المهاجرون النجديون.. رحلة طويلة في عالم التجارة من عنيزة إلى كلكتا

سجلوا حضوراً اجتماعياً واقتصادياً لافتاً في الدول التي هاجروا إليها * رحالة أجانب قضوا أجمل أيامهم في الجزيرة العربية في عنيزة ووصفوها بمدينة الحرية والتجارة

تجار عرب في مقهى ببومبي بداية القرن العشرين («الشرق الأوسط»)
TT

شكل المهاجرون النجديون في فترات زمنية مختلفة وقبل تأسيس الدولة السعودية وعودة الاستقرار والرخاء إلى المنطقة بعد سنوات كانت المنطقة طاردة للسكان لأسباب متعددة، شكّل هؤلاء المهاجرون أسراً وأفراداً ما يمكن تسميته بالتاريخ الشفوي اعتمادا على رواة معاصرين له، ولم يسجل هذا التاريخ رغم أهميته في وثائق يعتمد عليها.

وقد قامت محاولات فردية من قِبل باحثين لتسجيل نماذج لتجار ومبدعين من منطقة نجد آثروا الهجرة إلى بقاع مختلفة من العالم واستوطن البعض منهم في كثير من الدول التي هاجروا إليها وكانت لهم بصمات في هذه الدول، بل تعدى الأمر لأن يصبح لهم حضور اجتماعي واقتصادي فيها.

ويعد سليمان الحمد البسام، أحد هذه النماذج، من ضمن مئات من المهاجرين النجديين الذين جالوا في كل خرائط الدنيا بحثا عن لقمة عيش شريفة، وظلوا مكافحين نادرين، ومهاجرين أوفياء لبلدانهم.

وقدم خالد حمد سليمان البسام، كتابا عن جده سليمان البسام، الذي كان تاجرا شهيرا ومهاجرا نجديا عريقا وعروبيا في مواقف كثيرة، ومثقفا تنويريا رائدا في عصره ومشاركا فعالا في مجتمعه، كريما بلا حدود، عاش حياته بسخاء نادر.

وشدد المؤلف على أنه ألّف كتابه عن جده الذي لم يره ليس من باب توزيع المديح لشخصية قريبة منه، أو من باب وضع أكاليل الفخر على رؤوس هؤلاء المهاجرين، أو أن يصنع منهم أبطالا أهملهم التاريخ..

واعتمد المؤلف على عشرات من الأوراق والوثائق والرسائل الخاصة والعامة التي تركها الجد وضمنها كتاب اسماه «النجدي الطيب.. سيرة التاجر والمثقف سليمان الحمد البسام»، الذي عاش خلال الفترة من عام 1888 إلى عام 1949.

واعتبر المؤلف أن الكتاب ليس كتابا عن سليمان الحمد البسام وتاريخه فقط، بل هو كتاب عن حياة مئات المهاجرين النجديين الذين جالوا أنحاء المعمورة، لهذا فحكايته حكايتهم، وتاريخه تاريخهم.

بداية يتحدث المؤلف عن عنيزة التي جاء منها سليمان البسام إلى البحرين واستقر في الأخيرة حتى وفاته قبل 60 عاما بعد أن عاش 61 عاما كانت حافلة بالكفاح والصبر والنجاح.

وأورد المؤلف معلومات عن عنيزة ووصف الرحالة لها ومنهم الطبيب الأميركي لويس ديم في كتاب القوافل عام 1923، حيث ذكر أن المدينة تحتفظ باعتزاز وكبرياء وطني عظيم وسط باقي المدن العربية، كما ذكر لوريمر في كتابه الشهير دليل الخليج وصفا لعنيزة ورأى أنها المدينة الرئيسية في القصيم، بل في الحقيقة في كل أنحاء نجد، وقال عنها الرحالة البريطاني دواتي الذي جاء إلى عنيزة عام 1878: «إنها مدينة تتمتع بالحرية ويعيش سكانها في اتحاد تام». مضيفا: «ان اليوم الجميل الوحيد الذي قضيته في شبه الجزيرة العربية هو اليوم الذي قضيته في عنيزة». كما وصفها الرحالة البريطاني جون فيلبي، الذي زارها على ظهر جمل من الرياض عام 1918: «بأنها واحدة من المدن العظيمة في شبه الجزيرة العربية».

وقدّر لوريمر سكان عنيزة عام 1905، ما بين 10 إلى 15 ألف نسمة، بينما قدّر عدد سكان الرياض وقتها بحوالي 8 آلاف نسمة، أما دواتي فقد قدّر له أحد أصدقائه عدد السكان بحوالي 15 ألف نسمة وكان ذلك عام 1878.

