رحالة إيطالي في السعودية قبل 70 عاما: إنها دولة شرقية تُحترم فيها الحياة والممتلكات

وصف الملك عبد العزيز بالشخصية الأسطورية بعد أن قرب إلى العالم مسرح أعماله البطولية * الرياض.. أرخبيل من الجزر الخضراء في بحر من الصخور * تساءل الرحالة عن سر قيادة ومراقبة المدينة لمليوني كيلومتر مربع من قصور طينية في صحراء قاسية

صراف نقود يعرض ما لديه في سوق الرياض
TT

تظل رحلة الإيطالي مارشيللو موكي إلى السعودية قبل 70 عاما واحدة من الرحلات المهمة خصوصا أنها حملت معلومات وانطباعات مهمة في فترة ذات شأن من تاريخ المنطقة والعالم حيث سنوات الحرب العالمية الثانية، وتوتر العلاقة بين إيطاليا والسعودية بسبب حادثة وقعت بالخطأ عندما قصفت إحدى القاذفات الإيطالية أنبوبا نفطيا في الظهران اعتقادا من فريق قيادة القاذفة أن اللهب الناجم عن الغاز المحترق في الظهران هو مصفاة البحرين التي كانت هدفا لأربع قاذفات قنابل إيطالية من نوع «صافيا مارشيتي إس - 82» حيث كانت البحرين في وقتها محمية بريطانية وهدفا شرعيا لعمليات الجيش الإيطالي، كما شهدت هذه الفترة إغلاق البعثة الإيطالية بجدة بسبب هذه الحادثة وكان موكي وقتها يقول برحلته هذه إلى عاصمة البلاد حيث حل ضيفا شخصيا على الملك عبد العزيز ومن رحلته استطاع الإيطالي أن يجمع معلومات ويسجل انطباعاته عن هذه الرحلة التاريخية التي استخدم فيها السيارة وضمنها في كتاب ترجم إلى الإنجليزية ثم إلى العربية.

ووفقا لمترجمَي الكتاب من الإيطالية إلى الإنجليزية أنجيليو بيشيه، وبيير جيوفاني دونيني فإن مارشيللو قام برحلته إلى السعودية عام 1361هـ (1942م) ونفذ المهمة قبلها بسنة وهو موضوع الدراسة. ومن المحتمل أن الرحالة في أثناء إقامته في السعودية أو لدى انتهاء عمله فيها قام شخصيا بتسليم تقرير مفصل عن رحلته هذه إلى السفير جيوفان باتيستا جار نشيلي، المُهدَى إليه هذا التقرير، لافتين إلى أن بحثهما الدقيق أثبت أن أرشيف وزارة الخارجية الإيطالية لا يحتوي أي سجل لهذا التقرير، ومن حسن الحظ أن صورة كربونية كاملة منه مع صورة فوتوغرافية ملصقه فيه سلمت إلى المترجمين من قِبل المؤلف نفسه، أو من قبل جار نشيلي إلى المعهد الإيطالي للشرق في روما، وقد حالت عدة ظروف دون تحقيق مشروع الكتاب الذي تأخر بعض الوقت حتى أصبح على يقين أن التقرير الأصلي الوحيد الباقي في الوجود. باستثناء صورة التقرير، قد اختفى من أرشيف المعهد الإيطالي للشرق، وبالتأكيد أن الشخص الذي أخذه يعلم قيمته، وفي ضوء المخاطرة بفقدان هذا التقرير إلى الأبد من ناحية ولكونه جوهريا من ناحية أخرى، عرضه المترجمان على مؤسسة التراث لنشره باللغتين العربية والإنجليزية بصفة مبدئية ووافق رئيس مجلس إدارتها ومديرها العام على نشره، وتمت ترجمته إلى العربية من قبل الدكتور أحمد عبد الرحمن وراجعه الدكتور عوض البادي والدكتور عبد الله المنيف.

ولطول الكتاب فقد اكتفت «الشرق الأوسط» باستقطاع أجزاء منه لعل أهمها بعض المعلومات الهامة عن السعودية وقت رحلة المؤلف قبل 7 عقود، كما أن هناك معلومات مهمة عن عاصمة البلاد الرياض آثرنا تسجيلها كما وردت في تقرير المؤلف مع الإشارة إلى أن هناك أخطاء تم تصحيحها في هوامش الكتاب لكنها أخطاء قليلة لا تؤثر على بنية الكتاب ولا قيمته التاريخية.

وبخصوص بعض المعلومات العلمية والعامة عن السعودية يشير مؤلف «رحلة عبر المملكة العربية السعودية» مارشيللو موكي الذي وصل في مشوار حياته الوظيفية مندوبا فوق العادة ووزيرا سياسيا مطلق الصلاحية وتوُفي يوليو تموز عام 1970 إلى أن المملكة العربية السعودية مغلقة أمام الأوروبيين وغير المسلمين، ويحتاجون إلى إذن من الحكومة - في الواقع من الملك - للسفر إلى المملكة أو الإقامة فيها، ويسمح للأجانب بالنزول إلى جدة عندما ترسو سفنهم في مينائها، ولكن لا يسمح لهم بالحركة خلف حدودها، وتقوم المفوضيات السعودية في القاهرة أو بغداد والقنصلية العام في القدس بإرسال طلبات الأجانب لزيارة المملكة وإصدار التأشيرات اللازمة عند تعميدها بذلك من الرياض.

وهناك أسباب عملية، تجعل من الصعب التنقل في المملكة العربية السعودية دون مساعدة السلطات الحكومية، ولا يستطيع أي شخص التجوال في المملكة دون دليل أو دون أن يحمل معه الوقود اللازم لتغطية المسافات الطويلة، وتمتلك الحكومة إمدادات الوقود والزيت على طول الطريق، وقد قامت في السنوات الأخيرة بإنشاء محطات وقود مجهزة بشكل جيد في المدن الرئيسة أو في نقاط الانطلاق.

وينصح بالقيام بالرحلات الطويلة بعربتين على الأقل مزودتين بإطارات صحراوية وإمدادات معقولة من قطع الغيار بسبب الأعطال التي قد تتعرض لها السيارات، وقد أثبتت سيارات فورد «في 8» من النوع الصندوقي أو سيارات النقل الصغيرة «بيك آب» مقدرة كبيرة في كل أنواع التضاريس، ويجب أن لا تتجاوز الحمولة الإجمالية للسيارة الكلية خمسين في المائة من الطاقة العادية لتجنب الإجهاد الشديد، وهو أمر لا يقلق السائقين المحليين كثيرا، ومن الضروري وجود إمدادات كافية من المياه في جهاز تبريد السيارة (الرادياتور)، ويسافر السائقون المحليون دائما ومعهم ما لا يقل عن قربتَي مياه مثبتتين عند أعلى العجلات أو متدليتين من مقدمة السيارة.

