قويزة.. حزن الأهالي.. ورعب عابري طريق الحرمين

ذوو الضحايا يرفضون العودة ويقولون إنهم سيبيعون منازلهم ويغادرون الحي

ساحة منزل الفايدي التي تحطمت بعد فاجعة الأربعاء كما بدت أمس (تصوير: ثامر الفرج)
TT

عندما تمر بسيارتك على طريق الحرمين المتجه إلى مكة أو المدينة، وتحديدا أمام المنطقة المنكوبة التي تقع بين حي قويزة وجامعة الملك عبد العزيز، فلن يكون حالك أفضل من حال قائدي المركبات الذين يمرون بجوارك ويتملكهم الخوف من سيل ربما كان قادما في الطريق بغتة، والحزن على مئات الأرواح التي فارقت الدنيا في هذا المكان.

وهنا يعلق عبد الله الزهراني الذي يعمل ضابطا في أحد القطاعات العسكرية، بقوله: «عندما أمرّ في هذا المكان أتوتر وأعيش حالة من القلق، خصوصا عندما يزدحم بالسيارات، وأتذكر الكارثة عندما وقعت، وأتخيل السيل قادما». ويستطرد: «دائما أحاول أن أكون في الجهة اليمنى من الطريق لأتمكن من الهرب عند أي حالة خطر».

وفي قويزة الحي لم يتبقّ سوى الأطلال وبعض المحلات التي عادت من جديد للعمل، فالحي هجره سكانه، بل إن معظمهم يقسمون أنهم لن يعودوا إليه مهما كلف الأمر، وأنهم سيبيعون بيوتهم بأبخس الأثمان ويغادرونها غير آسفين عليها.

قصة كل فصولها وسطورها ألم وحزن من الصعب التعبير عنها أو اختزالها في كلمات، لكن دموع الطفل عبد المجيد الفايدي الذي فقد نحو 6 من ذويه على أطلال هذا الحي وأمام عينيه هي الأكثر تعبيرا وتصويرا للحال.

ويبدو أن ذلك الصباح الأسود سيظل حتى آخر العمر مخيما في ذكريات الكبار والصغار، في حين أن العشرات من سكان الحي يعودون إليه في الصباح إما بحثا عن جثث ذويهم، وإما للوقوف على أطلال أحبائهم الذين عثروا عليهم ودفنوهم أو الاطمئنان على ما تبقى من بيوتهم وذكرياتهم.

فها هو عبد المجيد الفايدي ذو الـ11 عاما من عمره يقف وسط باحة من ركام كانت في أحد الأيام ضمن منزلهم الواقع في شارع جاك، أقصى شرق جدة، يرثي أخواته الشهيدات اللاتي غرقن وقريباتهن داخل إحدى الغرف.

عبد المجيد الذي أخذ يبيع ما تبقى من الأرض التي كانت تحمل بيتهم، والتي تحولت إلى شبه وادٍ، مشى السيل داخلها واخترق الحائط، يبكي أهله وكل من شاهدت عيناه ممن جرفهم السيل أمامه إلى المجهول.

ويشير عبد المجيد لـ«الشرق الأوسط» إلى المنازل المحطمة الأخرى، ويشرح الكارثة، ويتحرك نحو بيوت جيرانه قائلا: «هذا بيت المطيري جارنا، وهذا بيت عمي، وهذا المجلس الذي تسلقته وقت جريان السيل، وهذه الشجرة التي تعلق فيها عبد العزيز، أخي، وهذا الجدار الذي استند عليه أبي».

ويقف في مكان آخر ليداعب طيور الحمام العائد إلى وسط الركام، وكأنه يقدم واجب العزاء للأسرة المكلومة، قبل أن تحتدم مشاعر عبد المجيد عندما نظر إلى ذلك الشاخص، وهو المنزل الذي غرقت فيه العائلة. قائلا لـ«الشرق الأوسط»: «وهناك الغرفة التي غرق فيها أهلي». بعدها لم يقوَ عبد المجيد على الإكمال، فاتجه باكيا للجلوس في سيارة والده.