ورسم لوريمر في كتابه (دليل الخليج)، لوحة صغيرة مكثفة عن أوضاع التجارة في المدينة فيقول: تباع في السوق الرئيسية التي فيها كثير من البضائع الصغيرة، الملابس والمستحضرات الطبية وأدوية الإبل والسكر والتوابل والصابون، وكلها تستورد عن طريق المدينة المنورة. وقدر فيليبي عام 1914، ألف دكان في الأسواق الرئيسية والفرعية في عنيزة، غير أن أهم وأوفى وصف لسوق عنيزة القديم هو الذي ورد في كتاب (عنيزة.. التنيمة والتغيير في مدينة نجدية عربية) لثريا التركي ودونالد كول، حيث يذكران: «كانت السوق القديمة في عنيزة هي إحدى الأسواق الكبيرة المنتشرة في الشرق الأوسط وتمثلها خير تمثيل. كانت تضم شوارع وحواري كثيرة ضيقة ومتعرجة، ومساحات كبيرة مغطاة بالقباب المبنية بالطوب الني، وكذلك مساحات كبيرة أخرى مكشوفة، كان معظم البائعين والحرفيين يمارسون مهمتهم داخل حوانيتهم، لكن كان منهم أيضا من يعرض سلعته في الطريق العام أو في المساحات الكبيرة المكشوفة، كما كان منهم من يحملها جيئة وذهابا حتى يجد المشتري. كانت سوق عنيزة منذ عدة قرون تنعقد في مساحة مكشوفة بين المستوطنات الأصلية. وكانت هي أحد العوامل التي أدت إلى نمو عنيزة كمدينة. وفضلا عن كونها المركز التجاري للمدينة، كانت هي أيضا مركز الحياة الاجتماعية للرجال. يقول البعض إن الرجال كانوا يرتدون عباءاتهم (البشوت) ويذهبون إلى السوق بعد ظهر كل يوم، سواء كان أو لم يكن لديهم عمل يؤدونه هناك. فهناك يقابلون أصدقاءهم وجيرانهم وأقاربهم ويعقدون الصلات مع مختلف شرائح المجتمع. وهكذا كانت السوق تلعب دورا أساسيا في حياة المجتمع المحلي، إذ كانت تهيئ للرجال مكانا يمارسون فيه حياتهم الاجتماعية. وفي نفس الوقت كانت السوق مركزا مهما لنقل المعلومات، ففيها يتناقل الرجال الأخبار ويتناقشون حول الأحداث، وفضلا عن ذلك كانت السوق هي المكان الأساسي الذي تمارس فيه السلطة السياسية».

الهجرة

* ومع ذلك، فإن فترات الصراعات السياسية المحتدمة في الجزيرة العربية وخاصة في بدايات القرن العشرين كانت تؤدي إلى تدهور التجارة وانكماش الزراعة في عنيزة في تلك الفترات. لكن تلك الأسباب لم تكن هي الوحيدة في شهرة أهل عنيزة بالتجارة والهجرة إلى خارجها.

فقد وصل أهلها من بعض العوائل المعروفة أمثال: البسام، القاضي، الزامل، الفضل، السحيمي، الفوزان، التميمي، الذكير، والمطير، وغيرهم، إلى بعض بلدان الخليج خاصة البحرين وبدرجة أقل إلى الكويت، كما ذهب أهلها بالتجارة إلى العراق وخاصة البصرة والزبير وبغداد والشام ومصر والهند.

وقد كان أهل عنيزة يمثلون طبقة تجارية مثقفة، لم تكن تتمتع بتعليمها الجيد وخدمتها في التجارة فقط، بل لتمتعها بالذكاء والفطنة والسمعة الطيبة، علاوة على الأمانة، وكلها صفات جعلتهم ينجحون كثيرا في أعمالهم، ويثق الناس بهم حتى في مناطق غير عربية كالهند.

ويرى (التركي) و(كول) في كتابهما أن: «تاريخ الهجرة إلى خارج عنيزة هو تاريخ قديم في ما يتعلق بالرجال، فعندما كانت عنيزة مجتمعا يتمتع بالاستقلال الذاتي، هاجر بعض الرجال إلى العراق وسورية ومصر والكويت والبحرين والهند وإلى المدن الثلاث بالحجاز: مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة. وكانت الرغبة في التفقه في الدين تمثل إحدى دوافع الهجرة في ما يتعلق بالمهاجرين إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة، لكن كانت أهم دوافع الهجرة بصفة عامة هي التجارة أو البحث عن عمل. ثم أدت التنمية في المملكة العربية السعودية، ونمو صناعة النفط، إلى تغير نوع المدن الجاذبة للمهاجرين، فأصبحت في الأساس هي المدن حديثة النمو داخل المملكة العربية السعودية بدلا من أن تتجه إلى خارج البلاد».

وفي وصف آخر، وجد الدكتور عبد الله السلمان في كتابه، أن سكان عنيزة أهل حذق بالتجارة «ويعرَفون بالأمانة وهي صفة مهمة في التاجر تجعله محبوبا ومرغوبا لدى كثير من تجار البلدان الأخرى، وأكثر أثرياء عنيزة وباقي المنطقة عصاميون وصلوا إلى درجة ثرائهم عن طريق اغترابهم عن بلادهم سنوات عديدة قد تصل إلى أكثر من ثلاثين سنة. وقد يستقر بعضهم في تجارته في بلدان خارج الجزيرة العربية، وقد شاهد (داوتي) بعض هؤلاء في عنيزة وقال إنهم يأتون لزيارة بلدانهم في إجازة تمتد إلى عام كامل. وصار لبعض هؤلاء نشاط تجاري كبير في العراق والكويت والبحرين والشام، كذلك مصر والهند. ولهذا استطاع بعضهم الحصول على ثروات طائلة بالنسبة لمستوى تلك الفترات السابقة. فقد ذكر (داوتي) أن ثروة أكبر تاجر في عنيزة عام 1293هـ (1876م)، تصل إلى 24 ألف جنيه استرليني. ومن أشهر تجار عنيزة في تلك الفترة وما بعدها محمد وصالح المطير في العراق، وعبد الله الفوزان وصالح البسام وصالح الفضل في الهند، وسليمان ومحمد البسام وعايد التميمي وحمد الروق وعبد الله الزامل وخزعل الجريفاني في البحرين والكويت والعراق والشام ومصر والهند، كذلك عبد الرحمن السحيمي وسليمان الخليف وسليمان الغماس وعبد الله بن شريان وصالح القاضي».

