مندوبون ومندوبات يجوبون القطاعات والشركات ويدعون لاستباق الموت بـ«شراء الكفن»

علماء دين يحذرون من استغلال الدين في التجارة .. وتربويون ونفسيون ينبهون إلى الآثار المترتبة على ذلك

المحتويات التي يتم بيعها معروضة في داخل إحدى غرف غسيل الموتى (صورة خاصة بـ«الشرق الأوسط»)
TT

سجلت مؤخرا، تجارة بيع الاكفان حضورها اللافت في السعودية وخاصة في المواقع الرسمية والخدمية من خلال باعة يتجولون بها على المدارس والموظفين والموظفات ويغرون الناس بشرائها والاحتفاظ بها لتذكر الموت او تقديمها صدقة للاموات.

وتحت مسمى «اشتر كفنك» يحمل مسوقون ومسوقات عروضهم في صبيحة كل يوم ويتجهون الى اقرب مكان يجدونه مفتوحا ويتواجد به مجموعة من الرجال او النساء.

يقول لـ«الشرق الأوسط» محمد عبد الله وهو موظف لدى احدى المؤسسات التي تقوم ببيع الأكفان وتسويقها من خلال سيدات ورجال «أقمنا هذا المشروع والذي انطلق منذ سنة لدعم المغاسل الخيرية ونقوم ببيع الكفن ومستلزماته بسعر 150 ريالا، وهناك محلات كثيرة مثلها».

وحول إقبال الناس على شراء الكفن يرد «إن هناك أناسا تحب أن تشتري الكفن وتحتفظ به وهناك أناس يشترون هذه الأكفان ويطلبون منا توزيعها على المغاسل». مشيرا إلى أن لديهم مسوقين يقومون بالتسويق للمنتج. في حين لا تكتفي أم محمد وهي خريجة بكالوريوس دراسات إسلامية وداعية ومندوبة لدى مؤسسة بيع الأكفان, ببيع الاكفان والتسويق لها بل تزيد بإلقاء محاضرات ودروس في كيفية تكفين الميت بالمدارس والمستشفيات والمساجد والمنازل ودور تحفيظ القرآن وتقوم بشرح أهداف المؤسسة في بيع الأكفان ومن ثم تذكرهم بالموت وأهمية الاستعداد له عن طريق شراء الكفن، وتقول أم محمد في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «إنه من الواجب! حسب قولهاـ أن يشتري الإنسان كفنه لنفسه وإن أراد بعد ذلك أن يتبرع به لميت تطبيقاً لحديث الرسول عليه الصلاة والسلام (من كفن مسلماً كساه الله من سندس وإستبرق الجنة) فالواجب أن يشتري الإنسان كفنه من حر ماله فالإنسان لا يدري متى يموت فلو مات لا يدري من سيشتري له الكفن وهل سيشتريه من حر ماله فهنا لا يطبق الوجوب!!!». وتضيف أم محمد «أن هذه المحاضرات التي أقوم بإلقائها هي لإقناع الحضور بوجوب شراء الكفن عن طريق الاستشهاد بالأدلة والسنة فأبدأ بمحاضرة عن التعريف بالموت وعلاماته والاحتضار وقبض الأرواح وبعد ذلك أقوم بعملية تطبيق كيفية غسل الميت وتكفينه، وبعد ذلك أعرض عليهم الكفن ليشتروه فمنهم من يقوم بشرائه ومنهم من يقوم بالتبرع به».

وتستطرد «ولله الحمد وجدت إقبالا كبيرا على شراء الأكفان من خلال المحاضرات والموعظة التي أقدمها ولم أجد أي صعوبة في عملي فهذا يجعلك قريبة من الله ومتذكرة للآخرة والحساب في كل وقت فالرسول قال( كفى بالموت واعظا) وأنا لا أوجبك على الشراء ولكن أقنعك بأهمية شراء الكفن ولديك الخيار حول الشراء أو عدمه».

وحول ما تحتويه هذه الشنطة أو الصندوق الذي تقوم بالتسويق له تقول أم محمد «إنها مكونة من كفن كامل، قطع قماش واحتياجاته كالسدر والكافور والطيب ومتوفر بجميع الأحجام».

وتقول أم محمد «إنني أول من اقتنيت كفني فالموت آت لا مفر منه وأنا مستعدة له واحتفظ به في غرفتي وأنظر إليه كل يوم قبل النوم فأكثر من تذكر الموت والزهد في الدنيا وأبعد عن مباهج الدنيا وعائلتي أيضا مقتنعة بذلك».

وتظل الشريحة المستهدفة هي إما المستفيد أو المتضرر إذ تقول م ز وهي معلمة تعمل في احدى مدارس جدة في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «إن مندوبة جاءت الى المدرسة للتسويق لذلك، ولم تغادر حتى شعرت بخوف رهيب من كلامها وشعرت انني سأموت».

وتضيف «في البداية توقعت انها تحتال علينا لكن بعد عدة امور تبين لي انها فعلا تتبع لمؤسسة متخصصة في ذلك، لكن بدا واضحا ان الامر تجاري بحت ولا علاقة له بالنصح او الوعظ وخلافه».

