سيارة الأجرة في جازان.. محطة إخبارية متنقلة

أخبار بالجملة.. وتفاصيل مصدرها «يقولون»

عائلة تستقل سيارة في رحلة النزوح (تصوير: خالد الخميس)
TT

إذا كنت تستقل سيارة أجرة في جازان، فإن السؤال الأنسب لجذب مرافقك إلى منطقة اهتمام مشتركة ليس بالاستفسار عن حالة الطقس اليوم وإنما بالسؤال عن حالة الحرب.

ففي جازان تتحول سيارات الأجرة التي تنقل المسافرين بين محافظات المنطقة إلى محطات إخبارية متنقلة يتبادل ركابها، الذين تجمعهم أخبار الحرب حول دائرة اهتمام واحدة، أخبار المواجهات على الشريط الحدودي وأنباء النازحين وسؤال العودة المعلق منذ ثمانين يوما هي عمر رحلة النزوح التي اضطر إليها سكان محافظة الحرث. وبعيدا عن التكتم الإعلامي وقلة المصادر التي تزود بأنباء المواجهات، فداخل مقصورة سيارة الأجرة، ومع وجوه تجمعك بها مسافة الطريق ومشاركة الفضول، تستطيع أن تحصل على وصف تفصيلي لما يجري من عمليات عسكرية، بدءا من القرارات العليا التي تحدد سير المعركة وليس انتهاء بكيفية إطلاق الرصاص على العدو، وكأن الأمر يتعلق بمجريات مباراة كرة قدم وليس أحداث معركة. وقبل أن تركن لهذه الأنباء الدقيقة التي يوردها مرافقوك للخروج بقصة صحافية عن الحرب تكتشف أن مصادر هذه الأخبار لا تتعدى عبارة «يقولون» أو شهادات الجنود المشاركين في المواجهات أو ما يكتب في منتديات إلكترونية مغمورة.

وعلى الرغم من أن ثمانين يوما هي عمر المواجهات التي اعتاد الجازانيون المجاورون لمحافظة الحرث على سماع دوي مدافعها وأزيز طائراتها وتحركات القوافل المحملة بالجنود والعتاد، فشهية البحث عن خبر تبدو كحالها مع أول شرارة لاندلاع المعركة. وهنا يكون مشهد سيارة الأجرة وركابها الذين يتحولون إلى مراسلين عسكريين ومحللين سياسيين ليس سوى صورة من مشهد متكامل لأحاديث الجازانيين في السوق والمجلس والعمل. أحاديث مفرداتها قصف ونزوح وقتل وتحليق حربي، قد تصرف اهتمامها فجأة عن الحرب للالتفات إلى خبر تنموي، مثل حسم مناقصة مصفاة جازان وتكليف أرامكو بتنفيذها، غير أنها تعود لشأن الحرب مع أول صدى لدوي قذيفة جديدة.

وفي كل مكان هناك أفواه محملة بثلاثة أسئلة على الدوام هي «ما أخبار المواجهات على الشريط الحدودي؟» و«متى ستكون عودة النازحين؟» و«ماذا عن التعويضات المادية للنازحين والوحدات السكنية التي أمر بها خادم الحرمين؟». أسئلة تبدو من كثرة تكرارها اليومي وكأنها مجادلات بيزنطية يستحيل أن تنتهي إلى جواب غير أنها تظل مؤشرات قلق تحملها وجوه القرويين، تسكنها تطمينات المسؤولين الرسميين الصادرة بين فترة وأخرى، ويظل حاضرا كلما تجدد صوت المدافع وأزيز الطائرات الحربية معلنا أنه ما زال للمعركة فصل آخر.

محمد مساوي، سائق أجرة يعمل بين المسارحة ومطار الملك عبد الله في جازان، يذكر أنه في اليوم الواحد وخلال عمله في هذه المهنة يستمع إلى عشرات الروايات عن المواجهات مع المتسللين ومثلها من التحليلات السياسية التي بات المواطن العادي يمارسها أكثر من محللي القنوات الإخبارية على حد قوله. وعلى طول الطريق الذي يمتد لمسافة خمسين كيلومترا يذكر مساوي أنه يقضي رحلة الذهاب من المسارحة إلى جازان في الاستماع إلى شهادات الركاب، وفي طريق العودة حيث ينقل المسافرين القادمين إلى المنطقة يفرغ هذه الشهادات على مسامع الأفواه المتعطشة إلى جواب. ويضيف مساوي ضاحكا: «الكل هنا يمثل صحيفة أخبار تمشي على الأرض، فلا حاجة لتشغيل مذياع السيارة، غير أني لا أثق إلا في شهادات الجنود العائدين من أرض المعركة وهم نادرا ما يتحدثون» معللا الأمر بأنه نتيجة لانعدام التغطيات الإعلامية لمجريات المعارك بعد أن سحبت كثير من القنوات الإخبارية والصحف مراسليها من أرض المعركة.

وفي ظل غريزة البحث عن معلومة تجد الإشاعات بيئة خصبة لتنتقل على أفواه الناس. فالخبر لم تعد تصنعه المعاينة والمشاهدة، بل صوت المدافع والطائرات الحربية هو ما يحدد أنباء التحركات العسكرية وطبيعة المعارك وحالة الحرب بين هدوء أو احتدام. فهذه شائعة عن سقوط طائرة أباتشي أصبحت حديث الناس ومحور تحليلاتهم قبل أن تتحدث السلطات العسكرية على لسان مساعد وزير الدفاع بأن الأمر لا أساس له من الصحة. وهي ليست الإشاعة الوحيدة، ولكن قلة منها تجابه بالنفي والأغلب تأتي وتذهب لتحل مكانها إشاعة أخرى.

هنا تترجل عن سيارة الأجرة وأنت تحمل إجابات أكثر من اللازم لأسئلة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة تجود بها أفواه تبدأ حديثها بكلمة «يقولون» ولا تنتهي عند توصيف أدق تفاصيل مجريات المعركة.