الأسلحة، وبمكة فرن لصناعة القلل والدوارق الفخارية، وكلها في يد الأجانب. أما حرفة السقاية فيقوم بها بعض الفقراء، ومع موسم الحج يتوافد أعراب من المناطق المحيطة. فيشتغلون بالسقاية، واختفت باقي الحرف من الصورة لدى الرحالة. ويقوم أهل مكة بتربية الماشية والأغنام، وبيعها للحجيج، ليكون منها الهدي، الى جانب تقديم الخدمات للحجيج.

ودعت هذه الحالة الاقتصادي طلعت حرب الى ان يلفت الانظار الى مشروعات عدة تخدم أهالي البلد الحرام. منها انشاء شركة لتعبئة مياه زمزم في زجاجات معقمة، وبيعها في جميع أنحاء العالم الاسلامي. وتزويد مكة بالكهرباء لانشاء مصانع نسيج ودباغة، ومسالخ صحية، وورش لتصليح السيارات. وأشاد بمصنع كسوة الكعبة الذي وفر فرص عمل للكثيرين. وهذه نظرة ايجابية تميز بها طلعت حرب رائد الاقتصاد المصري الحديث، وصاحب الشركات المتعددة آنذاك في مصر، مثل: مصر للغزل والنسيج، ومصر للطيران، ومصر للملاحة، وغيرها. وقد لقيت رؤيته رواجاً في مكة بعد ذلك.

ويأتي الرقيق كأحد طبقات المجتمع المكي حيث اعتاد أهالي الحجاز على استخدام الرقيق، فمدار حركة النقل الشاق على العبيد، اذ منهم الحمالون والحطابون والجمالون والسقاؤون والخدم، وفي مكة قلت تجارة الرقيق تدريجيا. لكنها كانت تنتعش في موسم الحج، فقد يشتري الحجاج العبيد ليعتقوهم. إما كفارة او احسانا. والرقيق المعتوق يحمل وثيقة بذلك عن القاضي. وقد يشتري الحاج عبداً أو أمة ويعود بها الى بلاده، فعندما سافر الشيخ حسن الجبرتي (المصري) الى مكة للحج اشترى جارية أهداها لزوجته، فأعتقتها. وأقامت لها منزلا، وزوجتها من الشيخ حسن ورزقت منه بأولاد. وفي بداية العهد السعودي وضعت الاماء حجابا. فلا يرى وجههن الا عند الشراء. وللأمة ان تبدي موافقتها بايماءة أو ابتسامة تعلو وجهها. وفي السادس من نوفمبر 1962 وفي عهد الملك سعود صدرت اوامر بانهاء الرق في السعودية، وعتق الرقيق، وتعويض أصحابه عن اثمانه.

المرأة المكية والزي الاسلامي

* اتفقت آراء الرحالة على ان المرأة المكية أشد نساء العالم تمسكا بالزي الاسلامي. وأعظمهن صيانة لشرفها، وأحفظهن لانوثتها. فهي لم تنغمس في تيار المدنية الجارف، وهي بعيدة عن الاختلاط، حتى في التزاور لا يلتقي الجنسان، وتخرج من بيتها وقد غطت وجهها بغطاء كثيف لا يتخلله سوى فتحتين صغيرتين أمام العين، وقد نسجتهما نسجا خفيفا، ولا يدخل على المرأة خادمها، وانما يكلمها من وراء حجاب، ولا يدخل المنزل رجل قط، الا في حضور الزوج. ومن السلبيات ان بعض النساء يدخن النرجيلة، ويتركن شؤون المنزل للخدم، ويثقلن كواهل أزواجهن بالنفقات الباهظة.

وملابس المرأة المكية في بيتها متنوعة ومطرزة الحواشي بالذهب والفضة، وتشد على وسطها حزاما ذهبيا. وهناك غيرة بين النساء في الازياء، الأمر الذي يرهق الرجال والمرأة المكية طبيبة أسرتها بما لديها من خبرة في الوصفات من الاعشاب والتوابل، وتتمتع نساء مكة بقدر كبير من الحرية في ارتياد الاسواق والمساجد وحدهن، وتعمل بعضهن بالتجارة في الشوارع، وقد تقع عليهن العين في المحكمة أمام القاضي حاملات الشكاوى ضد أزواجهن احيانا، فللمرأة أن تتقدم بطلب طلاق للقاضي لسبب ما، مثل المعاملة السيئة. أو العجز عن النفقة، او عدم توفير المسكن المناسب والمرأة المكية لها حق تقليدي مكتسب يتمثل في عدم السفر مع زوجها خارج مكة. والأرامل والمطلقات منهن يرحبن بالزواج من الأجنبي ان كان غنياً وبقي في مكة.