ويحتاج المسافر - إضافة إلى الدليل - إلى سائق اعتاد القيادة في الصحراء، وميكانيكي ماهر عند استخدام سيارة خفيفة، أما عند استخدام السيارات الثقيلة فيجب اصطحاب طاقم أكبر من أجل التغلب على العوائق الطبيعية والأعطال الميكانيكية، ويتولى العاملون المحليون تحضير طعامهم والوفاء بمتطلباتهم الخاصة، وهم متأقلمون مع بيئتهم، ولا يحتاجون إلى الكثير من الطلبات كغيرهم.

وكما هو الحال في أي رحلة صحراوية طويلة، يجب على المسافرين الأوروبيين أن يجلبوا معهم كل ما يحتاجون إليه من الطعام ومياه الشرب، وخيمة رحلات وكل أسباب الراحة المطلوبة للاعتماد المستمر على الذات، وعندما يكون المسافر بعيدا عن مدينتَي الرياض وجدة، لن يجد ما يتزود به إلا بعض الخراف التي يمكن شراؤها من الرعاة على الطريق وهي بكميات محدودة أيضا.

الطقس جاف وصحي جدا في منطقة نجد، ويمكن أن يكون الطقس في الليل باردا جدا، وينزل إلى درجتين تحت الصفر على الأقل في الشتاء، لذلك يحتاج المرء إلى بطانيتين على الأقل، وتكون درجة الحرارة خلال النهار عالية في الصيف، ولكنها لا تصل إلى مستويات مرتفعة بفضل الرياح التي نادرا ما تغيب عن السهل والنسيم الذي تتولد من حركة العربة.

أما الطقس في الحجاز فمختلف تماما، فهو حار ورطب طول السنة تقريبا، مع ليالٍ حارة وموهنة معظم الوقت، وترتفع درجة الحرارة إلى مستويات عالية (45 درجة في الظل) في الصيف ويصبح الأمر غير محتمل مع درجة الرطوبة العالية (تصل إلى 80 - 90%) وبحجزها الرياح الممطرة من البحر، تحول السلاسل الساحلية سهل تهامة الساحلي إلى مرجل خانق، والسكان المحليون أنفسهم يجدون نجد حارة على نحو شديد، ولا يستطيعون البقاء هناك طويلا دون تغيير الهواء. إن التكيف مع الطقس مهمة طويلة ومؤلمة بالنسبة إلى الأوروبيين تصحبها كل مخاطر الطقس المداري كفقر الدم ومتاعب الكبد وغيرها.

ولا توجد حيوانات متوحشة خطيرة في نجد ولا في الحجاز، لذلك ليس هناك حاجة إلى احترازات خاصة في هذا الجانب، إلا أنه يوجد الكثير من العقارب والعناكب السامة، وفي بعض المناطق توجد الثعابين، لذلك يجب على المرء أن ينام دائما على سرير مرتفع عن سطح الأرض، بعيدا عن أكوام الحجارة أو الأعشاب الكثيفة، وأن لا يترك أبدا الملابس والأحذية قريبة من الأرض.

بلد تحترم فيه الحياة

* يمكن للمسافرين أن يعتمدوا على الأمانة المطلقة للسكان، حتى عندما يكونون بعيدين عن المناطق المأهولة، إن الجزيرة العربية، التي كانت تعج بالسرقات، تحولت بإرادة الملك عبد العزيز المرنة وبحكم القانون الصارم إلى بلد شرقي تحترم فيه الحياة والممتلكات بشكل كبير، وتنفذ العقوبات التي حددتها الشريعة (بتر يد السارق وقطع رأس القاتل) بحيث أصبحت الجريمة الخطيرة نادرة، ويستطيع الأجانب أن يتمتعوا بالحماية الملكية السفر بأمان تامّ ودون سلاح، ويعيّن الملك مرافقين مسلحين لأصحاب المقام الرفيع أو المجموعات الأجنبية من المسافرين في حالات استثنائية، وحينئذ يكون الأمر طريقة لإظهار الاحترام أكثر منه لأسباب أمنية، والسعوديون الذين يعملون في الجيش النظامي (الدائم) ذوو مظهر حسن ومنضبطون ومزودون بالمعدات.

وفي ما يتعلق بالقواعد الخاصة والبروتوكول والأخلاق الحسنة، فإن المسافرين الذين يقومون برحلة إلى بلد مسلم يفترض أن يكونوا على دراية به، ويجب على المرء أن يضع في ذهنه أن العقلية العربية ونظرة المسلمين إلى العالم لم تتغير بالاحتكاك المتواصل بالمجتمع الغربي، ولكنها تكرست بدلا من ذلك بالاعتزاز بالاستقلال السياسي التام وبرعاية الأماكن المقدسة في مكة والمدينة، ولا تفوت السعوديين أي فرصة لترك انطباع لدى الأجانب بهذا التقدير للذات القائم على هذه القاعدة ذات الأساس المزدوج، ولا يصل هذا التوجه إلى مستويات غير سارة، إلا أنه على المرء أن يظهر احتراما لمشاعر المواطنين، ومن أجل التحرك والمراقبة بحرية ينصح المرء بأن يبدو عاديا - خصوصا في نجد، حيث الكبرياء مشوبة في الغالب بالحياء - وذلك بارتداء بعض عناصر الزي المحلي، وبصرف النظر عن الوفاء بهذه المتطلبات، فإن ارتداء الغترة، غطاء الرأس البدوي التقليدي، خلال الرحلة طريقة سهلة لتغطية الرأس من الشمس والرمال دون فقدان التهوية اللطيفة.