وليس من الغريب حتى اليوم أن يواصل أهل عنيزة عبر أجيال مختلفة تلك المهن التجارية، كأنهم بذلك يستعيدون تواريخ أجدادهم، ويقلبون صفحات روزنامة لم تنته بعد.

بل إن سكان عنيزة لا يزالون يروون باعتزاز قصة الرجل الذي ذهب إلى الرياض منذ زمن بعيد واشتكى لأحد أصدقائه من أنه لم يجد أي شيء مما يريده في تلك السوق الصغيرة، التي كانت موجودة حينئذ في عاصمة الملك عبد العزيز، فأجابه صديقه قائلا: «إلى أين تظن أنك جئت؟، أتظن أنك في عنيزة؟».

البداية من كلكتا إلى مكة

* في صباح يوم بارد ممطر في مدينة كلكتا الهندية من عام 1899، استيقظ حمد سليمان البسام التاجر النجدي المعروف، من نومه على وقع طرق باب بيته في حي التجار، وكانت الساعة تقارب السابعة، فعرف في الحال من الوقت ونوعية طرق الباب أنه ساعي البريد.

تذكر في الحال أن زوجته (حصة)، قد أخبرته في آخر رسالة وصلت منها قبل شهرين أن أخبارا سارة ستبشر بها (حمد) عن ابنه الوحيد (سليمان).

وهنا تذكر أيضا بيت العائلة في عنيزة، مدينة القصيم الأولى، لكن ذلك الشريط القصير من الذكريات السريعة التي تجول في ذهنه أوقفته طرقات جديدة مستعجلة على الباب من ساعي البريد الهندي.

في الحال هرع (حمد) وتسلم الرسالة وهو يبتسم لساعي البريد، فقد كانت كما خبرها من ظرف الرسالة أنها قادمة من طريق طويل ومعاناة وصول من (عنيزة).

فتح الرسالة في الحال وراح يغرق في حروفها العربية الصغيرة: «نبشرك يا حمد، فسليمان الله يحفظه قد ختم القرآن الكريم، وهو ولد ناصح طالع على أبيه إن شاء الله. نبشرك بعد أن ولدك ينوي تعلم القراءة والكتابة، وإن شاء الله هو الذي سيكتب لك الرسالة الجاية. أهلك في عنيزة كلهم طيبون وبخير، بشرنا عنكم وأحوالك مع التجارة، إن شاء الله تعود لنا سالم، والبسام كلهم وأهل عنيزة جميعا يسلمون عليك، لا تطوّل علينا ولا بالمكاتيب».

طار (حمد) من الفرح، بل لم تكد الدنيا تتسع لفرحه ولافتخاره بابنه الوحيد (سليمان)، فلأول مرة يشعر باعتزاز كبير بالتعليم وأهميته وأن ابنه سيقرأ ويكتب. وفكر وقال لنفسه: وهذه ستفيده أيضا بالتجارة.

كان (حمد) قد رحل من عنيزة إلى الهند من أجل التجارة ولقمة العيش، كما فعل العشرات غيره من أبناء عنيزة المشهورين بالحذق والشطارة والذكاء في التجارة، باعتراف الرحالة والباحثين العرب والغربيين، بل إن أكثر ما شجعه على الرحيل هو وجود الكثير من أبناء عمومته وأقاربه من عائلة البسام المتواجد بعضهم في بعض مدن الهند الكبرى مثل: بومبي وكراتشي وكلكتا.

لقد كانت التجارة لدى عائلته نوعا من «العراقة»، التي يجب أن تتواصل، والسمعة الطيبة التي من المهم جدا أن تسري دماؤها بين العائلة، وكانت أجيال عائلته (البسام)، تفتخر باستمرار عملها في هذه المهنة، وتتحايل على التاريخ والجغرافيا، بل وحتى على السياسة لتستمر وتكبر بها.

ففي التاريخ كانت المهنة تبدو وكأنها «أمانة» يعطيها الأب لابنه لكي يواصل بها منذ عشرات السنين. وفي الجغرافيا تبدو وكأنها خارطة مفتوحة على كل الجهات والبلدان شرقا وغربا. وهكذا كانوا عندما ذهبوا إلى مصر والشام والعراق والبحرين والكويت والهند، يتأقلمون ويعملون ويتاجرون، ويعودون أو يستقرون لا فرق.

في السياسة كانت الأمور تختلف قليلا، فالانتماء أولا وأخيرا إلى عنيزة، إلى نجد، إلى الجزيرة العربية، إلى العروبة مهما طال السفر، ومهما كثرت أرباح أو خسائر التجارة، فالولاء لها والحب لها أيضا.

كانت الهند في نهاية القرن التاسع عشر ملجأ آمنا للتجارة مع بلدان الخليج والجزيرة العربية، والمركز التجاري والاقتصادي، بل وحتى السياسي الأول في معظم آسيا.

فقد كان البريطانيون، الذين استعمروا بلدان الخليج العربي لعهود طويلة، اتخذوها مركزا لامبراطوريتهم التي لا تغرب عنها الشمس. فقد جعلها الإنجليز حكومة نائب الملك، وهي المسؤولة عن كل المستعمرات والمحميات البريطانية في آسيا.

وفي تلك الأيام لم تكن حركات الاستقلال الهندية عن بريطانيا قد بدأت احتجاجاتها وأنشطتها بعد، بل لم تتبلور حتى أهداف الاستقلال.

