سفرة إفطار الصائمين في الحرم النبوي.. أكبر مائدة متصلة في العالم

يمتد تاريخها إلى 14 قرنا.. وتعد إرثا تتناقله عوائل المدينة

تحرص العديد من الأسر المدينية على استمرار عادتها السنوية في إفطار الصائمين من زوار المسجد النبوي الشريف («الشرق الأوسط»)
TT

اعتبر باحث تاريخي أن موائد إفطار الصائمين في الحرم النبوي الشريف تعد أكبر مائدة متصلة في العالم. وأكد الدكتور محمد خوجة الباحث في تاريخ المدينة المنورة أن هذه الموائد التي تمتد داخل المسجد النبوي الشريف وفي ساحاته الخارجية مع غروب شمس كل يوم من أيام شهر رمضان المبارك هي المائدة الأكبر على وجه الأرض من حيث طولها وعدد المستفيدين منها الذين يصلون إلى الملايين في أوقات الذروة ومن حيث اتصالها على امتداد المسجد النبوي الشريف وساحاته الخارجية من غير انقطاع. ويشير خوجة في حديثه لـ«الشرق الأوسط» إلى أن هذه الموائد تضرب بجذورها في التاريخ حيث ما زالت تقام بشكل متكرر منذ بداية التاريخ الإسلامي وبناء المسجد النبوي قبل أربعة عشر قرنا. إلى ذلك تعتبر العائلات القاطنة في المدينة المنورة موائد إفطار الصائمين إرثا تاريخيا تتناقله أجيالها. ويبين خوجة أن ثمة مناطق داخل المسجد النبوي تشكل موائدها إرثا خاصا بعائلات بعينها ما زالت تحافظ على إقامتها منذ عشرات السنين تصل في بعض الأحيان إلى الجيل الرابع من هذه العائلة. معللا هذا بأن وجود مائدة خاصة بعائلة أو قبيلة بعينها داخل المسجد النبوي يعد أحد الثوابت الاجتماعية في المدينة المنورة. وتشير المنطقة التي تحتلها كل عائلة داخل المسجد النبوي إلى مكانة هذه العائلة وتاريخ وجودها في المدينة المنورة. فإقامة مائدة في منطقة الروضة الشريفة أو ما يعرف بالحرم القديم يعتبر حكرا على عائلات احتلت هذا المكان منذ عشرات السنين وما زالت تحافظ على إقامة موائدها بانتظام مثل عائلات الكردي والحميد. ويشدد خوجة على أنه وبالرغم من المساحات الهائلة التي تقام عليها هذه الموائد فإن هذا العمل يقام دون تدخل من جهات حكومية وإنما هو جهد تطوعي ينفذ بسواعد أهالي المدينة وزوارها وبعض المؤسسات الأهلية، يدفعهم إلى ذلك حب الخير والواجب الاجتماعي في استضافة زوار الحرم النبوي الشريف. وتحتل هذه الموائد مكانة خاصة في تقاليد وأعراف سكان المدينة المنورة. فهي كما يشير تركي يونس، أحد مرتادي المسجد النبوي، تعد واحدة من صور العمل التطوعي الذي يتسابق سكان المدينة إلى القيام به في مواسم العمرة والحج ورمضان. موضحا أن ثمة مناطق داخل الحرم النبوي تعرف باسم عائلات بعينها منذ خمسين عاما حيث تعكف هذه العائلات على تفطير الصائمين من خلال موائد يحضرها كبار العائلة وتعد لها ميزانيات خاصة يشترك فيها أفراد العائلة جميعا. ويبدأ التحضير لها من وقت مبكر قبل بداية شهر رمضان قد يصل إلى منتصف شهر شعبان. وتتكون مائدة إفطار الصائم داخل الحرم النبوي من التمر والماء والخبز والقهوة والشاي واللبن والقشطة والزبادي ونوع من البهارات يطلق عليه اسم «الدقة» إضافة إلى المكسرات والأجبان. وبحسب بعض القائمين على هذه الموائد فإن تكلفة إفطار شخص واحد تتراوح بين ريالين إلى ثلاثة ريالات. ويدفع التركيز على مشتقات الألبان في هذه الموائد شركات الألبان إلى تقديم خصومات خاصة في نقاط بيع منتجاتها أمام الحرم النبوي تصل إلى 25 في المائة ويعتبر البعض هذا الأمر نوعا من الدعاية في حين يراه آخرون رغبة من ملاك هذه الشركات في مشاركة الأجر والثواب. ويشير يونس إلى أن هذه العادة ربما شهدت تقلصا في جانبها الاجتماعي لدى هذه العائلات في الفترة الأخيرة. حيث يلجأ بعضها إلى ترك مهمة تحضير مائدة الإفطار والإشراف عليها ودعوة الصائمين لها إلى العمالة الوافدة مدفوعة الأجر مكتفين في ذلك بالتكفل بالجانب المادي