عبد المجيد فرد من مجموعة من الأطفال والنساء والرجال والعجزة، كلهم محزونون في فقد ذويهم في كارثة الأربعاء الأسود، فهاهو محمد الفايدي والد 3 من ضحايا كارثة الأربعاء، يسرد القصة قائلا: «كانت أم وليد (وهي قريبتهم) تتردد علينا دائما، وفي ذلك اليوم استيقظتُ الساعة التاسعة والنصف صباحا، بعد أن أصرّ علي الأولاد بذلك، لأرى زخات المطر المتساقط، وكانت العائلة تتناول طعام الإفطار في إحدى غرف المنزل، وكنا سعداء جدا بتلك اللحظات الجميلة».

ويضيف: «دلفت إلى الخارج لأطلع على السيل الخفيف جدا حينها، لاحظت ارتفاع منسوب المياه قليلا، حتى وصل إلى منتصف ساقي بمسافة 25 سم، إذ كان عبد المجيد ابني يمازحني قائلا: (لو جئتك يا أبي سأغرق)، حيث إن المنسوب سيغطيه. وإلى تلك اللحظة لم أتوقع أن يشتد المنسوب، ففضّلت دخول المنزل وأغلقت الباب لنحتمي في الساحة».

وأكمل: «وفي لحظات كانت تفصلني عن الدخول وأبنائي، دوى انفجار كبير، أشبه ما يكون بطلقات الرصاص، سقط على إثره جدار منزلي، وداهمنا السيل».

وزاد الفايدي: «اندفع ابني عبد المجيد هاربا وخائفا، وكان عبد العزيز على بعد نحو 40 مترا من مكاني بالقرب من باب المنزل، إلا أن السيل العارم كان حائلا دون وصولنا إلى المنزل، فلم أعد أرى شيئا، إذ صعد منسوب المياه في دقائق معدودة إلى نحو متر ونصف».

وأردف: «في نفس الوقت الذي كنت أبحث عن ملاذ يحول بيني وبين السيل، كانت نظراتي تتجه إلى أبنائي، عبد العزيز وعبد المجيد، إذ احتمى عبد المجيد بالتسلق فوق مجلس خارجي مخصص للضيوف، وتسلق عبد العزيز شجرة قوية».

وأضاف: «كان ما يشغلني أن ننجو نحن في الخارج، بينما النساء كن في الداخل، ولم يخطر ببالي أن يصل منسوب المياه إلى أعلى المنزل أبدا».

«وفي لحظة تسمرت في مكاني حينها، عندما رأيت منسوب المياه يتصاعد تدريجيا نحو الشبابيك، خصوصا أن البيت دور واحد ولا يوجد دور ثان أو ثالث»، كما زاد الفايدي. وقال: «كنت كمن غرس القدر في رأسه مسمارا، تدقه أصوات النساء التي آلمتني، إذ لم أستطع إنقاذهن».

ووصف الفايدي حالة السيل العارم الذي كان يتجه نحوهم حاملا شاحنات ومعدات ثقيلة بـ«المشهد المرعب الذي لا يشاهد إلا في الأفلام السينمائية»، وأضاف: «لا أصدق ما حدث بالفعل، فهو مشهد مؤثر ومرعب أكثر من كونه مشهدا واقعيا عشته دقيقة بدقيقة».

ويكمل: «وعندما انخفض منسوب السيل المتدفق عقب ساعتين ونصف الساعة من الترقب، تسابقنا فور انخفاضه نحو المنزل لنطمئن على النساء في الداخل، فكانت الصدمة».

وزاد: «اتصلت فورا بقريبي، زوج الشهيدة أم وليد ووالد الطفلتين ريناد ورهف، وطلبنا منه المجيء ومحاولة جلب الدفاع المدني معه، أو الاتصال بهم إذ لم تفلح اتصالاتنا نحن هنا أيضا».