إن ما يتلقاه المسافرون الأجانب مهما كانت أهميتهم من سلوك مهذب من كبار القوم المحليين، قد يسبب لهم الضيق إذا فُهم على أنه لا يتناسب مع المفاهيم الغربية عن الصحة، فالرفض ليس من الأدب، والطريقة الوحيدة لتجنب الالتزامات الاجتماعية هي تناول الوجبات والتوقف لنيل قسط من الراحة بعيدا عن أي مدينة، إلا أن السائقين المحليين والموظفين الآخرين لن ينظروا في الغالب إلى هذه الميول الغربية بكثير من الاستلطاف، والحقيقة أن الطريقة المحلية في تخزين الطعام وطهوه وتقديمه تتمثل في وجبات جماعية ويأكل الشخص بيديه العاريتين، غالبا ما يدفع المضيف قطعا مختارة من اللحم إلى ضيفه بعد أن تغوص يده من أجلها في الطبق المشترك، وهي أكثر نظافة بكثير مما هو الأمر في بلدان أخرى في الشرق. إن الطقس الجاف والصحي والمظهر الفخور لعرب نجد والطبيعة الصحية للطعام الذي يتألف - غالبا - من الأرز المسلوق مع لحم الحملان (ويمكن القول إنه الطعام المحلي لنجد) تساعد المسافرين الأوروبيين على التعود بسرعة على العادات المحلية في جو المملكة الودي المضياف.

يجب التذكر عند وضع جدول للمواعيد، أن السائقين وغيرهم من العاملين يحتاجون إلى ساعتين على الأقل، في الصحراء لجمع الحطب وإشعال النار والطبخ وتناول الطعام ما عدا الوقت المطلوب للصلاة، ولا يتم السفر عادة بعد مغيب الشمس إلا في القليل النادر.

وهكذا يختصر وقت السفر الفعلي إلى عشر ساعات في اليوم كأقصى حد.

وسوف يلاحظ المسافرون في الحال الفرق في الميول والسلوك بين عرب نجد وعرب الشرق الأدنى، حيث أدى النفوذ الغربي إلى تشويه الفضائل القديمة للعرب وإفسادها، فالنجديون لا يدخنون أبدا علنا، ويطبق حظر الكحول بدقة.

وبالنسبة إلى العملة المتداولة فإن القطع المعدنية الوحيدة في المملكة العربية السعودية هي الجنيه الذهبي والطالر أو الدولار الفضي (مقسم إلى قطع معدنية فضية ونيكل)، وهو نسخة مطابقة للروبية الهندية ومسكوك في لندن، على الرغم من أن حروفها العربية تفيد بأن مصدرها مكة المكرمة، ولا توجد أي أوراق نقدية من أي بلد، معترف بها ومقبولة، إلا لدى تجار تبديل العملة الذين يوجدون في أكثر المستوطنات أهمية، والبنوك غير معروفة، والدولار السعودي مقسم إلى نصف ريال فضي وربع، والقرش الفضي ونصف القرش هي القطع المعدنية الأخرى الوحيدة المتداولة، وبينما يوجد سعر صرف ثابت هو 1.22 بين الريال والقرش، فإن الريال والجنيه الذهبي يتذبذبان وتبعا للأسعار العالمية لمعدنيهما.

وهكذا يختلف سعر الريال إلى الجنيه يوميا دون أي قيود رسمية، وغالبا ما يبديان فرقا كبيرا من أسبوع إلى آخر، وحتى في المناطق الداخلية البعيدة، يتكيف تجار تبديل العملات مع التذبذبات في سوق العملات الدولي بسرعة ودقة مذهلة، على سبيل المثال فإن الفروق في أسعار العملات بين جدة والرياض نادرا ما تتجاوز نصف ريال في اليوم نفسه.

ويبخس تجار تبديل العملات المحليون الأموال الورقية بشكل كبير، لذلك ينصح - إن أمكن - بتغييرها إلى جنيهات ذهبية قبل مغادرة المرء بلده.

وفي حين كانت الحكومة السعودية حتى سنة 1361هـ (1942م) تقبل رسميا القطع المعدنية بوصفها عملة مبرئة للذمة (وبذلك تقبل مخاطر تذبذب سعر العملات، والتي سوف تستخدم جيدا على أي حال مضاربة في سوق العملات)، فإن الريال السعودي هو العملة الوحيدة المعترف بها الآن بصفته عملة المملكة الرسمية، ويرجع ذلك إلى انخفاض واردات الذهب بسبب انخفاض عدد الحجاج منذ بداية الحرب وإلى تناقص قيمة الفضة السريع مقارنة مع الذهب في السوق العالمي، مما دفع بالقطع الذهبية إلى خارج التداول وإلى الادخار الشخصي.

من الواضح أن الذهب في أي شكل وبأي قطع معدنية مقبول في المملكة، ولكن تناقص قيمة القطع المعدنية الأخرى بالنسبة إلى الجنيه، بغض النظر عن أنه القطعة المعدنية الوحيدة المعروفة للجميع، فينظر إليه على أنه المقياس الوحيد في الوزن والمحتوى المعدني، يجعل مثل ذلك الخروج على العادات التقليدية غير مربح.

يوضح ملخص كل مرحلة الوقت المطلوب لتسهيل مهمة إعداد جدول زمني، ويجب النظر لمثل تلك البيانات دائما على أنها تقدير تقريبي، وتبنى كل الحسابات على أساس الرحلة العادية في شاحنة ذات حجم متوسط، ويمكن أن تصل سرعتها القصوى 60 - 70 كيلومترا في الساعة، ولكنها من ناحية أخرى، تتمتع بثبات ملحوظ في السفر، ويمكن خفض الوقت المطلوب للسيارات الخفيفة بالثلث، ولكن يجب توقع معدل عالٍ من الأعطال الميكانيكية.

ويمكن الحصول على أفضل النتائج باستخدام سيارات «الركاب الطويلة» أو «الشحن الصغيرة» التي تجمع - كما ذكرنا - بين متانة الشاحنة وقوة العربة وسرعتها، وقد تم قطع المسافة بين مكة والرياض (أكثر من 900 كيلومتر) على مثل تلك السيارة بما لا يزيد على 19 ساعة متصلة في إحدى الحالات.

وتتضمن المواقيت الموضحة لبعض الطرق الصعبة أيضا التجربة الحتمية للغوص في الرمال، وعموما للصعوبات التي يجب فيها توقع تأخر «رحلة عادية» هناك طرق أخرى، يكون فيها المسار أفضل من المتوسط، وتوضح السرعة القصوى الآمنة التي يمكن تحقيقها، وقد ذكرنا سلفا تأثير مختلف الفصول على ظروف الطريق، ففي حالة الأمطار من الصعب الالتزام بتقديرات المواقيت، وربما من الأفضل التوقف في إحدى المحطات انتظارا لتحسن الطقس.

ولا يمكن الاعتماد على تقديرات استهلاك الوقود، حيث تختلف المعدلات وتبعا للسيارة المستخدمة، وحالتها العامة وطريقة القيادة.

