قصة إدخال اللاسلكي في السعودية.. من المحظور إلى الجائز بجهاد الملك المؤسس

الملك عبد العزيز يخترق بقوة جبهات معارضيه لإدخال مشروعات التحديث في البلاد * الأمير طلال يعيد الحياة إلى أول برج للبرقية أنشأه المؤسس قبل 80 عاما في الرياض * أثار إدخالها حفيظة البعض عن جهل بجدواها وماهيتها

أحد أسواق الرياض القديمة قبل النهضة الحديثة التي بدأها الملك المؤسس وبرج البرقية عاد شامخا في حي جبرة وسط العاصمة السعودية («الشرق الأوسط»)
TT

شكلت البرقية التي تعد أحدث ثورة في عالم الاتصالات قبل أكثر من قرن أهمية في حياة الدول والشعوب، إذ ساهمت في تقريب المسافات واختصار الوقت وإيصال الأخبار والحوادث في مدة زمنية قصيرة، كما ساهمت في تحقيق الأمن وتسهيل أمور الحياة العامة.

ونجح الملك المؤسس عبد العزيز خلال فترة ذات شأن في مرحلة التأسيس في تنفيذ مشروعات إصلاحية شاملة وفي ظل ظروف وإمكانات بالغة الصعوبة، اقتصادية واجتماعية وسياسية، ومن هذه المشروعات ما توفر في ذلك الوقت في قطاع الاتصالات، وقبله ما دخل البلاد من صناعات وتقنيات حديثة كالساعة والمذياع، حيث حرص الملك عبد العزيز على إدخال شبكات الاتصال المتاحة في دولته الناشئة وتعميمها على مختلف المناطق ومنها البرقية، وواكب ذلك صعوبات في إقناع الناس بجدواها، بل إن الملك المؤسس حرص على إدخال هذه التقنية قبل إنشائه شبكة اللاسلكي البرقي في عاصمة بلاده الرياض، حيث أشار الرحالة الدنماركي باركلي رونكيير، الذي زار الرياض عام 1912م، أي قبل إنشاء الملك أول برقية في العاصمة بـ 20 عاما، إلى ما قيل عن الملك بأنه «أغضب المتزمتين من أتباعه باستخدام الغرامافون في معسكره»، وهو ما يعني أن هناك وعيا مبكرا من الملك بأهمية الاتصالات كعنصر محرك في خطط التحديث والتطوير لدولته وفي وضع البنية التحتية ووسائل تسريع العمل بها في الدولة الناشئة.

وقوبلت تلك المشاريع بمعارضة شديدة من بعض فئات المجتمع لعدم استيعاب ماهيتها، واعتبروا أن ذلك من وسائل الشيطان مثلها مثل الصناعات الحديثة كالسيارة والمذياع وحتى الساعة، في حين اقتنع علماء دين بجدوى هذه الصناعات وأفتوا بجواز استخدامها وبأنها مجرد صناعة.

ومع ذلك فقد تطور إنكار البعض استخدام هذه الصناعة وإدخالها إلى البلاد إلى مجابهة عرفت بما يسمى بتكتل الإخوان الذي دخلوا مع الملك في حرب «السبلة» وانتهت بانتصار الملك، ومعه انطلقت البلاد إلى آفاق رحبة من التحديث والتطوير.

وأعاد الأمير طلال بن عبد العزيز إلى الواجهة قصة إنشاء الملك عبد العزيز لشبكة اللاسلكي في الرياض بعد إن بادر الأمير بإحياء أول برج برقية في العاصمة أنشئ قبل حوالي 80 عاما وهو المشروع الذي لقي معارضة شديدة من قبل متعصبين لم يستوعبوا ماهيته، علما بأن البرقية عرفت في الحجاز قبل نجد ووجدت إنكارا من قبل رئيس القضاة لاعتقاده بأن تشغيل البرق يستعان فيه بالشياطين، لكنه وبعض علماء الدين اقتنعوا بأن ذلك الاعتقاد من الأوهام.

وقد تأخر إدخال جهاز البرق (اللاسلكي) في العاصمة الرياض حيث وقف علماء المدينة موقفا مماثلا لما تم في الحجاز، وعندما عرفوا الحقيقية وشاهدوا على الطبيعة كيفية استخدام هذه التقنية واقتنعوا بجوازه، ووقفوا إلى جانب الملك عبد العزيز وأفتوا بأن تلك التقنيات هي مجرد صناعة يستفاد منها.