وفي ذلك المناخ السياسي وبسبب قوة الهند البشرية الهائلة والمساحات الزراعية الضخمة والصناعات التي راحت تغزوها، علاوة على وسائل المواصلات البحرية المتوفرة من وإلى الخليج والجزيرة، دفعت كل هذه المغريات إلى هجرة بعض تجار الخليج العربي والجزيرة العربية إلى الهند واتخاذهم إياها مقرا رئيسيا لممارسة تجارتهم المتنوعة في تصدير المواد الغذائية ومواد البناء والأقمشة وغيرها إلى بلدانهم، واستيراد اللؤلؤ وغيره من المنطقة للمتاجرة به في أسواق الهند الكبيرة.

تجارة وعبادة

* عندما ذهب (حمد) لأول مرة إلى الهند ترك زوجته (حصة) مع أهلها و(سليمان)، (ابنه الذي كان لا يزال صغيرا لم يكمل عامه السادس بعد).

كانت الغربة هي الصعوبة الأولى والأكبر له، لكنه استطاع أن يتجاوزها بسرعة، ومع مرور الوقت، خاصة مع تواجد بعض أقاربه من البسام وأصدقائه من أهل نجد الذين كانت دكاكينهم الصغيرة في المدينة تتجاور في المكان، وفي لقمة العيش، وفي الصحبة الجميلة.

ورغم هذا التجاور واللقمة المتشابهة، إلا أن (حمد) اشتهر بورعه وتدينه، فقد كان ـ وهو في (كلكتا) ـ يتفرغ للعبادة في شهر رمضان.

كان يغلق دكانه منذ اليوم الأول لشهر رمضان ولا يفتحه إلا ثاني أيام العيد. وقبل ذلك كان يستدعي كل الذين يتعامل معهم في المدينة ويراجع الحسابات معهم ويقفلها تماما، بل وتضطره الظروف أحيانا أن يذهب مع المتعاملين إلى بيوتهم ليلة حلول شهر رمضان ويعطيهم باقي حسابهم أو يأخذ منهم باقي حسابه.

وهكذا يترك التجارة لأهلها في شهر رمضان، بينما يتفرغ هو للصلاة والعبادة وقراءة القرآن الكريم.

على بعد آلاف الأميال من مدينة (كلكتا) الهندية، كان (سليمان) الابن في مدينة عنيزة وسط نجد ينتظر عودة والده في أي وقت.

وقتها كان الطفل (سليمان)، الذي ولد عام 1888 (1305هـ)، يظن أن والده ذهب إلى مدينة نجدية قريبة لزيارة أحد أقاربه أو لتعزية أحد وسيعود حالما ينتهي. لكن بعدما طال الانتظار وجد والدته تخفف عنه اغتراب أبيه، وراحت تحدثه طويلا عن هجرات أجداده الكثيرة في الجزيرة وبلاد العرب طلبا للرزق، وعودتهم غانمين دائما.

كانت تلك الحكايات الليلة التي تسردها الأم (حصة) على ابنها (سليمان) هي التي تطرد الهواجس والمخاوف حول غياب الأب (حمد) الطويلة في الهند.

أكثر من تلك الحكايات الليلية المشوقة انشغل (سليمان) بتعلم القراءة والكتابة.

كانت الدروس البسيطة التي يتلقاها في الصباح على يد (الشيخ صالح القاضي)، ثم على يد (الشيخ ابن عايض)، قد جعلته يدخل عالما آخر في تفكيك وربط الحروف والتهجئة ومفاتيح اللغة العربية، كان عالما مبهجا للصبي الذي تجاوز الثانية عشرة من عمره. كان عالما يأخذه بعيدا، وإلى آفاق أرحب من تلك الحكايات والأساطير التي كانت تشكل وعي الأطفال والصبيان في عمره.

ومع الوقت، وبعد أن تمكن من القراءة والكتابة، وجد في الرسائل القليلة التي تصل من والده في الهند، أنها تُشبع بعض ظمئه للمعرفة، كان يشتاق إلى قراءة أي شيء، فقد كان يأخذ رسائل أبيه المخبأة في صندوق والدته الحديدي في غرفة نومها، ويقرأ الرسائل بشغف وحنين، بل كان يعود إليها بعد كل فترة ويقرأها مرات ومرات بدون أي ملل.

بجانب شوق القراءة والدخول في عالم المعرفة الجديدة على عقله، كانت الرسائل من والده تعطيه الطمأنينة التي كان في أشد الحاجة إليها. وكانت سطور الرسائل القليلة تزوده بالفخر والاعتزاز بأبيه، التاجر العريق الذي يواصل رحلة الآباء والأجداد رغم كل المشاق والعناء.

وفي غمرة انشغالات (سليمان) بعالم القراءة والكتابة العجيب، وقعت عيناه ذات يوم في بيوت أحد أقرباء والدته، على جريدة مصرية هي «الأهرام»، بالصدفة المحضة.

مكة والأهرام وموت الأم

* كانت «الأهرام» هي الجريدة والمطبوعة الأولى التي يشاهدها في حياته، وبعد حيل كثيرة ـ استخدمها ـ استطاع أن يستلف الجريدة ويأخذها إلى بيته، وسببت الجريدة للصبي أياما طويلة من السهاد، وأياما أخرى من السهر على الضوء الشاحب لـ«التريك» وهو (مصباح يعمل بالزيت) شائع استخدامه في عنيزة، يطالع الأخبار الكثيرة فيها، ويقرأ المقالات بصعوبة وكأنها لغة أخرى لا يفهمها، ورغم كل تلك الصعوبات، إلا أنها كانت (الجريدة)، اكتشافا جميلا لازمته في ما بعد طوال حياته.