وحول شرعية هذا العمل والتجارة باسم الدين الإسلامي يرى الدكتور عقيل العقيل أستاذ الفقه بجامعة الإمام محمد بن سعود في حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «إن بيع الأكفان لم يعرف عن السلف أنهم قد تاجروا بالأكفان، فالإنسان يوعظ دائما ويذكر بالاستعداد للقاء الله عز وجل والاستعداد للموت الذي يأتي على غفلة، ولكل اجل كتاب، ولكن أن يصل الأمر إلى أن تباع الأكفان ويطلب من الشخص أن يشتري كفنه فهذا ليس من حال السلف ولا ينبغي أبداً وليست هذه وسيلة وعظ بل هذه تجارة بحتة». وأضاف «المشروع في الإسلام أن الميت يكفنه المسلمون ومعروف ما هو كفن الرجل وما هو كفن المرأة ولا يحتاج أن نتاجر بالأكفان، فهذا الأمر ربما يصل إلى الابتداع لأننا في هذه الحالة استغنينا عن الوعظ الحقيقي والتذكير بالموت بأمر جديد هو (التجارة) فالنبي ذكر بالموت والاستعداد له بعدة طرق وهناك أحاديث كثيرة حول أهمية الاستعداد له ولكن لم يعرف أنه أمسك كفنا وقام ببيعه أو طلب أن تعرض الأكفان بالمساجد فضلا أن يؤتى بها في المدارس والمستشفيات وغيرها».

ويحذر أستاذ الفقه العقيل «أن هذا ربما يكون له ردة فعل سيئة على الطلاب والطالبات والمرضى وقد يؤثر سلباً في أنفسهم فالمرأة لماذا منعت من زيارة القبور لضعفها وقلة تحملها فكيف تأتي بالكفن للبيت هذا خطأ». مبينا «إن واجبنا تذكير الناس بالموت والبعد عن المعاصي والاستعداد والتوبة ولكن أن يصل الأمر لهذا الشيء الذي لم يعرف عن النبي أو السلف والصحابة الذين هم اعلم منا بالشرع وأحرص منا على الخير فهذا غير جائز وأتمنى منع هذا العمل ومحاسبة من يقوم به».

من جانبها ترى فوزية الخليوي عضو الجمعية السعودية العلمية للسنة النبوية بجامعة الإمام محمد بن سعود في حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «أنه ورد عن عدد من السلف أنهم قاموا بتجهيز كفنهم قبل الموت من بينهم السيدة زينب زوجة الرسول وكان قد أرسل الكفن لها عمر بن الخطاب فقالت وقتها (لقد ابتعت كفنا)».

ولكنها تستطرد «أن يتم عرض الكفن على الموظفين والموظفات فهذه تحولت إلى تجارة وليس تذكيرا ووعظا خاصة أن الأكفان أصبحت متوفرة في مغاسل الموتى فلسنا بحاجة للتسويق لها. وغالباً ما تدارهذه التجارة في أوساط النساء العاميات اللاتي يعتبرن فريسة سهلة لهذه التجارة». وأضافت، «أن ثقافة الموت موجودة لدى المجتمع السعودي منذ زمن وبطرق متنوعة لذلك وجدت هذه الشريحة أن المتاجرة بالموت عن طريق بيع الكفن والأشرطة الدينية والأفلام وصور القبر أنها تجارة رابحة لأننا مجتمع يثق بهذه الثقافة».

وتستكمل حديثها «لذلك نجد أن الكثير من القنوات الدينية تقوم بالتسويق أيضاً للأكفان من خلالها ونحن المجتمع السعودي أكبر مستجيب لمثل هذه الدعايات إن كان عبر القنوات التلفزيونية أو عبر البروشورات فبحسب توجهات وثقافة المجتمع ينظر التجار لنا ولما يؤثر فينا فهذه التجارة تعتبر رابحة بالنسبة لهم لأنها تمس ثوابت دينية لا يمكننا إنكارها. فهذا الموظف الذي يبيع الأكفان لا نستطيع أن ننكر عليه ذلك لأنه مس الثوابت الدينية لدينا والتي هي مقدسة بالنسبة لنا ومن ضمنها أي شي يمس الموت حتى بيع الأشرطة الدينية وغيرها فمجتمعنا يختلف عن المجتمعات الأخرى من ناحية تقديسه وتعظيمه لهذه الأمور». وتبين «تجارة الأكفان ردة فعل طبيعية للثقافة التي نحتويها وهي ثقافة الموت وهذا يؤثر سلباً في نفسيات الأفراد الذين أصبح الموت يشغل وقتهم فيصابون بالاكتئاب والأفكار السلبية ويبتعدون عن التمتع والإحساس بالحياة مقارنة بالمجتمعات الأخرى، فثقافة المجتمع لها دور كبير بتوجيه نوعية التجارة».

وأضافت «أن الإنسان لا يتوجه لشراء الكفن ويضعه في المنزل إلا إذا كانت الأفكار السلبية أو الملل من الحياة والاكتئاب قد سيطر عليه ولا يوجد أي نص يدعو لاقتناء كفن».