ترميم أول برج للبرقية في الرياض

* بعد مضي ثمانين عاما على إنشاء الملك عبد العزيز رحمه الله لشبكة اللاسلكي البرقي ضمن مشروعاته الإصلاحية الكبرى لتحديث بلاده الناشئة في شتى مجالات النهضة. عاد الحديث مجددا عن أهم الإنجازات الخالدة للملك المؤسس في مجال شبكات الاتصال وما واكبها من صعوبات في سبيل إقناع الناس بتقنيات حديثة لم يدركوا منافعها وجدواها في جلب الأمن وتسهيل التجارة وكسب الوقت إلا بعد أن أصر الملك على تنفيذها وتعميمها في أقاليم المملكة.

وبادر الأمير طلال بن عبد العزيز إلى تجديد وترميم موقع أول برج برقية في العاصمة الرياض أنشأه الملك عبد العزيز عام 1350هـ ـ 1931. حيث تابع الأمير تركي بن طلال تنفيذ المشروع بترميم موقع برج البرقية في حي «جبره» في قلب مدينة الرياض بتكليف مؤسسة وطنية متخصصة بأعمال الترميم على نفقة الأمير طلال. وانتهت تلك الأعمال في رمضان الماضي.

ورصد الدكتور عبد اللطيف بن محمد الحميد، أستاذ التاريخ الحديث بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية والمستشار بمكتب الأمير طلال بن عبد العزيز، معلومات تاريخية عن بدايات مشروع البرقية والجهود الجبارة للملك عبد العزيز.. واهتمامات الأمير طلال التاريخية والثقافية بمنجزات والده الملك عبد العزيز.

وأوضح الدكتور الحميد أن أبرز المؤرخين الذين رصدوا تجربة الملك عبد العزيز في تلك المرحلة هم هاري سانت جون فيلبي (عبد الله فيلبي) في كتابيه «العربية السعودية» و«حاج في الجزيرة العربية». وحافظ وهبة في كتابه «جزيرة العرب في القرن العشرين».. وكلاهما عمل مستشارا للملك عبد العزيز.

ففي كتابه «العربية السعودية من سنوات القحط إلى بوادر الرخاء» ذكر عبد الله فيلبي قصة إدخال اللاسلكي البرقي في الرياض بقوله: «كان الهاتف من أبرز الأشياء الأخرى التي شغلت وأقلقت فكر هؤلاء المتعصبين الذين هرعوا للترحاب بملكهم لدى وصوله من المدينة، إذ كانوا قد سمعوا يقينا قصصا عنه من أشخاص سبق أن زاروا مكة بعد دخوله. وقد تم التغلب على معارضتهم لاستعمال الهاتف بأن دعوا إلى استعماله بأنفسهم وتركوا ليستمعوا إلى قراءة من القرآن الكريم بصوت مألوف لصديق ليس موجودا أمام أعينهم، لكن ما يدعو للاستغراب أن هؤلاء القوم الذين اعتادوا طيلة سنوات عمرهم على استعمال المنظار لرؤية الأشياء البعيدة يستهجنون الآن فكرة استعمال الهاتف، وهو جهاز إذا ما قورن بالمنظار يقرب الصوت البعيد إليهم!».

وأضاف: «وبالطبع بقيت أجهزة اللاسلكي شيئا محظورا. لكن الزمان خفف من حدة العديد من مثل هذه التيارات المعارضة للتطور، وتزايد عدد آلات العرض وأجهزة اللاسلكي الموجودة في البيوت وأصبحت على شكل جموع غفيرة. ومما يستدعي الفضول أن أجهزة الاتصالات اللاسلكية ظهرت لأول مرة في السعودية ضد جبهات دفاعية تم اختراقها بمستجدات ومستحدثات صناعية جديدة. وابن سعود الذي كان دائما تواقا لسماع آخر الأخبار القادمة من أقاصي العالم، كان نصيرا قويا لذلك الجهاز الجديد (الهاتف). وفي عام 1931م أنشأ ابن سعود شبكة كاملة من المحطات اللاسلكية الداخلية لتنقل إليه الأخبار الفورية عن كل الأحداث.. بغض النظر عن نوعها، إذ يمكن أن تكون أخبار هطول أمطار في مكان ما، أو أخبار جريمة في مكان آخر، أو خبر وفاة المشاهير، أو حتى ولادة حفيد من الأحفاد».