والبترول المتوافر في المملكة العربية السعودية أميركي المنشأ، فالمملكة تنتج الزيت الخام الذي يكرره الأميركان جزئيا في البحرين المجاورة، وخزانات وقود الحكومة السعودية ممتازة، وهي مصنوعة من الإسمنت وتقع تحت الأرض، ويعبأ الوقود بمضخة يدوية، لذلك من غير المطلوب وجود صفايات وخلافه، أما الزيت فيقدم في أوعيته المعدنية الأصلية.

الرياض مدينة غامضة

* تحدث موكي عن الرياض لافتا إلى أكثر من سبب يجعل الرياض مدينة غامضة الوصول إليها أمر في غاية الصعوبة، وينطبق هذا أيضا على باقي وسط الجزيرة العربية المعزول بفعل صحرائه التي لم يكن من الممكن اختراقها حتى سنوات قليلة.

لكن الشخصية الأسطورية للملك عبد العزيز القائد الكبير الذي نجح من خلال جهده الشخصي في أن يصنع في أقل من ثلاثين سنة مفاجأة جديدة، انطلقت من أرض الجزيرة نفسها وهزت العالم عندما أوصل الجزيرة العربية إلى الأضواء، وقرب إلى العالم الرياض موطن أسلافه ومسرح أعماله البطولية، هذه المدينة هي منذ سنة 1351هـ (1932م) عاصمة مملكة موحدة يسود فيها النظام وتغطي نحو ثلاثة أرباع شبه الجزيرة العربية.

وحتى سنوات قليلة ماضية لم يتمكن إلا عدد قليل من الأوروبيين الوصول إلى الرياض والإقامة فيها عدة أيام، وكان معظمهم من المستكشفين البريطانيين، وكما هو متوقع فإن بريطانيا التي تسيطر على بحرين يحدان شبه الجزيرة من الشرق والغرب - سوف تبدي أكثر من أي دولة أخرى اهتماما خاصا بمتابعة التطورات السياسية المحلية، وندين لفيلبي - الذي خلف الكابتن شكسبير الذي قتل في إحدى المناوشات بين الملك عبد العزيز وبين أعدائه المتحالفين مع الأتراك، بوصفه مستشارا لسلطان نجد آنذاك - بأول وصف كامل للرياض، والذي يعود إلى أخصب فترات نشاطه العلمي والاستكشافي، أي نهاية الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918م).

تقدمت الرياض كثيرا في وقت قصير من معقل لسلالة ملكية فخورة بنفسها تبسط سيطرتها على المرتفعات الوسطى لنجد فقط، إلى عاصمة لمملكة مستقلة تغطي تقريبا كل الجزيرة العربية، لتكون على مستوى الدور الجديد، وهذا ما يمثله مجمَّع المباني الملكية الجديدة رمز ازدهارها.

في وقت قريب خصوصا بعد سنوات (1928 - 1930م) عند إدخال السيارات إلى البلاد، وحتى بداية ظهور النقل الجوي، ظل الغربيون يزورون الرياض دائما: دبلوماسيون وصناعيون، وخصوصا الأميركيين، وبعض الشخصيات السياسية، وعلى الرغم من ذلك فإن أكثر وصف تفصيلي هو ما كتبه فيلبي، بينما ظلت المادة التوثيقية المصورة نادرة نسبة إلى الصعوبات التي واجهها أولئك الذين حاولوا التقاط الصور، وحسب معرفة كاتب هذه السطور، لم تنشر مثل هذه المادة في سياق علمي وتوثيقي.

تقع مدينة الرياض في منخفض طويل يمتد من الشمال إلى الجنوب، تشكل فيه المياه الجارية من جبال الجبيل مجرى الشمسية، وجنوب المدينة مباشرة يرتبط مجرى الشمسية بوادي حنيفة الذي يستقبل معظم المياه من جبل طويق، وهو جبل ذو سطح مستوٍ عريض، وتشكل منحدراته الجانب الأيمن من منخفض الرياض، ويحتوي هذا الحوض الطويل على واحة شمالية قامت عليها مدينة الرياض وواحة ثانية ضخمة هي منفوحة، وهي غنية ببساتين النخيل وحدائق ومساحات صغيرة تزرع فيها الحبوب والخضراوات والفواكه (اسم الرياض يعني «الحدائق»)، وغرب هاتين الواحتين، وبمحاذاة أحد الأودية الذي يمتلئ موسميا بمياه الأمطار (الباطن)، توجد عدة واحات صغيرة، وتضم واحدة من هذه الواحات التي تقع على بعد ستة كيلومترات من الرياض، القصر الملكي الصيفي المعروف باسم «البديعة».

كل تجويف وكل متر مربع يمكن أن يوجد فيه الماء من الآبار أصبح مغطى بزراعة كثيفة دائمة، إذ إن كل المنطقة - بما في ذلك القطاع الشمالي من وادي حنيفة بقراه وأراضيه الصغيرة - مملوءة بالمساحات الخضراء مفصولة بعضها عن بعض بالصخور الجرداء لجبل طويق، وتشكل أرخبيلا من الجزر الخضراء في بحر من الصخور الصحراوية بنية اللون.

تقوم واحة الرياض على مساحة بعرض كيلومترين وطول 4.5 كم، وقد بُنيت المدينة في الجزء الشمالي (من الوادي)، والمباني الأنيقة مفصولة بعضها عن بعض بحدائق خاصة معتنى بها جيدا حتى الحدود مع الصحراء في الجانب الشمالي، وخارج الواحة في الصحراء نفسها، يرتفع مجمع المباني المهيب الذي يشكل مع القصر الملكي الجديد «المربع» وهذه هي العلامة الأولى للحياة التي يقابلها المرء عند دخول الرياض من الخليج وأيضا من مكة.