لقد سرقت تلك الجريدة الكثير من المتع الصغيرة ومن التجول في سوق عنيزة واللعب مع الصبيان.

لكنها أسابيع فقط حتى ترافقت ببشارة أخرى، فقد أيقظته والدته في أحد الصباحات الباردة وقالت له وهي تلهث من الفرح: لقد جاء أبوك إلى مكة، ويريدنا أن نلتحق به في أسرع وقت، هيا يا بني خذ كل حاجياتك وأغراضك، فقد لا نعود إلى عنيزة. قفز (سليمان) من فراشه في الحال، شعر أن أمنيته برؤية أبيه مرة أخرى قد تحققت، نسي كل شيء، كان الفرح طاغيا إلى درجة أن صورة أبيه لم تفارق ذهنه طوال أيام الاستعداد للرحيل عن عنيزة.

في فجر أحد ايام عام 1904، وصلت القافلة التي كانت بها الزوجة (حصة) وابنها (سليمان)، إلى أطراف مكة بعد رحلة شاقة ومضنية من عنيزة.

وفي ذلك التوقف الإجباري كانت الأخبار والشائعات تتوارد إلى القوافل المتجهة إلى مكة بأن مكة ينتشر فيها وباء يفتك بالمسلمين، ولا يفرق بين رجل وامرأة وطفل.

كانت علامات الرعب ترتسم على وجوه كل ركاب القوافل ومنهم (حصة) والابن الصغير (سليمان)، والذي بالكاد استطاع أن يفهم ماذا يدور حوله. انقسمت القوافل القريبة من مكة إلى نصفين تقريبا، نصف أراد أن يغامر بروحه ويدخل مكة، وبكل الرعب الذي يعيشه، ونصف آخر راح يعيش في هلع ظل مسيطرا على كل حواسه، بينما يرى المدينة المقدسة من بعيد ولا يعرف ماذا يفعل أو ماذا يقرر؟.

ومع هؤلاء كانت هناك قوافل قليلة جدا اختارت العودة إلى مدنها أو قراها لتنجو من الموت المحقق والوباء القاتل.

كانت قافلة البسام الآتية من عنيزة قد قررت بأمر الزوجة أن تتوقف للتريث، فربما تسمع بعد أيام عن أخبار طيبة، لكن تلك الأخبار الطيبة لم تأت، بل طال انتظارها، بعد أيام كان المصلون فجرا في القافلة قد استخاروا ربهم وقرروا دخول مكة مهما كان الثمن، وسألوا حصة، التي يبدو أنها قد أخذت قرارها النهائي قبلهم، فردت عليهم بصوت واضح وواثق: «المدينة التي فيها أبو سليمان أنا داخلتها»، ومضت القافلة تردد في صمت القول الكريم «ادخلوها بسلام آمنين».

وفعلا دخلت القافلة إلى مكة وسُعد (سليمان) بلقاء أبيه بعد طول غياب في الهند.

غير أن سعادة الفرح باللقاء لم يكتب لها أن تستمر سوى أيام قلائل، فقد هجم الوباء على (حصة) وتوفيت في الحال.

انقلبت فرحة (سليمان) لحظتها بلقاء أبيه الغائب إلى حزن شديد على والدته التي راح يبكيها طوال الوقت.

بكى (سليمان) والدته بحرقة، أحس أن دموعه تنهمر كأنه ذلك الطفل الصغير في أزقة عنيزة، كان بكاؤه حارا على حضن دافئ وقلب طيب لم يمهله القدر أن يعيش معه أكثر من ذلك.

بعد فترة كانت الدموع تختلط أحيانا بلوعة فراق الأم، والشوق للمدينة (عنيزة) وبكارثة الوباء اللعين.

رغم استمرار الحزن على غياب الأم وزوال خطر الوباء عن مكة المكرمة، إلا أن الشاب (سليمان) راح يجد في مكة روعة المدينة وقدسية المكان والأسواق المزدهرة وبعض الجرائد التي راح يزداد تولعا وشغفا بها.

كانت مكة وقتها مدينة الحج المقدسة الطاهرة التي يحج إليها آلاف المسلمين من كل مكان في العالم كل عام.

بين هذه الأجناس والأشكال والبشر، وبين الثقافات والعادات والتقاليد واللغات واللهجات المتعددة، والملابس المختلفة، وغيرها، كان (سليمان) يطالع كل هذا العالم المدهش المختلف في كل شيء والمتفق على شيء واحد وهو الإسلام والحج كفريضة، كان يطالع كل هذا التنوع العجيب وكأنه يتدرب على الخطوة الأولى نحو الهجرة، وهو لا يدري! كانت الأيام والشهور التي قضاها في مكة مع والده (حمد) رغم أحزانها، إلا أنها كانت أشبه بمدرسة في مهارة التجارة.

فمع ابنه (سليمان) فخره الوحيد الباقي له الآن في الدنيا راح يمضي معه كل الأوقات وكل سهرات الليل، وتمضي معظمها في سرد حكايات الهند والتجارة هناك، وفي الصباح كان الأب يعطي ابنه بعض أسرار تلك التجارة ومتطلباتها، مهاراتها، شرورها وخيرها، وكل شيء..