مهارة ملك

* واعتبر فيلبي أن الملك المؤسس تعامل مع المعارضين لإدخال المستجدات والمستحدثات الصناعية الجديدة بمهارة، موضحا ذلك بالقول: «لم تكن المحنة التي واجهها ابن سعود في الرياض محنة قاسية، حتى لو أنه سمع بالفعل نقدا صريحا بسبب الابتكارات التي جلبها من الحجاز. إن مهارته في التعامل مع أهالي نجد وكذلك بلاغته في التعبير لم تترك مجالا للشك بأن محدثيه ومحاوريه المتلهفين والتواقين سيقرون سياسته في النهاية ويصادقون عليها. والجدير بالذكر هنا أنه إذا استدعى حدث ما الخطابة، فكان ابن سعود يرتقي إلى أعلى مستويات الخطابة».

وذكر فيلبي قصة إنشاء محطتين لاسلكيتين في العاصمتين مكة المكرمة والرياض بقوله: «إن استراحة الملك القصيرة تلك التي قضاها في الطائف والتي تكررت بعض مضي أربع سنوات أسهمت في جوانب عدة بوضع الأسس التي شيدت صرح المملكة العربية السعودية. ومن بين الأمور التي شغلت بال الملك آنذاك كانت فكرة تحسين وسائل الاتصالات في المملكة، وما أن انتهى ذلك العام حتى تم التوقيع على عقد مع شركة ماركوني لتوريد المعدات اللازمة لإنشاء محطتين لاسلكيتين كبيرتين في مكة والرياض تعملان بقوة نصف كيلو واط في عدد من عواصم الأقاليم بالمملكة، وأخيرا وليس آخرا تم التعاقد على تركيب أربعة أجهزة متحركة بقوة نصف كيلو واط ليتم أخذها مع الملك وكبار الشخصيات من مرافقيه أثناء ترحالهم»، مشيرا إلى أنه «عند حلول موسم ربيع عام 1932م تم بالفعل إنشاء هذه الشبكة العظيمة من الاتصالات اللاسلكية. وليس هناك مجال للتساؤل عن الدور المهم الذي أدته الشبكة منذ ذلك الوقت تحت إشراف الملك وتوجيهه لسياسة وشؤون البلاد. وبالطبع تم توسيع تلك الشبكة بشكل كبير وتم تطويرها عن الشكل الذي كانت عليه في ذلك الوقت، واليوم يمكن مقارنة المملكة العربية السعودية في مجال التطور اللاسلكي بأي دولة من الدول المجاورة لها في منطقة الشرق الأوسط، ناهيك من مقارنتها بالعديد من الدول الأوربية».

كما أورد فيلبي أن الملك كان يصبو منذ زمن طويل ليتمتع بفوائد ومكاسب الاتصالات اللاسلكية البعيدة المدى، وخاصة الهاتف، وعليه تم توقيع عقد مع شركة ألمانية بإنشاء شبكة فخمة تحتوي على خدمات عديدة وتربط كافة المراكز المهمة بالنواحي البعيدة المترامية من الكرة الأرضية. وكانت محطة الإذاعة في جدة تعمل منذ عدة سنوات، كما كانت تربطها مع مكة ومع المناطق الرئيسية من مناطق الحج محطات إرسال معينة، وفي تلك الفترة أيضا كان يتم إجراء دراسة تتعلق بتنفيذ خطة أشمل تهدف إلى توسيع نطاق البث ليصل الى كافة البلدان الإسلامية، مشددا على القول: «إن قضايا مثل التطور الحاصل في مجالات البرق وخطوط الهاتف، علاوة على موضوع إدخال الخدمة الهاتفية الآلية في بعض المناطق، ما هي إلا مجرد إسهامات تقديرية للأهمية التي توليها الحكومة اليوم لوسائل الاتصالات الحديثة وما تقدمه من وسائل الراحة إلى الناس. إن هذا التطور هو تذكار بعهد قريب حيث كان الناس ينظرون إلى صوت الإنسان المسموع على أنه وسيلة من وسائل الشيطان تهدف إلى زعزعة إيمانه وإسلامه».