والوجود في فترة الإفطار. معتبرا أن القيمة الحقيقية لهذا العمل التطوعي تكمن في المشاركة العملية فيه بالوجود من وقت مبكر وشراء مستلزمات المائدة ودعوة الصائمين لها، لافتا إلى أن المردود الفعلي لهذا العمل إضافة إلى حصول الأجر الرباني هو عبارات الشكر والدعاء التي يستمع إليها صاحب المائدة من ضيوفه على الإفطار. ويعد اليوم الأول من شهر رمضان هو الحد الفاصل بين القدرة على الحصول على مساحة داخل المسجد النبوي لإنشاء مائدة تفطير الصائمين من عدمه، حيث يشدد أصحاب الإرث التاريخي على أحقيتهم بالمناطق التي اعتادوا على الوجود فيها كل عام، معللين ذلك بأنهم يقومون بهذا العمل منذ عشرات السنين. بينما يرى الآخرون الذي لا يملكون تاريخا سابقا في مجال تفطير الصائمين داخل المسجد النبوي ويودون خوض التجربة للمرة الأولى بأن حضورهم منذ وقت مبكر يشفع لهم في احتلال هذه المناطق واستغلالها لإنشاء هذه الموائد. وعادة ما تنتهي هذه المناظرات التي يشهدها اليوم الأول لصالح المنادين بحقهم التاريخي في هذه الموائد بينما يلجأ الباقون إلى استغلال ممرات المشاة والأبواب. وفي حالات نادرة وصل الأمر إلى اشتباكات بالأيدي استدعت تدخل رجال الأمن للفصل في هذه القضية التي يراها بعض مرتادي المسجد النبوي إشكالية سنوية ينبغي إيجاد آلية لتنظيمها. من جانبه يؤكد أكرم بخش، والذي اعتاد على إقامة مائدته في المنطقة التي تعرف بـ«توسعة عمر بن عبد العزيز» داخل المسجد النبوي، أنه يقوم بهذا العمل منذ ستة عشر عاما دون انقطاع، مشيرا إلى أن مائدته تتكون في العادة من التمر والماء والقهوة وخبز الشريك واللبن والزبادي. حيث يوجد يوميا من بعد صلاة العصر لإعدادها ودعوة الصائمين إلى مشاركته فيها. ويضيف بأنه يستعد لإقامة هذه المائدة بميزانية خاصة يجهزها قبل بداية شهر رمضان في إطار سعيه للاحتفاظ بهذه المائدة التي يرى بأنها عادة يحرص كل قاطني المدينة المنورة على المساهمة فيها. ويقول محمد بخش والذي يقيم مائدة بالتعاون مع أصدقائه في أحد ممرات المسجد النبوي إن مائدته ما زالت في بداياتها حيث لم تكمل سوى سبع سنوات إلى الآن وهو ما يفسر اضطراره إلى استغلال ممرات المسجد لإقامتها حيث تعد بقية المناطق داخل الحرم النبوي حكرا على عائلات سبقتهم في استغلالها منذ فترات أطول. لافتا إلى أن جهده لا يتوقف على إعداد هذه المائدة بل وإلى التسويق لها ودعوة المصلين داخل المسجد إلى مشاركته فيها. وهو ما يدفعه إلى تزيين مائدته ببعض المكسرات والأجبان حتى يبدو متميزا عن غيره. ولا يقتصر الأمر على محمد بخش ورفاقه فحسب. بل إن تفطير الصائمين داخل المسجد النبوي لا ينتهي عند حدود تجهيز مائدة الإفطار بل يتطلب جهدا تسويقيا لضمان استضافة أكبر عدد من الصائمين ويبدأ التسويق لهذا الأمر من خلال اختيار موقع مميز لهذه المائدة والحرص على جعل مكوناتها مختلفة عن غيرها من خلال إضافة المكسرات والأجبان إليها وقد يصل الأمر إلى جلب بعض الأطعمة الممنوعة داخل المسجد مثل السمبوسة والفلافل، إضافة إلى الوقوف أمام المائدة ودعوة أي صائم يمر بجانبك إلى المشاركة في إفطارك. ويبذل القائمون على إعداد هذه السفر جهدا مهولا يبدأ من بعد صلاة العصر مباشرة وحتى المغرب يوزع خلاله أكثر من 300 ألف وجبة، حيث يؤكد عبد الواحد علي الخطاب مدير العلاقات العامة والإعلام بوكالة الرئاسة لشؤون المسجد النبوي لـ«الشرق الأوسط»: «إن الرئاسة تقوم بالإشراف ومساعدة القائمين على تلك السفر والمبرات التي توزع داخل المسجد النبوي والتي يقدر عددها بحوالي 170 ألف وجبة وفي الساحات الخارجية والتي تقدر بحوالي 130 ألف وجبة على الالتزام بالتعليمات والضوابط ومنها تحديد أنواع المأكولات المسموح بها داخل الحرم وهي التمر واللبن الزبادي وأقراص الشريك والقهوة .