بنى الملك عبد العزيز قصور المربع في العصر الذهبي لحكمه بعد فترة قصيرة من ضم الحجاز سنة 1342 - 1344هـ (1924 - 1925م). إن السلام والاستقرار اللذين وفرهما الملك عبد العزيز لوسط الجزيرة العربية والحجاز بعد قرون من الصراع الدامي وغياب القانون أحدثا صعودا سريعا وغير متوقع في عدد الحجاج القادمين إلى مكة والمدينة، حيث كان الحجاج في ذلك الوقت مصدر البلاد الرئيس من الإيرادات، وفي ما بين سنتي 1346 و1351 (1927 و1932م) قام آلاف من العمال والحرفيين ببناء القصور والمنازل الجديدة، وعن طريق الشاحنات التي كانت جديدة عندئذ في الصحاري العربية، وصلت إلى الرياض مواد مثل الخشب والمنسوجات والسجاد والأثاث من كل الأصناف من أنحاء المملكة ومن بلدان ما وراء البحار، وقد اعتمد الملك عبد العزيز - المتمسك بأصالته - على العمال المحليين، ورفض محاكاة النظم المعمارية الأجنبية، ولذلك فقد احتفظت الرياض بشخصيتها العربية الأصيلة في أقرب مبانيها عهدا وأكثرها حداثة.

كانت مواد البناء هي المواد المستخدمة في أي مكان آخر في نجد وكذلك الأسلوب، جدران سميكة من الطين المخلوط بقش مهروس تقوم على قاعدة من الحجر ربعت ودفنت على عمق عدة أمتار داخل الأرض أساسا قويا، وتوجد عوارض خشبية تقوي الجزء الداخلي من هذه الجدران أفقيا كل 60 أو 70 سنتيمترا، والعناصر الإنشائية أيضا من الخشب وكذلك سقوف الحجرات وأرضياتها مصنوعة من ألواح الخشب المرن مرصوصة بعضها بجانب بعض ومغطاة بفرش من القش، وتأخذ الزخارف شكل تصميمات هندسية بسيطة محفورة على الجدران المبيضة التي تظهر بخلفية صفراء، وقد تصل هذه الإنشاءات البسيطة إلى ثلاثة طوابق ونادرا ما تكون أربعة ويتفاوت مظهرها بين القوة والفخامة والرقة والأناقة.

والزخارف الخارجية المستخدمة غالبا هي القنوات على شكل أنابيب خشبية طويلة لتصريف مياه الأمطار بعيدا عن المبنى، والأمطار التي تحتاج إليها تلك المنطقة الصحراوية تشكل أيضا خطرا حقيقيا على المباني التي تميل إلى الذوبان تحت الانهمار الشديد للأمطار شبه الاستوائية، والتي هي لحسن الحظ غير مألوفة في نجد، ومن المثير جدا مشاهدة وصول فرق العمال بعد انتهاء هطول الأمطار وهم يقومون بفحص الجدران والمصاطب وإصلاح التآكل والأضرار التي سببتها مياه الأمطار بطين جديد.

يوجد جدار متصل مهيب بسماكة عدة أمتار وبمتوسط ارتفاع عشرة أمتار على الأقل، يحيط بمنطقة مستطيلة بطولة 1200 متر وعرض 400 متر، وداخل هذه المنطقة توجد قصور الملك وقصور عائلته وأجنحة الإقامة الخاصة بحاشيته الكبيرة، وتشتمل على غرف الاحتفالات والاجتماعات والمستودعات والثكنات وكل الخدمات المنزلية، بما في ذلك مولد الكهرباء.

وتنتصب أبراج المراقبة بارتفاع 15 - 20 مترا، بناء على موقعها، وتوجد على مسافات مناسبة في السور والمحيط، لتجعله مثل التاج على الجانبين الشمالي والغربي ويواجهان الصحراء المفتوحة، وهناك أبراج أخرى، أكثر انخفاضا وصلابة، تدافع عن المداخل.

عندما يصل القادم من جهة الشمال الشرقي فإن أول ما يراه أبراج المراقبة الشمالية التي تواجه السهل الصحراوي العاري، وهو منظر مؤثر، ويطل الجانب الشرقي على ميدان كبير حيث توجد مجموعات من البدو يحملون عرائض وينتظرون بصبر للدخول على ملكهم، أثوابهم لا تختلف كثيرا عن أثواب أسلافهم قبل ألف أو ألفي سنة، وقد بنى لهم الملك عبد العزيز ولمطاياهم حوضا طويلا مبطنا بالإسمنت يملأ بالماء باستخدام مضخة تعمل على الطاقة الكهربائية لتوفير الماء بسهولة.

وتوجد غرف للضيوف خارج الجدار المحيط بمجمع القصر، وهي مفصولة عن الجدار الجنوبي بممر ضيق، وتعرف بقصر الضيوف، يتألف هذا القصر من ثلاثة طوابق، وهو مجهز بأبراج متماثلة، وباحتين داخليتين كبيرتين، وعشرات من الغرف المؤثثة تأثيثا فاخرا مغطاة بسجاد رائع. ينزل هنا ضيوف الملك عبد العزيز، بما في ذلك الأجانب الزائرون وغير الزائرين والوزراء والشيوخ والرسميون الآخرون مع موظفيهم.

والمباني الداخلية للقصر الملكي كما هو متوقع، مغلقة أمام الغرباء، وخصوصا أمام الأجانب، سوى في حالات الاحتفالات أو المقابلات الملكية الرسمية، حينئذ يؤخذ الضيف عبر سلسلة من السلالم والممرات مرورا بحرص القصر بزيّهم التقليدي الموحد الرائع، إلى قاعة الاستقبالات الضخمة المتناسقة والمضاءة بنوافذ عريضة محمية بشبك من الحديد. وعندما يتاح للمرء الدخول إلى مجمع القصر، فإنه يعجب بالبراعة، وبالخيال الواسع الذي أبداه المعماريون في ابتكار مثل تلك الزخارف الغريبة في الساحات والسلالم والأبواب والمصاطب المرتبة بحيث تربك المرء أول وهلة، والصفة المميزة الرتيبة لطراز المبنى ولأساليب البناء ولعناصر الديكور محيدة بنشر الكتل وبانعكاسات الضوء والظلال.

إن التأثير الكلي لا يُنسى، وجوّ التباين الذي يزداد بفعل خليط من الأزياء الموحدة الرائعة التي يرتديها حراس القصر من ناحية، والملابس المتجهمة والأنيقة التي يرتديها كبار السن والشيوخ والاحتفالات البسيطة من ناحية أخرى.

تمر السيارات التي تزور القصر من خلال بوابة ضيقة يحميها برج ضخم في الركن الواقع إلى الجنوب الشرقي. ويعلو هذا البرج - مثلما هو الحال في كل النقاط المرتفعة في المباني - نوع من القوائم التي تتدلى من كل منها لمبة إضاءة كهربية عارية. وخلال الليل تضاء كل باحات قصر المربع على نحو رائع لمساعدة الدوريات الليلية. ويتذكر الملك عبد العزيز كيف أنه بأربعين رجلا تقريبا وتحت جنح الليل استعاد قصر عائلته في وسط الرياض (الصحيح 63 رجلا)، وهو حريص على تجنب تكرار ذلك الحدث ضده. ويتجاوز عدد حراس القصر المختارين بعناية خمسمائة رجل.