كان «سليمان» يصغي له بانتباه واضح. فوالده يقولها في شكل تجارب وحكايات. وكان الوقت يمضي بسرعة وهو يتعلم دون أن يشعر بالملل أو بأن هناك نصائح قد أرهقته.

ثم توالت تلك الجلسات وراح الابن يسأل، والأب يجيب. والحكايات والدروس تتوالى حتى عن الهند نفسها ومدينة كلكتا بالذات.

وفي أحد أيام صيف 1905م فوجئ (سليمان) العائد من أحد أسواق مكة ظهرا بوالده يطبطب على كتفه ويقول له: هل أنت مستعد؟

فرد بسرعة واستغراب: على ماذا؟ قال الأب: الى العمل في التجارة طبعا.

لم يفكر (سليمان) لحظة واحدة، فقال في الحال: أكيد.. أكيد.. ولكن في مكة أو عنيزة.

رد والده: لا.. في البحرين هذه المرة.

كان (سليمان) قد سمع بالبحرين، ولكنه لا يكاد يعرف عنها شيئا. لذلك طال تفكيره وسرح ذهنه هذه المرة حتى رد: ولكن لماذا البحرين وليس الهند كما فعلت أنت؟

فهم (حمد) السؤال الذكي على الفور ورد قائلا: البحرين الآن تزدهر تجاريا ومرشحة لأن تصبح مثل الهند في الخليج. هناك مستقبل تجاري واعد فيها. لقد اخترتك للعمل بها من موقع خبرتي كتاجر في الهند، ولا تنس أن الكثير من النجديين أصبحوا يعملون ويعيشون هناك، بل عندنا أقارب أيضا سأرسل لك معهم رسائل. فلا تقلق. وبعد فترة صمت أكمل حديثه قائلا: البحرين.. لا داعي للقلق، ستصبح فيها تاجرا مرموقا. وهذه المرة سمع (سليمان) الكلام بابتسامة راضية.

إنها البحرين

* ويصف المؤلف كيف بدأت رحلة سليمان الطويلة الى جزر البحرين بقافلة جمال أوصلتهم من مكة الى جدة بقوله: كان المرور على الهند ضروريا في تلك الفترة. وهو يبدو أنه جزء من نظام فرضه الانجليز، كي لا تبحر السفن الى الخليج العربي مباشرة، أو ربما لدواع تجارية أيضا. فالهند كانت المصدر الرئيسي للغذاء والملابس وغيرها الى بلدان الخليج، ولذلك فإن كل المراكب التجارية كانت تستفيد كثيرا من تحميل البضائع الضخمة الى المنطقة.

انطلقت الباخرة بصفيرها المدوي في ميناء جدة ومعها العشرات من المسافرين الى اليمن والهند والخليج. كانت الرحلة طويلة ومملة، فالرياح لا تكاد تغادر البحر، بينما الأمواج العاتية لا تبعث سوى على القلق وحساب الساعات والأيام للوصول الى بومبي.

استيقظ (سليمان) في أحد أيام شهر اكتوبر 1905م على صفير الباخرة المزعج، وعندما ركب الى السطح كان يغص بالمسافرين الذين يشيرون بأصابعهم الى بيوت وشوارع بومبي التي راحت تقترب من عيونهم أكثر وأكثر. ولم يمض وقت قليل حتى وصلت الباخرة الى ميناء بومبي.

في الميناء كان ينتظر (سليمان) حسب توصيات أبيه (أحمد) بعض أصدقائه من عائلة الفضل النجدية التجارية والمقيمة في بومبي.

كانت الحفاوة بـ(سليمان) كبيرة فهو ابن (حمد) التاجر المرموق والمشهور بالأمانة. وأقام الشاب عندهم بضعة أيام، وهناك تعرف على هذه المدينة الهندية التجارية العريقة التي طالما سمع عنها من والده. وفي بومبي تعرف رغم قلة ايام اقامته فيها، على عشرات التجار النجديين والكويتيين الذين اقاموا له بعض الولائم احتفاء به.

انتهت ايام الهند بسرعة، وكان عليه الالتحاق بالسفينة التجارية التي ستذهب الى البحرين مباشرة.

وبالفعل كانت حقيبة (سليمان) الصغيرة التي جاء بها من مكة قد امتلأت بالرسائل، وصرة ذهب اعطاها اياه أحد تجار البحرين وأوصاه باعطائها الى التاجرين علي وأحمد بشمي في المنامة، علاوة على بضائع حملت في السفينة باسمه.

لم يكن التوديع بأقل من الحفاوة من عائلة الفضل، فبقدر ما كانوا سعداء بوصوله حزنوا جدا لرحيل هذا الشاب.

غادرت السفينة ميناء بومبي ومعها راح (سليمان) يراقب ساعته الثمينة التي اشتراها لتوه من بومبي.

هذه المرة كانت السفينة تمضي بسرعة عكس باخرة جدة لأسباب غير مفهومة، وكان الطريق أقصر والمسافرون أقل، لكن البضائع لا تعد ولا تحصى.

كان (سليمان) يجلس على أحد مقاعد السفينة مرتاحا لمنظر بحر الخليج الذي دخلته السفينة لتوها، وكان المريح ان البحرين مكان مناسب وجميل، كما أخبره كل تجار نجد في الهند. ومريح للعمل التجاري، بل ان التاجر يكفيه رأسمال بسيط لبداية العمل، فما بالك بواحد مثله حصل من والده على رأسمال ممتاز يجعله في غاية الاطمئنان.

