رحلات القطار.. 5 ساعات من العزلة التقنية و«الفضفضة» الاجتماعية

بعد 30 يوما من جنوح القطار.. حزمة مشاريع «ترفيهية» مرتقبة وتقليص ساعات السفر

نحو 40% من السعوديين فقط هم الذين جربوا التنقل بواسطة القطارات المحلية («الشرق الأوسط»)
TT

نحو ثلاثين يوما مرت على حادثة جنوح أحد القطارات في رحلة بين الرياض والدمام، والتي أثارت جدلا بين هواة ركوب القطار في السعودية. إلا أن محمد أبو زيد، مدير العلاقات العامة والإعلام بمؤسسة الخطوط الحديدية، أكد لـ«الشرق الأوسط»، عدم تأثر حركة الحجوزات بهذه الحادثة، موضحا الإجراءات التي اتخذتها المؤسسة حيال ذلك. وأضاف «الحوادث وإن كانت بسيطة فهي تسبب لنا قلقا كبيرا».

ومع الاهتمام الإعلامي بالحادث، وعلى الرغم من مرور سنوات طويلة على نشأة القطارات السعودية التي تنطلق في 30 رحلة يوميا، فإن شبكة الخطوط الحديدية الممتدة على طول 1412 كلم، ما زالت تربط بين المنطقة الشرقية والرياض فقط، واللتين يتركز فيهما نحو 40 في المائة من مجمل سكان البلاد، مما يعني أن تجربة ركوب القطار لم يعشها إلا فئة محدودة من السعوديين، الأمر الذي يجعل هذه الوسيلة ترتبط معهم بعلاقة عاطفية، لتفاصيلها المختلفة عن بقية وسائل المواصلات.

إذ تكاد تكون الساعات الـ5 التي يقضيها المسافرون في رحلتهم على القطار بين الدمام والرياض هي واحدة من أطول الفترات التي ينعزلون فيها عن أحداث العالم، بعيدا عن ضجيج المدن وضوضاء التقنية، حيث لا جوال ولا إنترنت ولا فضائيات، فلا يكاد يمر نصف الساعة الأول من الرحلة حتى يضعف إرسال شبكات الاتصال أو ينقطع تماما، عندها يعود المسافرون سنوات إلى الوراء، مستعينين بوسائل الترفيه التقليدية، كالصحف والمجلات.

وهنا يعود مدير العلاقات العامة والإعلام بمؤسسة الخطوط الحديدية، ليقول «رحلة القطار بحد ذاتها هي ترفيه، وهناك مزايا موجودة بالقطار وليست موجودة في أي وسيلة نقل أخرى، من ضمنها إمكانية التجول من عربة إلى أخرى سواء إلى المطعم أو المصلى وغير ذلك»، ويضيف «لدينا الآن حرص كبير على التوسع في مفهوم الترفيه».

وعن ملامح هذا التوسع، أفاد بالتوجه لتوفير خدمة الإنترنت داخل القطارات على طول الرحلة، حيث تجري حاليا مخاطبة شركات الاتصال بهذا الخصوص، وهو ما أوضح أنه سيساعد الطلبة في إعداد الأبحاث والاستذكار، لكونهم يمثلون الشريحة الكبرى من عملاء القطار، ويضيف «من ضمن الشرائح التي نستهدفها الآن فئة رجال الأعمال، فبدلا من عقدهم اجتماعات العمل في المكتب، من الممكن عقد الاجتماع على القطار».

من جهة أخرى، كشف أبو زيد عن حزمة مشاريع حديثة تستهدف إعادة تأهيل الخط الحديدي، بحيث تتقلص مدة الرحلة بين الدمام والرياض من 5 ساعات إلى حدود 3 ساعات، وهو ما أكد أن العمل جار للانتهاء منه قريبا، مما يعني أن ساعات الانتظار الطويلة التي ارتبطت برحلات القطار في طريقها للتلاشي، رغم أن البعض يجد في ذلك إحدى مزايا انجذابه لهذه الوسيلة.

إذ يشجع طول الانتظار على بناء علاقات جديدة بين أشخاص تجمعهم كراسي متجاورة بعشوائية مع بداية الرحلة؛ وينتهي بهم الأمر إلى تبادل أرقام الهواتف في آخرها، بعد قضاء الساعات في التعارف وتناول الأحاديث المتنوعة، وهي فرصة قد لا تتكرر للراغبين في عقد علاقات جديدة بصورة غير مألوفة. بالمقابل، يجد بعض المسافرين الفرصة لإعادة الحسابات والوقوف على مسائل تجمع بين الزوج وزوجته أو بين الأم وابنتها، وكأنهم لم تتح لهم الفرصة من قبل للنقاش حول الموضوعات التي يأتي القطار ليضعهم فيها.

وعند تأمل راكبي القطار، يبدو ملاحظا تفضيل الذكور تصفح الجرائد، بينما تميل الإناث لتقليب صفحات المجلات، حيث تأتي الموضوعات المطروحة فيها لفتح نقاشات تخفف من حدة الانتظار، إذ تتمتم الفتيات «شعر جميل.. فستان أنيق»، فيما يعلق الرجال على التصريحات والمقالات الصحافية، وعندها تولد موضوعات حوارية مختلفة، بحسب اهتمام كل راكب: من قصص العنف الأسري، وارتفاع الأسعار، وعروض التوظيف، والسفر على القطارات، وحتى نتائج المباريات الكروية.