وتأثرت أزياء أهل مكة باختلاط أجناس سكانها، فترى مجموعة مختلطة من أزياء البلدان الاسلامية عمامة هندية، وجلباب مصري وجبة شامية، ومنطقة تركية فيها خنجر تراه في حزام الاشراف مفضضا أو مذهبا، وكثيرا ما يكون مرصعاً بالأحجار الكريمة. وقد حافظت طبقة الاشراف على لباسها، فلا ترى فيه اختلاطاً. وتكثر في لباس اهل مكة الالوان الزاهية، خصوصا الاحمر والاخضر والازرق والوردي.

وللمكيين ولع خاص بالتأنق في الملبس، فيلبس العلماء والتجار والطبقة المتعلمة فوق الملابس الداخلية شاية عبارة عن جبة مفتوحة تربط بحزام من الوسط لقفلها، وفوقها جبة واسعة فضفاضة بأكمام واسعة وعلى الرأس عمامة. ويظهر أولاد الحارة من العمال، وصغار الباعة. وأصحاب الحرف في زي بسيط، مكون من ثوب يشدون عليه حزاماً في وسطهم ليزيدهم قوة أثناء العمل، يضيفون اليه أحياناً ميتانا (معطفا قصيرا).أما العمامة فترى الرجال يوشون ملابسهم بالتطريز حتى تجد السروال مشغولاً على حافة رجله، والجبة أو الجاكيت من ألوان زاهية، ويتعممون بشال مطرز وملون فوق طاقية من البفتة. أما الملابس في ظل الحكم السعودي فهي الجلباب الأبيض ـ في الغالب ـ وتحته سروال. وقد يلبس كبار السن وأصحاب المناصب عباءة وتغطي الرأس طاقية بيضاء فوقها «غترة» بيضاء أو «شماغ» أحمر وعقال.

أما بالنسبة للمأكل، فغذاء أهل مكة التمر مع السمن، واللحم مع العسل، وخبزهم الحنطة، وذبائحهم من الجمال والأغنام، وقليل من الدجاج البلدي. وتتمتع مكة برخص المعيشة، فاللحوم والخضراوات متوفرة لا يرتفع ثمنها إلا في موسم الحج. ويهتم أهل مكة بالطعام الدهني المكون من الأرز واللحم والتوابل مرتين في اليوم ظهرا ومساء. والماء مبرد في اباريق وجرار مسامية فخارية توضع في مجاري الهواء في المشربيات. ويتفنن المكيون في اعداد الطعام على الطرق العربية والهندية والشامية والمصرية والتركية. ويتفاخرون بكثرة الأطعمة، ويقلد صغيرهم كبيرهم في التظاهر بالكرم، لا سيما في رمضان.

والشاي من ضروريات الحياة في مكة، فالجميع يشربونه، ولهم اهتمام خاص به، فكل منزل به موقد للشاي، ويشربونه ثقيلا جدا ومحلى تماما وبمقادير صغيرة، وكثيرون يدخنون التبغ، وعلى الأغلب النرجيلة.

ومن عادة أهل مكة ان توجه كل حارة على حدة الدعوة سنويا للشريف، فإن قبلها أقيمت وليمة في المتنزهات خارج مكة، فيسير اليها في موكب فخم تجري أمامه خيالة العرب، والناس يهتفون (يعيش)، وبعد الطعام يلعب العرب ألعاب الفروسية بالخناجر والسيوف الى آخر النهار، ثم يعود الشريف في موكبه أول الليل، كما كان من عادة أهل مكة الافطار في الحرم في رمضان، لكن الشريف عون ابطل هذه العادة مراعاة لنظافة الحرم.

وعامة أهل مكة يأكلون اللحم الثريد والأرز، اما صورة الحياة الحديثة في المأكل ـ التي سجلها هيكل في أول العهد السعودي ـ فيمثلها خاصة القوم، الذين يتكلفون في حضرة الأغراب فيجلسون على الكراسي ويستخدمون الملاعق والشوك، ويحرصون على عادة انتقلت لهم من اهل نجد، فما ان يمتلئ المجلس حتى يدور عليهم الخدم بالشاي والقهوة، ومباخر يحرق فيها عود ذكي الرائحة فيحبسون عبقه تحت العباءة ويستنشقونه.

ترفيه ما بعد الحج

* عادة أهل مكة بعد انقضاء موسم الحج ان يعلنوا افراحهم فيزوجون اولادهم، ويقيمون حفلاتهم ورحلاتهم في المتنزهات، واكثرهم يقترض النقود بفائدة كبيرة، لينفق منها على تلك الرحلات على أمل ان يسددها في موسم الحج. ومن عاداتهم ايضا اقامة الولائم في المتنزهات بضواحي مكة. وبعد فراغهم من الطعام يجلسون للسمر، الذي يتضمن سماع بعض الأغاني على أنغام العود والربابة والقانون، كما تقام مسابقات رياضية في الجري، ولعب الكرة، والشطرنج، ثم ينصرفون، وان بقيت الولائم في العهد السعودي فقد اختفت حفلات السمر.