وبجانب التجارة كان ذهن (سليمان)، وهو يطالع البحر، يشرد الى مكة حيث أبوه الذي ينتظر منه الأخبار الجيدة.

وكانت أكثر الأخبار المفرحة التي سمعها وهو في بومبي ان وباء الطاعون الذي انتشر في المنامة والمحرق في بداية شهر مايو قد تم القضاء عليه نهائيا في نهاية شهر يونيو، وهذا يعني انه لا وباء حاليا في البحرين، وان كل شيء على ما يرام.

حتى الوصول الى شاطئ المنامة كان ايضا يسيرا. فقد كان في استقباله هناك صديق والده الحميم التاجر النجدي (منصور الخنيني) الذي سكن في بيته لبضعة أيام، ثم استأجر بيتا من عائلة القصيبي في وسط المنامة قرب (المطبعة الشرقية) حاليا. وبعد يوم واحد أوصل أمانة الى التاجر البحريني، وكانت عبارة عن بعض المجوهرات الثمينة.

كانت البحرين في بداية شهر نوفمبر 1905م جزرا هادئة يسكنها قليلون، وتتداخل فيها جاليات كثيرة، وطوائف متعددة، وقد تعرف الشاب على أحوال البلاد بنفسه، حيث استفاد كثيرا من معلومات وحكايات النجديين الذين قابلهم في الهند، والذين ظلوا في البحرين لبعض الوقت، وكانت أولى زياراته لشيخ التجار أو (فخر التجار) كما كان يلقب آنذاك وهو المثقف النجدي الشهير (مقبل عبد الرحمن الذكير) تاجر اللؤلؤ العريق.

كان (الذكير) وقتها قد أقام في البحرين سنوات طويلة منذ نهاية القرن التاسع عشر، وبالتالي عرف ناسها وحكامها وشيوخها وتجارها وتعامل معهم جميعا. وطارت شهرته بسبب أمانته وسعة ثقافته وذكائه التجاري.

ومع الوقت تعرف (سليمان) عن طريق (الذكير) على الكثير من شخصيات البحرين وتجارها. وراح يقرأ بنهم الكثير من الصحف والمجلات المصرية والشامية التي كان يحضرها (الذكير) عن طريق الهند. كان (سليمان) يقرأ في مجلس الذكير بالمنامة كلا من (المقتطف) و(المقطم) و(الاهرام) و(الهلال) و(المنار) وغيرها، وبانتظام حسب وصولها. وفي الجهة الأخرى راح مع شريكه التجاري (منصور الخنيني) يبدأ أولى خطوات العمل التجاري.

بخور وعود وحرير

* ففي البداية استأجرا دكانا صغيرا في سوق المنامة وراحا يبيعان البخور والعود والحرير التي أخذا يستوردانها من الهند مباشرة، ولم تمض شهور قليلة حتى وجد ان دكانه الصغير في السوق قد بدأ يعطي ثمار النجاح، وان العمل يتوسع ويكبر وتزداد الحاجة إلى استيراد بضائع أخرى، ومع ذلك كانت النصائح والخبرة من أبيه تقول له: لا تستعجل في البداية.

وفعلا ترك البداية تنمو وتزدهر بدون استعجال او لهاث وراء أرباح قد تأتي أو لا تأتي. وفي الصورة الأخرى للبحرين كان (سليمان) يكتشف أوضاع الجالية النجدية. للوهلة الأولى كان هناك الكثيرون من النجديين الفقراء والكادحين الذين كانوا يعملون في مهن بسيطة، بالكاد كانت تكفي لقمة عيشهم اليومية، فقد كان هناك العشرات من النجديين الذين يعملون كحمالين في ميناء المنامة وبحارة في بعض السفن، وخياطين وفراشين وخدم، وكتبة عند التجار، وكل الأعمال الصغيرة.

أما القلة منهم فكانوا يزاولون التجارة. وكانت أشهر العائلات النجدية التجارية في البحرين هي: البسام، الزامل، الذكير، القاضي، الروق، العجاجي، القصيبي، السحيمي، الشبل، السليم، التميمي وغيرها. وكان شيخ الجالية في تلك السنوات هو (فخر التجار) بلا منازع (مقبل الذكير).

ورغم التبرعات والاقامة المجانية التي كان يوفرها كبار التجار النجديين في البحرين لمئات النجديين الكادحين في المنامة والمحرق، إلا انها لم تكن بالكافية بسبب الاعداد الهائلة منهم. وكان الكثير من شباب نجد في البحرين قد اضطرتهم ظروف الرزق وضنك العيش الى العمل في تحميل البضائع والخدمة في بعض البيوت، وكان طموح هؤلاء الفقراء من النجديين هو توفير مبلغ متواضع من المال لاطعام عائلاتهم في (عنيزة) أشهر مدن نجد آنذاك والتي قدم منها كثير من النجديين إلى البحرين.

