معرض الرياض للكتاب.. تفرد وارتفاع سقف الحرية واختفاء حلبات المصارعة والمشارط والأقلام الطامسة

«الشيوعي الأخير» يظهر في المعرض بهوية كوبية

لقطات من جناح «الشركة السعودية للتوزيع» (تصوير: مسفر الدوسري)
TT

سجل معرض الرياض الدولي للكتاب، الذي يقام سنويا في العاصمة السعودية وأصبح حدثا ثقافيا وفكريا لافتا منذ انطلاقته الأخيرة قبل ثلاث سنوات، اسمه كواحد من أهم المعارض، بعد أن تحول في ظل مناخ الانفتاح الذي ساد في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى ما يشبه المحفل الحضاري، بما يعكس النماء الثقافي ومناخ الحرية الذي غطى كل جوانب الحياة الثقافية في البلاد.

وعد المعرض الذي كان لافتا منذ انطلاقته الأخيرة نافذة ثقافية تعزز اتجاه الإصلاح الذي أقره الملك عبد الله وشمل ميادين تعليمية وقضائية واقتصادية واجتماعية وفكرية، مع إقرار أنظمة تساعد على تسريع وتيرة الإصلاح، مما يعزز التنمية في بلاد تعد قبلة العالم الاقتصادية حيث تنام على بحيرات من الذهب الأسود وتشكل عصب الحياة لأكثر دول كوكب الأرض، وقبلها احتضانها للأماكن المقدسة وقبلة المسلمين في أرجاء المعمورة.

وجاء معرض الرياض الدولي للكتاب الذي انطلقت فعالياته يوم الثلاثاء الماضي ليعكس المكانة التي احتلها المعرض عند الجميع، بدءا من دور النشر التي تهافتت على المشاركة في المعرض ووصل عددها إلى أكثر من 650 دارا من مختلف الدول، مرورا بالأنشطة والفعاليات المصاحبة له والتي لا تقل أهميتها عن نوعيات الكتب المعروضة، وانتهاء بارتفاع هامش الحرية من خلال العناوين والكتب الجديدة التي يعد عرضها نزولا في المحرم وترويجا لأفكار تخالف الثوابت والعرف السائد.

ومع التسليم بأن المشاهد الثقافية والفكرية ومنها معارض الكتب لا تخلو من وجود أزمات بين الأطراف المتعددة والمختلفة بسبب المعروض من هذه الكتب، فإن معرض الرياض الحالي شهد حدة أقل فيما يخص نوعية الكتب المباعة وهوية الزوار وجنسها، بعد التجارب الماضية في كيفية احتواء الغاضبين والمتشددين والمتطرفين في التيارات المختلفة.

وتزامنت انطلاقة المعرض مع تصريحات نسبت إلى وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل، ونشرتها «النيويورك تايمز» الأسبوع الماضي، أكد خلالها أن اتجاه الإصلاح قد تم إقراره في بلاده، مشددا على أنه ليست هناك من فرصة للنظر إلى الوراء، ومؤكدا على حقيقة الاتجاهات المستنيرة والحرة التي تشهدها السعودية، وملمحا إلى أن بلاده تتحرر الآن من أغلال الماضي وتسير في اتجاه مجتمع ليبرالي.

ورغم أن معرض الرياض شهد هذا العام ارتفاعا في سقف الحرية الممنوح لدور النشر، ومرونة في فسح الكتب التي كانت تعد من الكتب المحرمة والممنوعة، فإن ساحات وأروقة المعرض والأجنحة لم تشهد تلك المواجهات التي شهدتها المعارض السابقة، ولم تتحول إلى حلبات للمصارعة، ولم يحمل البعض المشارط والأقلام الطامسة لنزع الصفحات أو طمسها، إلا أن بعض المتشددين أبدوا ملاحظاتهم على بعض المعروضات، وتعامل معها المنظمون ورجال الأمن بالروية والحكمة تارة وبالحزم تارة أخرى.

ومن الصعوبة إحصاء كل عناوين المعروضات في معرض الرياض الدولي للكتاب الذي سيسدل الستار عن فعالياته يوم الجمعة المقبل، لكن المعرض سجل اسمه الأقوى بين المعارض العربية بما احتواه من كتب، كما سجل حضورا متميزا لأبرز دور النشر في العالم بعد النجاح الذي تحقق في تجاربه السابقة التي لا تزال حاضرة في أذهان ذوي العلاقة بالكتاب من قراء وناشرين وإعلاميين، حيث اعتبروا أن وزارة الثقافة والإعلام التي تؤمن بأن الكتاب والمعرفة لا وطن لهما قد هيأت المناخ لنجاح المعرض أثناء إقامته بالرياض، وفتحت المجال لمئات من دور النشر العربية والأجنبية لعرض أكثر من ربع مليون عنوان عربي وأجنبي، مع إشراك أكبر عدد من الدوائر الحكومية والمؤسسات والشركات الخاصة ومراكز البحوث العلمية والجامعات، وبما يحقق تمثيل الأطياف العلمية والثقافية والأدبية المختلفة ومنحها الفرصة لعرض ما تصدره من كتب في مختلف التخصصات. وكشف المعرض عن أن السعوديين شعب قارئ، وأن عصر التقنية الذي تزاحمت فيه وسائل المعرفة، وتنافست في الانتشار والتمدد، لم يسلب الكتاب سلطانه ومركزيته في مشروع النهضة الثقافية، كما أكد المعرض أن صناعة الكتاب في السعودية صناعة نشطة، وقد حققت حضورا عربيا وعالميا لافتا.