وفي كتابه الآخر «حاج في الجزيرة العربية» نقل عبد الله فيلبي صورة أخرى من صور إدخال اللاسلكي فقال:

«إن خير صورة للعجز المنتشر في البلاد آنذاك كانت الكيفية التي عولجت بها مسألة اللاسلكي. فلعدة شهور بعد وصول المهندسين والأجهزة لم يتم شيء لبناء المحطة المراد بناؤها، إذ أن كل الطاقات كانت مبذولة في انتقال للأجهزة المتحركة. وبعد حين من الزمن تمكنّا من استصدار أوامر من فيصل بنقل جهازين متحركين إلى الرياض، ونقل الاثنين الآخرين إلى الطائف. وتم تنفيذ هذه الأوامر، وفي التاسع عشر من أغسطس كان الجهازان المتحركان في الرياض على اتصال بالآخرين في الطائف.

لقد انفعل رجال الطائف انفعالا شديدا بهذا الحدث التاريخي، مما حدا بهم لإرسال عدة برقيات تهنئة إلى الملك. أما في الرياض (وبالرغم من المعارضة الخفية لهذا الاختراع) فإنه بدا كأن الاتصال كان هناك منذ قرون طويلة ـ فلم يكن هناك صدى لهذا الحدث التاريخي، بل إن البرقية الصحفية التي أعددتها لترسل إلى «الديلي هيرالد»، معلنا فيها إمكانية اتصال العاصمة السعودية ببقية العالم، ظلت حبيسة وقتا طويلا جعل إرسالها بعد ذلك شيئا لا معنى له. ثم إن النقل بالسيارات (للبريد وغيره) بطيء جدا. ولكن إن دخلت ذرة من الرمال في الكاربوريتر أو حدث عطل بسيط ما، مما يمكن أن يحدث لأية آلة من أي نوع، أعلن يوسف أن الجهاز لم يعد صالحا للعمل. ولم يكن مجديا الإيضاح بأن الجهازين في الواقع في حالة ممتازة في وقت الكلام نفسه. لذا صار وضعي حتما أصعب فأصعب. ولم يكن أمامي شيء سوى الصمود ليقيني الراسخ بأن الزمن وحده كفيل بمعالجة كل المشكلات المؤقتة، وإن كانت هذه المشكلة المتعلقة باللاسلكي قد جعلت من المستبعد جدا أن أستعيد مكانتي الاستشارية عند الملك السابقة للحج. لذا، فإني ـ بلا أعباء رسمية لي ـ كنت عضوا غير رسمي في المجلس الملكي الخاص».

وأضاف: «وهكذا كانت الحياة خلال تلك الأيام. وتمكنت ذات يوم من تخصيص صباح يوم لاصطياد الفراشات في بستان العطنة بين حي القري الجديد (كان بستان نخيل في زيارة 1917-1918م) وبستان الوسيطى، الذي كان قد تقرر قطع نخيله لتحويل الأرض لمنطقة سكنية. وقدر لبستان العطنة أن يكون مكانا لمحطة اللاسلكي الجديدة ومستودعها. لقد كنت مستغربا جدا لندرة الحشرات في الضوء بالليل على سطح القصر. ولكن في بستان العطنة كانت الفراشات في أعداد كثيرة ـ معظمها زرقاء (من نوعين أو ثلاثة) وفصيلة بيضاء ـ والجنادب كذلك. لقد استمتعت بصباحي ذلك بينها، وجمعت منها نحوا من سبعين فراشة، وثلاثين أو أكثر من الجنادب. وفي عصر ذلك اليوم (السادس والعشرين من أغسطس 1931)، حدث تغير في النظام اليومي بدعوة كانت وجهت للملك للغداء في أحد البساتين خارج السور الغربي للمدينة. وكنا مدعوين أيضا، وذهبنا إلى هناك، أنا ويوسف وخالد، مشيا في حر الظهيرة. لقد كانت تغييرا جميلا لنا أن نجلس في حديقة بدلا من القصر في البديعة. وكان الغداء وليمة كالعادة، عدنا بعدها لحديقة العطنة ليرى الملك الموقع الذي ستكون فيه محطة اللاسلكي. وهناك صلينا المغرب، وأكلنا من تمر الوسيطى، وأمر الملك ببناء الحيطان والدعائم».