وأضاف «أن الساحات الخارجية يسمح فيها بتوزيع الوجبات الباردة والعصيرات المعلبة والأرز واللحم أو الدجاج». إلا أنه يشدد على القائمين على تلك السفر بضرورة الحفاظ على النظافة وترتيب نشر وتوزيع الموائد بما يمكن سيارات الخدمة والإسعاف من المرور بينها. وعلى امتداد الطرق المتجهة إلى المسجد النبوي من الجهات الأربع تقف عشرات البرادات المحملة بالمواد الغذائية والمرطبات يومياً مصطفة في الشوارع والطرقات المحيطة بالمسجد النبوي لتموين أصحاب الموائد باحتياجاتهم من التمور والألبان والخبز وعبوات المرطبات، وتظل العمالة الوافدة أكثر مرتادي هذه الموائد والمستفيدين من محتوياتها خاصة في الحرم النبوي الشريف ومساجد الأحياء. ويصف المهندس يحيى سيف مدير عام الجمعية الخيرية للخدمات الاجتماعية في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «أن مشروع إفطار صائم من الأعمال الخيرة إلا أنه من الواجب على القائمين عليه والمتبرعين له عدم الانسياق في صرف مثل هذه الأعمال الجليلة عن مقاصدها الشرعية هدفاً وسلوكاً ومضموناً وإخراجها إلى المباهاة والإسراف وتحويلها إلى مشاريع تجارية».

وبالعودة إلى السفر وأطوالها فيجدر الذكر إلى أن أكبر مائدة لتفطير الصائمين في الحرم النبوي هي سفرة الملك فهد (يرحمه الله) والتي تقع في الساحة الخارجية للمسجد مقابل باب الملك سعود وتستضيف يوميا آلاف الصائمين.