الخالة نجيبة تخاف من ركوب الطائرات منذ سنوات طويلة، وفق ما يسمى «فوبيا الطيران»، إلا أنها اعتادت على ركوب القطار من الرياض بصورة دائمة؛ لزيارة ابنتها التي تعيش مع زوجها في المنطقة الشرقية، لذا لم تبد اهتماما يذكر بخبر انحراف القطار، قائلة «الله هو الحافظ، وما سيقدره لنا سيحدث، سواء في قطار أو سيارة أو أي مكان آخر، فلا داعي للخوف».

وتحاول الخالة نجيبة قضاء وقت الرحلة الطويل بالنوم، رغم تكرر لحظات استيقاظها فزعة بسبب ضجيج الأطفال، خاصة الطفلة «سارة» التي تجلس خلفها وتعبث بالكراسي المجاورة، ثم تسأل أمها كل نصف ساعة «متى سنصل إلى الرياض؟»، وبسبب ترديد والدتها للقول «اهدئي يا سارة»، تمكن معظم الركاب من حفظ اسمها.

أمام ذلك، لا يبدو غريبا مشهد أحد كبار السن وهو يقف من إحدى الكراسي الخلفية ليصرخ «هدوء يا جماعة، أبناؤكم أزعجونا!»، في الوقت الذي توفر فيه إدارة القطار شاشات متلفزة تعرض أفلام «توم آند جيري» التي تجذب بعض صغار السن إلى جانب المواد التثقيفية، بينما يفضل البعض الآخر منهم لعب الـ«جيم بوي» أو الاستماع لأجهزة الـ«mp3»، إلا أن الصراخ يبقى هو الهواية المفضلة لمعظم الأطفال أثناء ساعات الرحلة الطويلة.

في الطرف الآخر، تجمع بعض النسوة جلسات «الفضفضة» وتبادل القصص حول مشاكلهن الأسرية، والزوج الذي يغيب بالأيام ولا يصرف على أبنائه ولا يجلس معهم، لتندفع المستمعة وتقرر خلال نصف ساعة الحل السحري، قائلة «اطلبي الطلاق وارجعي لأهلك!». بينما يصدح صوت بعض المسنين في التمتمة بالأدعية أو قراءة القرآن، خاصة فترة دخول أوقات الصلاة، حيث تطلق أصوات تكبيرات الأذان المسجلة في أرجاء العربة.

أما بالنسبة لطاقم القطار، فيفتتحون الرحلة بالمرور بين الركاب وترديد العبارة «تذاكر.. تذاكر»، وأثناء ذلك، لا غرابة من أن تصدح أجهزتهم اللاسلكية ببعض العبارات الطريفة، كأن يسأل أحدهم «تريد الغداء مضغوطا أو مندى؟»، وبعدها بدقائق، يحضر عمال الضيافة ليستقبلوا الركاب بفنجان من القهوة العربية والتمر، يليه عامل توزيع الصحف، ثم صاحب عربة المأكولات، الذي لا يصمت الصغار إلا لحظة مروره، ليلتفوا حوله ويشتروا أصناف الحلوى والعصائر.

وينبغي القول إن طقوس الضيافة هذه تخص ركاب درجة الرحاب، حيث يضم القطار 3 درجات، كالتالي: الرحاب، ويتميز ركابها بتخصيص مقاعد واسعة والاطلاع على الصحف والتلفزيون، ثم تأتي درجة الطليعـة في الدرجة الثانية من الفخامة والراحة وسعة العربة، وأخيرا درجة القافلة وهي درجة الإركاب العادية.

يذكر أن شبكة الخطوط الحديدية تربط ميناء الملك عبد العزيز في الدمام ومدينة الدمام نفسها (على الساحل الشرقي للسعودية) بالعاصمة الرياض، مرورا ببقيق والهفوف وحرض والتوضيحية والخرج. كما تتفرع من الخطوط الرئيسية خطوط فرعية تربط بعض المناطق الصناعية والزراعية والمواقع العسكرية بموانئ التصدير والمناطق السكانية.

فيما تنقل قطارات مؤسسة الخطوط الحديدية سنويا ما يزيد على 1.3 مليون راكب، و350 ألف حاوية، أي أكثر من 80 في المائة من الحاويات الواردة لمنطقة الرياض عبر ميناء الدمام، ومليوني طن من البضائع العامة، وذلك بحسب ما تفصح أحدث إحصاءات الموقع الإلكتروني الرسمي للمؤسسة العامة للخطوط الحديدية.

ومن المتوقع أن تنمو أرقام الركاب والشحن بعد بدء الرحلات لمشاريع التوسعة القائمة والمخطط لها، إذ يتوقع أن يصل عدد الحاويات المتداولة على الجسر البري عام 2015 إلى أكثر من 700 ألف حاوية نمطية، أي ما مجموعه 8 ملايين طن من المشحونات.