ويروي لـ«الشرق الأوسط» الأمير طلال بن عبد العزيز الذي قاد إحياء أول برج للبرقية في العاصمة السعودية وأنشأه الملك عبد العزيز قبل 80 عاما أن فيلبي اقترح على الملك عبد العزيز جلب خبراء لتشغيل البرقيات من الخارج، لكن الملك قال له: بل نرسل من أبناء البلاد من يتعلم هذه المهنة لدى شركة ماركوني في انجلترا.

وتم بالفعل ابتعاث مجموعة منهم: محسون حسين أفندي، وإبراهيم زارع، وإبراهيم سلسلة، وقد لاقى هؤلاء صعوبات في كونهم لا يجيدون اللغة الانجليزية. ثم أرسلت بعثة أخرى من أعضائها احمد زيدان الذي شغل بعد ذلك منصب وكيل وزارة المواصلات في السعودية. جهاد لإدخال الهاتف والتلغراف

* وفي كتاب «جزيرة العرب في القرن العشرين» تحت عنوان «أعمال الملك عبد العزيز الإصلاحية» قال الأستاذ حافظ وهبة: «لا يقدّر على مجهودات الملك عبد العزيز حق قدرها إلا الواقفون على أحوال البلاد العربية المتصلون بها، الخبيرون بشؤونها، الملمون بأحوال سكانها وطرق معيشتهم. إن الذي يعرف بلاد العرب ـ في أوائل هذا القرن ـ عن خبرة شخصية، أو يقرأ كتب الجوابين من الإنجليز: يعرف ما لهذا الرجل من فضل في استتباب الأمن، والضرب على أيدي قطاع الطرق من القبائل».

وشدد وهبه بالقول: «والذي يعرف بلاد العرب وما كانت عليه من تشاحن بين أمرائها، وحروب مستعرة بين حكامها، يقدر مجهود هذا الرجل في قطع دابر الخصومات بتوحيد بعض الإمارات المتخاصمة».

وزاد: «لقد ذكرنا في فصول متفرقة من هذا الكتاب ما له من الأيادي، كإدخال النظام الصحي الحديث في نجد والأحساء بالإكثار من الأطباء، وإنشاء المستشفيات المتنقلة لعلاج المرضى، لأن حالة البلاد المالية لا تساعد على إنشاء مستشفى في كل بلد، كما أدخل نظام التطعيم ضد الجدري بالرغم من معارضة بعض المتعصبين، كما ذكرنا فضله في العمل على نشر التعليم والإكثار من المدارس، ومكافحة الجهل بكل الوسائل الممكنة، ولولا قلة المال الذي يعوز كل مشروع إصلاحي لوجدنا البلاد العربية التي يقود سفينتها عبد العزيز أسبق البلاد وأسرعها خطى في طريق التقدم.

والملك عبد العزيز في طريق الإصلاح يفضل التؤدة والتأني وإعداد الشعب تدريجيا لما يريد له من الإصلاح.

إن كثيرا من القراء لا يدركون الصعوبات التي كان يعانيها الملك عبد العزيز ولا العقبات التي كانت تقف في سبيل ما يريد من المشروعات.

لقد مكث عبد العزيز يجاهد ويجالد في سبيل التليفون والتلغراف اللاسلكي جهادا عنيفا ـ مرة مع الإخوان، وآونة أخرى مع العلماء نحو عشر سنوات ـ وكان هذا ذلك من الموضوعات التي أثارت عليه حفيظة الإخوان».

وأورد حافظ وهبه قصصا تحكي الصعوبات التي واجهت الملك المؤسس عند إدخال مشروعات التحديث، ومنها اللاسلكي وكيفية معالجة الملك لهذه الإشكالية، موضحا ذلك بالقول: «سأقص عليك القصتين التاليتين، وأمثالهما كثير، لتعرف المحيط الذي كان يحيط بالملك عبد العزيز، وتعرف الصعوبات التي كان يعالجها ويحاول التغلب عليها.

أوفدني جلالة الملك للمدينة سنة 1346هـ (1928م) مع عالم كبير من علماء نجد للتفتيش الإداري والديني، فجرى ذكر التلغراف اللاسلكي، وما يتصل به من المستحدثات، فقال الشيخ: لا شك أن هذه الأشياء ناشئة من استخدام الجن، وقد أخبرني ثقة أن التلغراف اللاسلكي لا يتحرك إلا بعد أن تذبح عنده ذبيحة، ويذكر عليها اسم الشيطان. ثم أخذ يذكر لي بعض القصص عن استخدام بني آدم للشيطان، ولم يكن لشرحي لنظرية التلغراف اللاسلكي وتاريخ استكشافه نصيب من إقناع الشيخ، فلم أجد أي فائدة من وراء البحث. فسكت على مضض.