وفي مكة حمامان على الطراز الروماني الموجود في مصر، يتغذيان من مجرى عين زبيدة، احدهما بالعمرة بناه محمد باشا وزير السلطان سليمان عام 980هـ، وثانيهما بالقشاشية ويسمونه حمام النبي، ولا يعرف بانيه على وجه الدقة.

تكثر في شوارع مكة المقاهي البلدية، وتمتد حتى تخالط الحوانيت ومحلات الحلاقين في شارع المسعى نفسه، وترى فيها دككا وكراسي خشبية مقاعدها من شكبة ليف او خوص مجدول للجلوس، ويشربون فيها الشاي والقهوة (من البن اليمني) والسوبيا، وعصير الليمون، وكبراؤهم يضيفون على القهوة مكسبات الطعم واللون والرائحة مثل: القرنفل والعطريات ويسمونها دوشا، ويتعاطون فيها النرجيلة بكثرة، ويمر بعض الهنود على المقاهي وهو ينادي (كابوس): أي: رياضة التدليك، فإذا طلبه أحد فرشه على دكة، وأخذ يكبسه نحو نصف ساعة نظير قرش أو قرشين.

أما في العهد السعودي فقد اختفت النرجيلة، وغدا تدخين الشيشة والسجاير يتم بصورة خفية، نظرا لمنعه من قبل الحكومة. أما المسكرات فلا تباع ولا تشترى، ولا أثر لها في اسواق مكة او الحجاز عامة إلا في دور القناصل في جدة، ويحاول البعض ممن لا اخلاق له تهريب المخدرات والاتجار فيها بشكل سري.

وبالقرب من المقاهي كانت هناك دور سمر يقدم فيها بعض اناس ـ في الغالب من اليمنيين ـ اغاني تطرب نفوس الحاضرين، وكلها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الاحيان ترى بعض المغنين متنقلين في طرق مكة.

والتكية تعني دار الضيافة والبر والاحسان، وفي مكة ثلاث تكايا، كبراها واكثرها تنظيما التكية المصرية بحي جياد، شيدها محمد علي باشا، وفيها مخازن للغلال التي تأتي من مصر، وطاحونة يتناوب على تشغيلها اربعة بغال، ومخبز ومطبخ ومكان لادارتها، كما توزع التكية مرتبات وهدايا وعطايا لعائلات حجازية بقصد البر والاحسان، وللبدو كفاً لأذاهم عن المحمل المصري. وغدت عادة استمر العمل بها.

وقد توقف نشاط التكية زمن الحرب بين آل سعود والأشراف بسبب انقطاع المواصلات، ثم عاودت نشاطها الخيري الذي يستفيد منه ثلاثة آلاف من الفقراء، حيث توزع عليهم الخبز والحساء كل صباح، وبعد ان استقر الأمر للملك عبد العزيز تماما في الحجاز قررت وزارة الاوقاف المصرية ارسال الغلال التي اعتادت ارسالها الى التكية المصرية في مكة والمدينة وقدرها 21 ألف اردب من القمح، وطلبت التكية من الحكومة السعودية كشوفا بأسماء الفقراء الذين توزع عليهم هذه الحبوب، وعليه اختارت الحكومة لجنة من أهل الخبرة للنظر في الدفاتر المحررة زمن الاتراك، ومقابلتها بالدفاتر التي وضعت في زمن الاشراف، لتحديد المستحق الحقيقي لهذه الصدقات.

اقتصر التعليم في مكة زمنا طويلا على حلقات الدروس في المسجد الحرام، مقصورا على العلوم الشرعية واللغوية، وسجل البتنوني أن في مكة عام 1227هـ، مدرستين هما: المدرسة الصولتية بناها الشيخ رحمة الله الهندي، وهي قائمة على تبرعات أهل الهند، ومدرسة أنشأها الشيخ يوسف الخياط من علماء مكة واعتزمت الحكومة العثمانية انشاء مدرسة جديدة عام 1228هـ، ثم ظهرت مدارس اهلية، اهمها مدارس الفلاح التي أسسها تاجر اللؤلؤ محمد علي زينل عام 1326هـ، فكان لها دور ريادي في تخريج كوادر ادارية لدواوين الحكومة. وكادت هذه المدارس تغلق ابوابها اثر تعثر تجارة اللؤلؤ، لولا ان تداركها الملك عبد العزيز، فتولى الانفاق عليها.

وصور دولتشين الحياة الفكرية في العهد العثماني بأنها محصورة في تعليم اولي بسيط، متمثل في حلقة ضيقة من المدارس الدينية، وهذه المدارس معظم روادها من الأغراب المقيمين، ويشكل اهالي البلد استثناء، وتشكل الريشة والحبر والورق الوسائل الأساسية للتعليم في مكة. وقد يضطر طالب العلم الى اعانة نفسه بالعمل في حرفة أو تجارة، لعدم انتظام الانفاق على التعليم في العهد الهاشمي.