ولم يحدث تغيير في الكتب الأكثر طلبا والتي يسعى لاقتنائها زوار المعرض، حيث تساوت الطلبات على كتب الرواية والفلسفة والسياسة، والكتب التي تتناول الصحوة والعلمانية، بالإضافة إلى كتب الاستشفاء الذاتي والعلاج بالأعشاب، وكتب التاريخ والرحالة، وحدثت في المعرض قصص عجيبة كما نسجت بعض الطرائف حول العلاقة بين الزوار ودور النشر، وبين دور النشر والرقابة، وبين الزائرين الذين يرغبون الحصول على تواقيع الكتب ومؤلفيها، لعل أبرزها النقاشات التي تتم حول هوية «الشيوعي الأخير» الذي حملته رواية السعودي إبراهيم الوافي، حيث تصدرت صورة البطل غلاف الرواية، ولمح فيها مؤلفها إلى أن هذا الشيوعي «يدخل من بوابة الشمس التي لا تمل المغيب، ويحمل في كيسه المتكرر ورق الوقت، علق في رقبته حبلا متسخا ينتهي بنظارة تتدلى حتى سرته، يسأله الأصدقاء عن محل إقامته فيجيبهم عن قيادة المرأة للسيارة ووجوب الاختلاط، ونبذ مشروعات الوجبات السريعة التي تتكاثر في الشوارع المؤجرة لأثرياء البلد، وحقيقة الجسور المعلقة والبنى التحتية والنمو السكاني في المدن البعيدة، ويعده المثقفون آخر الشيوعيين في جزيرة العرب، ويصفه سائق (الليموزين) بالمجنون، ويعتقد بائع العرق البلدي أنه عميل سيسهم معه في المراباة بأموال الفقراء والمساكين!.. هيئته مدنية رثة، وكلماته المتقاطعة أبيات شعرية تتكرر في اللقاء الواحد خمس مرات.. يتحدث عن كارل ماركس كما يتحدث عن بائعي نُقب المحجبات».

لكن البطل لا يعطي الفرصة لمقتني الرواية للسؤال عن هويته، فيخرج إليهم ببدلته ونظارته المتدلية ليقول لهم أنا «ص.م» من كوبا، مع أنه سعودي الأصل والمنشأ والولادة، ويقارنون ملامحه مع ملامح صورته التي رسمت على غلاف الرواية، ويبدأ معهم في نقاش حول التفاوت الطبقي والأراضي البور وحقول القمح وصوامع الغلال والجمعيات التعاونية ونقابات العمال وفؤوس ومناجل الفلاحين، والمزارع الجماعية. ثم يخرج أوراقا تتحدث عن الماركسية والفقراء ويوزعها على الزوار الذين اقتنوا الرواية وكان هو بطلها. وشهد المعرض إقبالا على رواية «الأرجوحة» لبدرية البشر، وكتاب «نانسي ليست كارل ماركس» لحازم صاغيه، و«الملك سعود: الزمن في زمن التحولات» لجاك بونوا ميشان، و«تأسيس الإسلام بين الكتاب والتاريخ» لألفريد لويس دي بريمار، وكتاب «عزيزي النفط ماذا فعلت؟» لعبد العزيز التويجري، وكتاب «العلمانية هي الحل» لفاروق القاضي، وكتاب «إسلام بلا مشائخ» لعلاء الدين آل رشي، وكتب عبد الله الحامد «أبو بلال»: «لكي لا يكون القرآن حمال أوجه»، «لفسطاط الإسلام عمودان: قيم روحية وقيم مدنية»، «الطريق الثالث: الدستور الإسلامي السلفية الوسطى»، ورواية «مساء يصعد الدرج» لعادل الحوشان، و«حكام مكة» لجيرالد دي غوري، وكتاب «الصحوة في ميزان الإسلام: وعاظ يحكمون عقول السعوديين» لعلي الرباعي، وكتاب «المسيح العربي: النصرانية في الجزيرة العربية والصراع البيزنطي الفارسي» لفاضل الربيعي.

وشهد أحد الأجنحة مفاوضات ماراثونية بين موظفي الرقابة والمسؤولين عن الجناح، بعد أن سحبوا كتابا يتحدث عن التحولات في السعودية لعبد العزيز الخضر، وأخرجوا كل الكمية من الجناح، لكنهم وافقوا في النهاية على إرجاعه بشرط بيعه للنخبة، وهو شرط لا يمكن تحقيقه إلا بإحضار شهود من المثقفين المعروفين يفيد بأن طالب شراء الكتاب هو من النخبة.