وفي يوم من الأيام دعاني الشيخ لمرافقته لزيارة قبر حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم عند جبل أحد ـ وهو يبعد عن المدينة بالسيارة نحو نصف ساعة ـ فلبيت الدعوة وسرنا من المدينة بعد صلاة العصر، وفي أثناء الطريق أوقفت السيارة عند محطة التلغراف اللاسلكي، وهنا دار بيني وبين الشيخ الحديث التالي:

سأل الشيخ: لماذا أوقفت السيارة؟ فأجبته: لنرى التلغراف اللاسلكي، فإن كان هناك ذبائح ودعوة لغير الله، فإني سأحرقه مهما كانت النتيجة، فالدين لله لا لابن سعود، وقد يكون الملك مخدوعا في أمر هذه التلغرافات، وتذكر له الأشياء على غير حقيقتها. فقال الشيخ: بارك الله فيك. فدخلت المحطة، وبعد البحث لم يجد الشيخ أي أثر لعظام الذبائح وقرونها أو صوفها، ثم أراه الموظف المختص طريقة المخابرة، وفي دقائق تبودلت المخابرات والتحيات بينه وبين جلالة الملك في جدة.

الجن يحرك اللاسلكي

* كانت هذه الزيارة البسيطة مدعاة للشك في ما كان يعتقده من عمل الشيطان في المخابرات اللاسلكية، ولكنه ظن أنني ربما دبرت هذه الحيلة بإيعاز من الملك، فزار الشيخ محطة التلغراف بضع مرات منفردا في أوقات مختلفة، بدون أن يخبر أحدا بعزمه، فكان يفاجئ العامل المختص بالزيارة، ويسأله عن كل ما يخفى عليه، وقد أخبرني الشيخ ونحن في طريق عودتنا إلى مكة، بأنه يستغفر الله ويتوب إليه مما كان يعتقده ويتهم به بعض الناس ـ وربما كان يقصدني بذلك ـ ثم ختمت الموضوع بقولي: ما قولكم يا حضرة الشيخ في رواية أولئك الثقات؟ أخشى أن تكون رواياتهم لكم عن أكثر المسائل العلمية كروايتهم عن التلغراف! فقال: حسبي الله ونعم الوكيل.

وقد أخبرني جلالة الملك في شعبان سنة 1351هـ (ديسمبر/كانون الأول 1932م) أثناء زيارتي للرياض أن بعض كبار رجال الدين حضروا عنده سنة 1931م لمّا علموا بعزمه على إنشاء محطات لاسلكية في الرياض وبعض المدن الكبيرة في نجد. فقالوا له: يا طويل العمر، لقد غشك من أشار عليك باستعمال التلغراف وإدخاله إلى بلادنا وإن «فلبي» سيجر علينا المصائب، ونخشى أن يسلم بلادنا للإنجليز، فقال لهم الملك: لقد أخطأتم فلم يغشنا أحد، ولست ـ ولله الحمد ـ بضعيف العقل، أو قصير النظر لأخدع بخداع المخادعين، وما «فلبي» إلا تاجر، وكان وسيطا في هذه الصفقة، وإن بلادنا عزيزة علينا لا نسلمها لأحد إلا بالثمن الذي تسلمناها به. إخواني المشايخ، أنتم الآن فوق رأسي. تماسكوا بعضكم ببعض لا تدعوني أهز رأسي فيقع بعضكم أو أكثركم، وأنتم تعلمون أن من وقع على الأرض لا يمكن أن يوضع فوق رأسي مرة ثانية. مسألتان لا أسمع فيهما كلام أحد، لظهور فائدتهما لي ولبلادي، وليس هنالك دليل من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنع من إحداث اللاسلكي والسيارات. وعندما وضعت الآلة اللاسلكية في الرياض واستعملت، كان الناس يغري بعضهم بعضا بأن إنشاء هذه المحطة هو الحد بين الخير والشر. وكان العلماء يرسلون من يأتمنونهم لزيارة المحطة ورؤية الشياطين والذبائح تقدم لهم، فلم يجدوا شيئا.