ويلتقط أطراف الحديث منور الجهني لـ«الشرق الأوسط»، وهو والد وزوج 3 من ضحايا الكارثة، ليروي قصته قائلا: «في البداية أحمد الله على شهادة ثلاثة من أفراد أسرتي، إذ كانت الفاجعة أخف وقعا علي مما رأيته من أناس ما زالوا يبحثون عن ذويهم بين الجثث التي يعثر عليها الدفاع المدني يوميا، ولله ما أعطى ولله ما أخذ».

وعاد الجهني إلى بداية اليوم، تحديدا الساعة السادسة صباحا، وقال: «طلبت مني زوجتي والفتيات الذهاب إلى منزل ابن خالتي، وكانت الأجواء مشمسة في صباح يوم الفاجعة ذاته، فأوصلتهم إلى منزل قريبي وذهبت إلى حلالي، إذ إن لي غنما وحلالا في أحد الأحواش بمنطقة الحرازات شرق جدة، أتردد عليها بين فينة وأخرى».

وأضاف الجهني: «لم أستغرب تأخرهم، فهم يألفون عائلة ابن خالتي، وتوقعت أنهم مستمتعون بالأمطار والأجواء التي بدت جميلة حينها». مكملا: «بدأ إيقاع الخوف يتصاعد عندما طلب أقاربي مني، وأنا قادم نحوهم من حي المتنزهات الذي يبعد عن قويزة نحو 4 كيلومترات تقريبا، الاتصال واستدعاء الدفاع المدني، حيث لم يتبادر إلى ذهني موت أحد بتاتا. لقد فجعت لكن ليس من الموت، توقعت حادثا عرضيا أو ـ لا سمح الله ـ حريقا أو ماسا كهربائيا في أسوأ الأحوال».

واستطرد: «خرجت من المنزل متجها إليهم، وزاد خوفي عندما رأيت منظر السيول والسيارات الملقاة على جانبي الطريق السريع (طريق الحرمين)، واستمرت رحلتي البسيطة التي لا تستغرق عادة 20 دقيقة نحو ثلاث ساعات، إذ امتزجت الأمطار والسيول والفاجعة والازدحام معا في وقت واحد، فاضطررت إلى أن أسلك طرقا مختصرة، مرورا بالأزقة والشوارع الضيقة وانتهاء بازدحام السيارات، حتى وصلت إلى الموقع، وكان الدمار هائلا، ولم أتخيل الفاجعة بتاتا».

وسقطت دموع الجهني عندما بدأ يحكي تلقيه نبأ وفاة زوجته وابنتيه، إذ لاحظ وجود شابين يهدئان من روع ابن خالته. وقال: «أخبروني أن زوجتي ماتت هي واثنتان من البنات، رهف وريناد».

إلى ذلك، أصر محمد الفايدي على التقاط صورة مع ابنيه ليعبر عن طريقها عن فخره واعتزازه بخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي بعث إليه خطاب تعزية شخصيا، «أثلج صدري، ورفع كل ما أصابني وأبنائي، وأحمد ربي أن أنجى لي بنتا وزوجة وابنين، وسخر لي ثلاثة أوسمة شهيدة».

بينما أصر أيضا على التقاط صورة لسيارة ابنه عبد العزيز التي جرفتها السيول وأصبحت منغرزة داخل الأرض، وقال الفايدي: «السيارة تحطمت وتهشمت ما عدا صورة الملك عبد الله بن عبد العزيز، الناجية الوحيدة منها التي لم يطلها الضرر».

وتغرب الشمس، قبل مساء يوم حزين آخر، تنفض فيه قويزة غبار حزنها، وتستمر في إظهار من في باطنها، عقب إيقاع صاخب كان يملأ أرجاءها، وحركة دائبة على مدار الساعة، باتت اليوم لحنا حزينا، تتراقص على أنغامه الصامتة بحيرة تنتشل من داخلها آليات الدفاع المدني ورجاله ضحايا الكارثة، الذين ما زال ذووهم يبحثون عنهم، في ساعة متأخرة من البكاء والحنين، في ظلام قويزة الحزين، يؤلبون المواجع، مواربين الألم.