تفوق معماريو القصر وبُناته ليس فقط في الإنشاءات العسكرية والدفاعية، ولكن أعطوا أيضا اهتماما كبيرا ومهارة لزخرفة الداخل. وهكذا يمكن أن نعد واحدة من ساحات قصر الضيوف مثالا ممتازا من نوعها، ويعطي انسجام أجزائها تأثيرا يكون في البداية متزامنا ولكنه هادئ ومتوازن، وتضفي فكرة الفتحات الثلاثية المتكررة بين أعمدة الأروقة في حافة السقف اللطف والأناقة. وإذا ما وضع المرء في الحسبان بساطة الوسائل التي استخدمت، وصعوبات البناء بالطين والجبس والخشب، في مثل تلك المباني العالية والرقيقة، فإنه يزداد تقديرا للمعماريين العرب. ويزداد ذلك عندما يلاحظ المرء عن قرب أنه لا يوجد جدار واحد رأسي تماما أو باب أو نافذة مستطيلة تماما ولا زوج متماثل من الأقواس، هذا الاختلاف وعدم التماثل ينطبق أكثر على الزخارف الداخلية وعلى نظام تمديد الأسلاك الكهربائية الذي يتألف من أسلاك ممددة على الجدران.

والغرف مزينة ببساطة بدوية تقليدية حيث لا وجود لأي أثاث إلا ما تحتويه خيمة بدوية، والأرضيات مفروشة بحصائر بسيطة من جريد النخل مغطاة بسجاد فارسي رائع، وهو في العادة ذو قيمة كبيرة ويوضع السجاد واحدة فوق الأخرى بحيث لا يستطيع الضيف حقيقة أن يقدر جمال كل واحدة منها لأنها موزعة بالآلاف في كل مكان من القصور الملكية، فهي تشكل جزءا من ثروة الملك عبد العزيز المثيرة للإعجاب.

وقطع الأثاث الأخرى غالبا ما تتألف من صفائح البترول الفارغة المغطاة بمواد ملونة كطاولات صغيرة لصينيات الشاي وتستخدم مساند للاتكاء عليها، والجلوس عادة يكون على السجاد مباشرة. بعض الغرف فيها كراسي بمساند للذارعين بدلا من صفائح البترول المعتادة. أما في قاعات الاستقبال - بما فيها تلك التي يقابل فيها الملك شخصيا الجمهور - فهنالك الكراسي الأوروبية التي اصطفت على طول الجدران تحت مرايا جدارية كبيرة مزينة بكتابات عديدة وتصميمات زهرية بحيث لا يمكن استخدامها كمرايا، وتصبح كأشياء للزينة. وتوجد في الغالب ساعات بندولية من القرن التاسع عشر، وهي ذات قيمة كبيرة في منطقة تعد الساعة فيها نوعا من الرفاهية، ويجتمع وجود الغبار وتكرار حدوث العواصف الرملية إلى تعطيل عمل ساعة الجيب أو ساعة اليد، ولا يوجد أي نوع آخر من الأثاث، كما لا تستطيع الأرضيات على الأرجح، تحمل وزنها. وتستبدل في الحياة المنزلية البسيطة في نجد، بخزانات الملابس كُوى (تجاويف) في الجدران أو بصناديق لحفظ ممتلكات النساء، والطاولات غير ضرورية، ما عدا الأجانب الذين توفر لهم في قصر الضيوف، لأن الصواني الضخمة التي يأكل عليها المرء مع الجماعة، والتي توضع على السجاجيد ذات ارتفاع كافٍ، أما قطع الأثاث التي تستخدم لأغراض جمالية كالمرايا مثلا فهي محرمة، حسب التقليد الإسلامي المتبع في نجد (ليس صحيحا ما ذهب إليه المؤلف)، وقد تم إدخال بندين فقط من بنود التقنية الحديثة: الإضاءة الكهربية المنتشرة جدا، ويتم إنتاجها بواسطة المولدات التي تعمل على الزيت أو الكاز (الكيروسين)، والتليفون، وتمارس النظافة الشخصية بوسيلة الدش البدائي المكون من أباريق نحاسية ضخمة لتجميع الماء للاغتسال، وأباريق من النحاس للوضوء والتدابير الصحية في الحد الأدنى.

حكمة ملك

* وحتى اليوم في نجد، وعلى الرغم من فترة الازدهار التي شهدتها بشكل أكبر مما عرفته المنطقة في أي وقت سابق اعتمادا على الدخل من الحج، وعوائد البترول، فإن الطريقة البسيطة للحياة التي يتبعها أتباع الملك عبد العزيز مستمرة دون تغيير. والمدهش مشاهدة نقاء الإيمان في نجد وخصوصا وسط الطبقات الحاكمة، المطلعة على طريقة الحياة الأوروبية وخداع السياسات الدولية، ومفاتن الدول العربية القريبة من الحياة الأوروبية مثل سورية ومصر. وهذا التمسك بالهدف والإيمان الراسخ مستمد من عظمة الملك عبد العزيز المثل الأعلى والقوة الدافعة لبلده. إن المودة والتبجيل والاحترام الذي يتبعه ويطبعه به أتباعه هي ثمرة حكمته.

يأتي المرء عند مغادرة مجمع القصر إلى طريق جيد معبد بالحصى، طوله كيلومتران يؤدي إلى مدينة الرياض، ويوجد في الجانب الأيمن إلى الميدان الواقع جنوب شرق القصر الملكي البيت الكبير الذي تقيم فيه عائلة أبي سعد وهم من أفراد العائلة المالكة، أما القصر الكبير الواقع إلى اليسار فهو قصر أخت الملك نورة المتزوجة بأحد أشجع القادة العسكريين للملك عبد العزيز (الأمير سعود بن عبد العزيز بن سعود بن فيصل المعروف بسعود الكبير).

ويرى المرء وراء هذين البيتين الكبيرين القصر ذا الطابقين الخاص بالأمير محمد، الابن الثالث من أبناء الملك، والأرض الصحراوية البينية مستوية لأكثر من كيلومتر واحد، ثم تنحدر بشكل خفيف يسمح للمرء برية منظر مدينة الرياض البسيطة والرائعة، وتوجد سلسلة من الأبراج الدائرية القوية تحيط بمبنى ضخم هو قلعة الرياض التي تشرف على كل المباني وأسوار المدينة المزودة أيضا بأبراج في نقاط استراتيجية (يقصد المصمك).