وفي أوساط هؤلاء الفقراء سار مثل شهير يقول (بيزه على بيزه توديك عنيزه)! وكان معنى المثل واضحا حيث ان (البيزه) وهي أصغر وحدة من العملة الهندية التي كانت متداولة في البحرين آنذاك يمكن ان تتجمع مع الوقت، لكي يعودوا الى أحضان أهلهم بعد غربة الرزق، ويتمكنوا من ابعاد شبح الجوع والفقر ولو لفترة مؤقتة! لقد كان كدح النجديين وشقاؤهم في البحرين الذي كان يراه (سليمان) أمامه كل يوم في الأسواق والميناء، دافعا قويا له لتطوير قدراته واستنهاض قوته وزيادة ثقافته وتوسيع معارفه. وقد مضت خمس سنوات من إقامته في البحرين واشتغاله بالتجارة وكأنها أيام قليلة، وكأنها ليست أياما وشهورا في روزنامة الغربة والتجارة وقلق الفشل والعودة. تعلم (سليمان) في تلك السنوات الكثير من فنون ومهارات التجارة، وزادت معارفه وعلاقاته أضعافا، وتوسعت ثقافته، فلم يعد مجرد شاب صغير، بل غدا بسبب حماسه وذكائه تاجرا وشخصية مرموقة في البلاد. وعند نهاية عام 1910م، استدعى الأب (حمد) ابنه من البحرين وكانت الرسالة تقول بوضوح: «أطلبك للحضور إلى مكة لأمر هام، أرجو أن لا تتأخر»! وما كان منه إلا أن يذهب (سليمان) إلى مكة دون تأخير.

واتضح له أن والده يريد تزويجه وكانت تلك مفاجأة بحد ذاتها، بل أن المفاجأة الثانية أن أباه نفسه قرر الزواج أيضا، والأطرف في ذلك أن الأب والابن تزوجوا شقيقتين الكبرى للأب والصغرى للابن وبعد وفاة الأب عادت الاسرة إلى عنيزة ثم ذهب سليمان الى البحرين وكتب ورقة اكد فيها وفاءه لزوجته وتعهده بعدم الزواج عليها وكان هذا الامر لافتاً في ذلك الوقت. عراقة التجارة

* لقد كانت كلمة (التجارة) من أكثر الكلمات التي كان أهل وبيوت البسام يتداولونها في (عنيزة). (التجارة) هي مهنة العائلة العريقة منذ زمن بعيد، ونوع من الرزق الشريف تتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل، دون تعب أو شكوى، بل تسليم لراية بابتكار جديد وبمهارات وأشكال جديدة.

منذ ان جاء (سليمان) الى الدنيا، والعائلة كلها تعرف انه سيواصل طريق ابيه وجده، واذا لم يشتغل بالتجارة في الهند، فإنه سيفتح دكانا في الشام، وان لم يفعل فربما في المدينة او مكة، واذا لم يفعل ايضا فربما يقيم شركة صغيرة في البحرين.

كانت معالم المستقبل تبدو أشبه بالواضحة، فلا (تمردات) في العائلة عن هذا الطريق، وان حدث فهي نادرة. و(سليمان) أصلا هو سليل هذه العائلة التي امتدت جذورها في اكثر انواع التجارة التي عرفتها الجزيرة العربية منذ القرن الثالث عشر وحتى القرن العشرين بلا كلل أو تعب.

هكذا راح سليمان ينشط في التجارة بالبحرين فقد كان يعرف يقينا انها لقمة عيشه ورزق أولاده وسيرة آبائه وأجداده، وهي ايضا شخصيته المعتبرة ووجاهته، بيته العامر، ودكانه الزاهر، ومجلسه الكريم.

انها باختصار حياته كلها او على الاقل جزء كبير جدا وجميل منها.

كانت صفات التاجر الأمين هي الأهم، فكلمات والده تلاحقه في كل صفة ومعاملة بيع وشراء (سمعتك وأمانتك أهم من أرباحك) لا تنس، وهو بالفعل لا ينسى، بل يتذكر دائما نصائح والده وارشاده التجار النجديين الذين سبقوه. (حتى ولو خسرت ولو فلست لا سمح الله.. فلن يبقى عندك غير سمعتك.. اسمك الذي قد يزن ذهبا.. لا ذهب ولا أكياس نقود سوف تنقذك أمام انهيار سمعتك وفقدان مصداقيتك).

ونصائح أخرى مثل: (خسارة التجارة الحقيقية هي خسارة السمعة. خسارة الخير الذي تفعله، وفقدان الكرم الذي تقدمه للمحتاجين والفقراء).

كان (سليمان) يستمع إلى أحاديث والده المرحوم ويتذكرها ويصغي جيدا لحكاياته التي كان معظمها يدور حول أمانة التجار وصدقهم. احدى الحكايات رواها تاجر نجدي صغير تعامل مع تاجر هندي في بومبي واستطاع هذا الأخير ان يغشه في بضاعته. كان المبلغ ضخما والخسارة كبيرة، فماذا يفعل؟ لم يستطع إثبات شيء على التاجر الهندي، فخسر كل شيء وأفلس.

في اليوم التالي جاء الكثير من تجار نجد اليه وقالوا له: لقد أفلست تجاريا.. ولكننا نعرفك.. أنت لم تفلس كتاجر أمين.. خذ هذا المبلغ الذي جمعناه لك وابدأ من جديد! لم يصدق هذا التاجر الصغير ما يسمعه وما يراه، واستحى الرجل ان يأخذ المبلغ، ولكنهم اجبروه، كان الموقف رائعا، وعاد التاجر وتعلم الدرس، ولم ينس هذا الوفاء الجميل.

ادرك (سليمان) منذ البداية. منذ بدايته المبكرة في البحرين ان النشاط التجاري ليس مجرد توفير رأس مال جيد يكفي، بل هو عالم كبير به الفنون المختلفة، والذكاء المتعدد، والمهارات التي لا تحصى، وشروط التاجر الناجح من صدق ونظافة وشرف وأمانة وصبر وأخذ وعطاء وغيرها، ليصبح أحد أشهر التجار في البحرين وأكثرهم حضورا اجتماعيا وتجاريا.