ويختلف قليلا الشيخ الدكتور علي الشبر أستاذ العقيدة والشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود عن سابقيه اذ يقول لـ«الشرق الأوسط»: «إن بيع الكفن وما يتعلق بتجهيز الميت جائز لأن تكفين الميت فرض كفاية بالتالي بيعه وشراؤه لتجهيز الميت لا بأس به بإجماع العلماء».

لكنه يتوقف ويقول «لكن لو تبرع به أحد الأشخاص صدقة لوجه الله وإلا لو لم يتبرع به أحد يجب أن تخرج قيمة هذا الكفن من مال المتوفى أو من ورثته». وحول المتاجرة بالأكفان من خلال المندوبين والمسوقين يقول الشبر «إن الخطأ بالممارسة من بعض ضعفاء النفوس وليس الخطأ بالحكم الشرعي وأن هذا أمر مرفوض».

ويتفق الجميع من علماء دين ونفسيين على مدى تأثير بيع الاكفان والتسويق لها، إذ يعلق الدكتور تركي العطيان أستاذ علم النفس المشارك لـ«الشرق الأوسط»: «بأن اقتناء الأكفان له تأثير نفسي بلا شك وهناك قاعدة فقهية (لا ضرر ولا ضرار) فعملية اقتناء الأكفان لها تأثير نفسي يختلف من شخص لآخر من حيث السن والوضع الاجتماعي».

وأضاف «الأثر النفسي لا يكون بمستوى واحد على جميع من يعرض عليه شراء أو اقتناء الكفن، فالإنسان عندما يرى جنازة أو يحضر دفن ميت يؤثر في نفسيته ولو لفترة بسيطة. فيختلف التأثير النفسي من شخص لآخر فمثلا لو قدم هذا الكفن لشاب مراهق قد يؤثر في نفسيته ويصاب باكتئاب ويضيق صدره ويركز تفكيره على العذاب والموت ونحن لا نريد هذا الأمر فالتذكير مطلوب ومحبة الحياة مطلوبة للإنتاج لا أكثر ولا أقل». ويضيف «أنا غير ملزم لأن اشتري كفني وأضعه في منزلي لأن هذه ليست سنة مأخوذة عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكان الرسول يغتنم الفرص مع الصحابة لينصحهم ويذكرهم بالنار وليس في كل وقت». ويستطرد «ما نراه الآن هو عملية تنفير الناس من الحياة وجعلهم يفكرون بالآخرة بطريقة سيئة، وإن كان من باب التذكير فبدلا من بيعه كفنا هناك طرق عديدة للتذكير والاستعداد قد تكون عبر كتيب أو بروشور أو الدعوة لعمل تطوعي أو غير ذلك فبرامج الناس العقلية تختلف فهناك برنامج عقلي اقترابي وبرنامج عقلي ابتعادي، الاقترابي معناه أن الإنسان يحب أن يكون قريبا من الجنة والابتعادي أن الإنسان يحب أن يبتعد عن النار فعندما تعرض على شخص أن يشتري الكفن ولديه هلع من النار من المؤكد أنه سيؤذي أسرته وبيته ونفسه وقد يصاب باكتئاب والمرأة قد تؤذي نفسها». ويوضح الدكتور النفسي العطيان «أن هناك قرارا صدر عن إدارة التعليم بالطائف بمنع الوعاظ من الحديث عن الموت مباشرة وخاصة عند الحديث مع الطالبات والنساء، لذلك فالتذكير بالموت يجب أن يكون من باب الوعظ لا من باب التشديد والترهيب».

وحول بيع الكفن والتسويق له يقول العطيان «إن هذا سلوك غير سوي والقائمين عليه أناس غير أسوياء». واصفا الذين يقومون بالمتاجرة بالأكفان بأنهم يطبقون الناحية الشعورية في الدين ويقول «إن الدين المعرفي هو من يعتقد ويعرف الدين ولا يطبقه، والدين الشعوري وهم كأصحاب البيع والمتاجرة بالأكفان وهم الذين يركزون على الناحية العاطفية الدينية دون معرفة الآثار والأبعاد التي تترتب عليه مندفعين اندفاعا قويا فيقومون بإيذاء أنفسهم وإيذاء غيرهم دون أن يشعروا، والدين السلوكي وهو كالإنسان الذي يقوم بتوزيع الأكفان ويحكمون على الناس من خلال موافقتهم على الشراء أو عدمه أي من خلال سلوكياتهم، فدائما الذين يفصلون هذه السلوكيات عن بعضها يؤذون أنفسهم وغيرهم دون أن يشعروا لذلك يجب أن يكون تديننا معرفيا شعوريا سلوكيا حتى نستطيع أن نتعامل مع المجتمع».

وفي حين تحفظ مسؤول في وزارة الشئون الاسلامية في منطقة مكة عن التعليق، أكد مسؤول آخر في وزارة التربية والتعليم في جدة فضل عدم ذكر اسمه منع دخول أي مندوب او مندوبة الى مدارس البنين والبنات لأي غرض تسويقي، مشيرا الى ان اجراءات في حالة تأكد ذلك تتخذ ضد ادارة المدرسة لسماحها بذلك.