ويمكن للمرء أن يرى القصر الملكي السابق الضخم من مكان بعيد في وسط المدينة بسوره ذي الفتحات والخاص بعائلة آل سعود، وخارج الجدران في كل اتجاه يمتد صف طويل من خيام وأكواخ البدو التي تتغير بحدة في سوادها مع اللون الأصفر السائد للمباني المحيطة بها. إلى حد ما، وقبل الوصول إلى سور المدينة يجد المرء إلى يساره فناء مستطيلا ضخما مرتفعا قليلا بمحراب في وسط الجدار الغربي، هذا هو المصلى أو مكان الصلاة الجماعية الذي يستخدم في مناسبات خاصة مثل صلاة العيد، ويشير المحراب إلى القبلة أو اتجاه مكة، وعندما لا يكون هذا الفناء مستخدما توزع فيه هبات الطعام لفقراء المدينة.

ويتم الدخول إلى المدينة عبر بوابة الثميري ذات الأبراج في الزاوية الشمالية، وهي المدخل الرئيس للرياض. والمدخل ذو فتحات ومزود ببوابتين خشبيتين قويتين ومحميتين بحراس مسلحين وتقفلان في الليل، مثل كل البوابات الأخرى، وذلك لعزل المدينة عن العالم الخارجي، ويوجد برج للمراقبة منصوب على الطابق الثاني. ومن خلال الشارع الرئيسي، من بوابة الثميري مباشرة إلى الميدان، يرى المرء في مواجهة الشارع إلى اليمين، باحة تؤدي إلى مسجد القصر الذي هو واحد من أجمل مباني الرياض الدينية. إن بساطة المبنى مختلفة عن المساجد المماثلة في العالم العربي، فكل شيء بسيط من الأروقة إلى المنارة المخروطية الضخمة التي تشهد على استحالة نصب مبان مرتفعة مستقيمة بالطين. تبدي كل المساجد (بين خمسة عشر وعشرين، وفقا لفيلبي) ملامح متماثلة ويمكن تمييزها بصعوبة عن المباني المحيطة لعدم وجود المنارات العالية.

ينتهي الطريق على بعد أربعمائة متر تقريبا من بوابة الثميري إلى ميدان السوق المحاط بأسوار أنيقة مرتفعة ذات فتحات لإطلاق النار، وهو مكتظ في معظم أوقات اليوم بالمشترين والمارة، والجانب الجنوبي من الميدان يحتله بالكامل القصر الملكي السابق الذي تم توسيعه وتحسينه في السنوات القريبة الماضية، وفي الجانب الغربي نجد أن الميدان يحده رواق طويل يربط القصر الملكي بوزارة المالية، أو الخزانة، أو بيت المال. يتألف أطول جانب من الميدان من منازل سكينة خاصة وسطها شارعان ضيقان يصلان إلى قلب المدينة. إن الأسلوب البسيط المتقشف والمتناسق للنمط المعماري مضافا إليه جمع من البدو، يترك انطباعا لا يُنسى، فهناك مجموعات من البدو تقف متحدثة إلى أعضاء قافلة وصلت حديثا أو يُهرعون بخطى متئدة إلى المكاتب الحكومية في الميدان.

يؤدي الباب الخشبي الضخم للقصر القديم إلى ساحة هادئة محاطة بأسوار القصر وبممر في الطابق الأول يسنده رواق على أعمدة، يشبه ما وصفناه في ميدان السوق، وهذه الساحة هي مكان وقوف القوافل التي تجلب البضائع من كل الأنواع إلى المخازن الملكية.

لأن الملك عبد العزيز ليس ملكا بالاسم فقط، بل إن هداياه وإعاناته ملكية أيضا في سخائها.

يمر المرء من ميدان السوق وراء الرواق الذي يصل القصر بالخزانة ثم يدخل شارعا طويلا منحدرا بحوانيت صغيرة على جانبيه يؤدي إلى موقع السوق الأدنى المزدحم بالمتسوقين والمحاط بمجموعة من الحوانيت الصغيرة. وعلى الجانب الشمالي تتراجع الحوانيت إلى الجدار الخارجي للجامع الكبير، بينما يوجد في الجانب المقابل خليط من الأعمال الصغيرة تملأ الأزقة الضيقة المغطاة بقطع قماشية بيضاء لحماية الأقمشة والبضائع الأخرى سريعة العطب من الأضرار الناجمة من حرارة الشمس.

تبيع المحلات في الرياض كل أنواع البضائع المستخدمة في الحياة المحلية من الأواني والأدوات المعدنية التي يصنعها الحدادون في وقت الطلب إلى علب الطعام ومن البهارات إلى بكرات القطن، إلا أننا نلاحظ الفرق المهم بينها وبين المدن الشرق أوسطية الأخرى، هذا الاختلاف هو الإحساس بالهدوء التام والأمانة التي يجدها المرء في كل مكان. من المساومة على البضائع إلى الأخلاق والعادات. ويعرض تجار تبديل العملة عملاتهم المختلفة (حتى العملات المعدنية من الذهب والفضة) دون أي شكوك تجاه المارة. لقد فُرض هذا الجو من الأمن والثقة بالتهديدات الموجهة للمجرمين، ولكن الآن - بعد عشرين سنة - يعتمد الأمن على الاعتراف بمميزات النظام أكثر منه على الخوف من الجزاء، والزائر الأوروبي يمكنه فقط مقارنة هذا الشعور بالثقة والأمانة بما عليه الحال في بلده.

يصل المرء بسرعة وراء السوق من خلال زقاق متعرج، إلى الطرف المقابل للمدينة، أي إلى بوابة البديعة.

تقع المنطقة الحضرية للرياض بشكل رئيس جنوب خط الرحلة الذي وصفناه سابقا، وبغض النظر عن الحصن، فإن المبنى الوحيد باتجاه الشمال هو الجامع الكبير الذي يقع في الزاوية الشمالية الغربية للمدينة والذي وصفه فيلبي.

يصل المرء إلى قلب المدينة من السوق عن طريق أحد المسارات التي تتفرع من ميدان السوق الشمالي، قرب القصر الملكي، ويرجع التركيز غير العادي للمنازل في مساحة محصورة إلى عدة عوامل مجتمعة منها القيود التي يفرضها الطقس المحلي، والتطور غير المنتظم للمدينة التي تحميها جدران دائرية عالية من أعداء قدماء، وهشاشة المباني المبنية من الطين الخام، وكلما كانت المنطقة المراد الدفاع عنها صغيرة سهل الدفاع عنها.