وقد أخبرني عامل المحطة بأن بعض المشايخ الصغار كانوا يترددون عليه من وقت لآخر لسؤاله عن موعد زيارة الشياطين. وهل الشيطان الكبير في مكة أو الرياض؟ وكم عدد أولاده الذين يساعدونه في مهمة نقل الأخبار؟ فكان يجبيهم بأن ليس للشياطين دخل في عمله، وكان بعضهم يغريه بالنقود وأنهم سيكتمون هذا السر. ولكن العامل كان يأخذ الأخبار ويرسلها أمامهم ويخبرهم أن الموضوع صناعي محض. كانت الأيام تعمل عملها في نفوسهم، ورسلهم ينقلون إليهم حقيقة ما يرونه ويشاهدونه حتى لمسوا فائدة سرعة الأخبار في فتنة ابن رفادة وعسير. فقد ساعدهم ذلك على قمع الفتنة سريعا، ولو كان الاعتماد على الجمال لكانت الأخبار لا تصل قبل 25 يوما أو أكثر، ومثلها في الرجوع، ولا يعلم إلا الله ماذا يجري من الحوادث أثناء ذلك.

ولقد حدث مثل هذا في نجد قبل ستين سنة، فإن أول ساعة دقاقة كسرت، وعدت من عمل الشيطان، وحدث أن بعض الجهلة أذاع بين الإخوان هذه الفكرة فقامت قيامة الإخوان منكرين على المشايخ استعمالها، وأن أقل الأحوال فيها أنها بدعة، فتصدى لهم أحد المشايخ ورد عليهم في رسالة صغيرة سنة 1334هـ (1916م) وطبعت في مصر سنة 1923. فهذه القصص وأمثالها ترينا ناحية من نواحي عظمة ابن سعود، ومقدار ما كان يعانيه من الصعوبات في طريق الإصلاح، وترينا ناحية من نواحي الكفاح بين القديم والحديث».

إنكار يتحول إلى مجابهة

* واعتبر المؤرخ عبد الرحمن الرويشد في أوراق محفوظة في مكتبة الأمير طلال الخاصة أن «إنكار علماء نجد على الملك عبد العزيز استخدام التقنيات الحديثة، لم يكن على مستوى واحد، ولا في وقت واحد.. وهذا الخلاف لم يسجل، ولم يدون في كتب ولا رسائل كلا الطرفين. وكل ما يعرف عن هذا الموضوع، هو ما نقله حافظ وهبة في كتبه. عندما حكا قصة دخول الملك عبد العزيز للحجاز، فقد أنكر رئيس القضاة استخدام البرق، لأنه كان يتوهم أن يستعان في تشغيله بالشياطين، حتى أقنعه حافظ وهبة بأنه مجرد صناعة، واستخدمه أمام الشيخ عبد الله بن حسن، فاقتنع الشيخ عبد الله بذلك.

وفي الرياض.. تأخر جهاز اللاسلكي.. حيث وقف علماء الرياض منه موقفا مماثلا. ثم اقتنعوا بأنه مجرد صناعة. وكانوا يشككون في أنه يستخدم بواسطة الشياطين.

لكن زاد الموقف في ما بعد، أي حوالي عام 1345هـ (1924م) على ما أظن، عندما بدأ الإخوان البدو ومطاوعتهم، ينكرون على الملك عبد العزيز توسعه في تعامله مع التقنيات الحديثة، وانفتاحه على الآخرين، فأنكروا استخدام السيارة واللاسلكي والتليفون وحتى الساعة الوقتية، وكان إنكارهم مجابهة بواسطة زعمائهم وبواسطة مطاوعتهم آنذاك. لكن علماء نجد هذه المرة، لا سيما علماء الرياض، وقفوا إلى جانب الملك عبد العزيز، وأفتوا بأن تلك التقنيات هي مجرد صناعة.

والعلماء الذين أيدوا الملك عبد العزيز، وبعض من تراجعوا وأفتوا بأن تلك التقنيات صناعة هم: عبد الله بن حسن، بعد أن رجع عن قوله، الشيخ سعد بن عتيق، رئيس علماء الرياض، الشيخ محمد بن إبراهيم، الشيخ محمد بن عبد اللطيف، الشيخ سليمان بن سحمان، وقد ألف كتابا عن الساعة، وأنها صناعة وليست من السحر، الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف آل الشيخ، الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ، الشيخ عبد الله العنقري، من كبار علماء نجد، وغيرهم».