وتشكل المنازل نظاما من الدعم المتبادل عن طريق الجسور والدعائم والدهاليز ودعامات المباني التي تسمح أيضا ببناء طوابق أكثر، مما يؤدي إلى تضييق الطرق والأزقة لتغدو مجرد ممرات متعرجة مظللة، تبقى نظيفة على الرغم من عدم تعبيد التربة المطروقة.

يحتوي الجزء الجنوبي من الرياض على مبنيين حديثين مهمين، بناهما الملك عبد العزيز هما محطة الاتصالات اللاسلكية القوية، والموقف (الكراج) الملكي الواسع وورش صيانة السيارات، القادرة على القيام بالتجديدات الكبيرة بالإضافة إلى الصيانة العادية.

يحد الرياض من الجنوب الواحات التي تمتد عدة كيلومترات لتصل بذلك إلى المناطق الإنتاجية غير المأهولة، ويعيش عدة آلاف من البدو والعمال اليدويين خارج السور، ويمارسون حياتهم بطرقهم التقليدية، ومن سحر الحياة في الرياض بالنسبة إلى الأوروبي أن يكتشف طريقة عيش ثلاثين ألفا من السكان في طقس رديء وفي موقع بعيد جدا عن المواني البحرية وعن المدن الداخلية الكبيرة، إلا أن المرء يمكن أن يجد في أسواق الرياض أنواعا كثيرة من الواردات من الهند واليابان وإنجلترا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية، بأسعار عادية، ويكمن السر في القرار الحكيم للملك بتقليل عدد سيارات النقل في المملكة العربية السعودية، إنه مفهوم «حد الكفاف» - المتجذر في التقاليد، والذي تفرضه البيئة - إلى جانب نظام النقل بقوافل الجمال الذي هو مجاني في واقع الأمر، ويمكن أن يسمح بمثل هذه التجارة الداخلية، ويتلقى كل مركز مأهول بالسكان في نجد حصته من الواردات.

سر آخر يحيط بهذه المدينة التي تحكم وتقود وتراقب منطقة مساحتها أكثر من مليوني كيلومتر مربع من قصور بُنيت من الطين المحروق، ومعزولة في أكثر الصحاري قسوة. إن أي شخص يأتي من دلتا دجلة والفرات، مهد ثقافات ما بين النهرين القديمة، لا يمكن إلا أن يتذكر الصور المطبوعة في الذهن عن المدن الأثرية لنبوخذ نصّر وبابل، ووراء واجهاتها المهيبة تختفي هشاشة الرجال والأفكار والأفعال والأحداث، ويبدو أنه هنا في قلب الصحراء، يمكن أن يجد المرء واحة تقاوم - في كل لحظة - ضرورات الزمن. إن الشخصية غير العادية للملك عبد العزيز وقوة الإيمان النقي هما المسؤولتان عن حفظ الحياة والحضارة في أحد أسوأ المناخات على وجه الأرض.

قصر البديعة الصيفي

* تقع بوابة البديعة في الجدار الشمالي الشرقي للقصر، على المسار الممتاز (الذي يتفرع في نقطة معينة إلى قصر المربع)، والذي يؤدي بعد ستة كيلومترات إلى وادي الباطن، يجري الوادي شمال - جنوب، وباتجاه موازٍ لاتجاه واحة الرياض، ويحتوي على الوادي الذي يدعى الباطن، والذي يكون جاها في معظم أوقات السنة، بطن الوادي غير مستوٍ تقريبا، وتتعرض طبقاته الكلسية تدريجيا للتعرية بفعل الأمطار العرضية وعمل الرياح، وتساعد المناطق المنخفضة التي تحتفظ بالماء مدة أطول على الاحتفاظ ببعض الحقول المروية الغنية التي تشكل حلقة من الواحات الصغيرة الخضراء في الأرض الحجرية البنية، والواحة الأكثر أهمية هي واحة البديعة، مع القصر الملكي الصيفي الذي بناه الملك فيها، ويتكون القصر من مبنيين رئيسيين وعدة مبانٍ صغيرة أخرى منتشرة في بستان النخيل، وقد أقيمت مبانٍ منفصلة للنساء والرجال والضيوف، بالإضافة إلى الخدمات التي توجد في الطابق الأرضي في المباني الرئيسية أو في خيام صغيرة مستقلة أكثر لما يحيط به من جمال.

الطراز المعماري لهذا القصر هو نفس الطراز التقليدي لقصر الرياض المزود بشرفات ومصاطب تظهر طبيعته الأساسية بوصفه قصرا صيفيا، والديكور الداخلي مأخوذ من أشكال عربية مميزة مزخرفة باللون الأبيض على الخلفية البنية، والغرف مؤثثة بمقاعد ذات مساند وأسرة حديدية وطاولات ومظلات في مكان الخزانات وحمامات بالدش، والأرضيات مغطاة بعدة طبقات من السجاد الفارسي الرائع يتغاير في نظر الأوروبي على نحو غريب مع خليط الأثاث الغربي الموجود فيها، لقد مُنحتُ فرصة القيام بزيارة القصر لعدم وجود أحد فيه.

وقد سُميت البديعة بهذا الاسم بسبب مائها الممتاز الذي يتم الحصول عليه من عدد كبير من الآبار، وبسبب نضارة بستان النخيل الذي هو مثال لخصوبة أرض لا ينقصها إلا الماء لتزدهر بكل أنواع النباتات، والليالي المقمرة ساحرة، بالقدر الذي يصورها لنا الأدب العربي.

يأخذ المسافر - عند الرجوع إلى العاصمة - الطريق الطويل الذي يؤدي إلى مكة والبحر الأحمر: 1140 كيلومترا إلى البحر، إذا كان على المرء أن يدور حول المدينة المقدسة، وألف كيلومتر إلى البحر إذا سمح للمرء أن يمر عبرها. آخر ما يلمحه المسافر المغادر وراءه هو قصر المربع، مقر الملك، ويتفرع المسار الآن شمالا إلى الشمال الغربي، بمواجهة سهل جبل طويق، الذي يمثل العمود الفقري للمناطق الخصبة في نجد، حيث يجلب إليها مياه الأمطار التي تجري على جانبيه.