أمين الشرقية: التمدن اغتال التراث المحلي.. دون قصد

قال: إننا كمسؤولي بلديات ساهمنا في ذلك بنزع الملكيات وفتح الشوارع والتوسع

طفل سعودي يمارس أعمال الترميم.. في إشارة لضرورة النهوض بهذه الحرفة اليدوية وتبنيها من قبل الأجيال المقبلة («الشرق الأوسط»)
TT

لم تكن الورقة التي ألقاها المهندس ضيف الله العتيبي، أمين المنطقة الشرقية، مألوفة في مضمونها وحقائقها مع ما اعتاده المتابع لمؤتمرات عامة، يحرص المتحدث فيها على الحديث العمومي وعلى تقديم الذات والمؤسسة في أحسن صورها.

تلك الورقة ألقاها العتيبي الذي يتبوأ منصب أمين المنطقة الشرقية ضمن جلسات المؤتمر الأول للتراث العمراني الذي أسدل مؤخرا في العاصمة الرياض، والتي باح فيها العتيبي للرأي العام بالحقيقة «المُرّة» التي حاد كثير عن الإشارة إليها، فضلا عن الإفاضة بشأنها، تلك الحقيقة هي اغتيال التمدن الحضاري للتراث العمراني، خاصة في المنطقة الشرقية التي كانت محور حديث المهندس العتيبي.

ورقة العتيبي كانت مقتضبة، لكنها مركزه ومثقلة بالهم الوطني في صورته السياحية، فالتراث العمراني في المنطقة الشرقية «المغتال من دون قصد»، حسب تعبيره، كان بقايا حضارات كثيرة، استوطنت الشريط الساحلي، ولحسن الحظ فهناك الكثير من الشواهد الشاخصة التي تدل على ذلك، مما أثبتته عمليات التنقيب والاستكشاف في الكثير من المواقع.

يقول العتيبي «في فترة من الفترات هدمت مباني التراث العمراني من دون قصد، وبعد أن هدأت العاصفة تفاجأنا بوجود عناصر قليلة، والآن الأمانة تعمل على استعادة تراث مدن المنطقة وتعزيز هويتها المعمارية».

المنطقة الشرقية كانت موطنا للكثير من الأقوام والحضارات على مر التاريخ، ومن الأمثلة القائمة، منطقة ثاج الواقعة قرب القرية العليا، وجاوان في صفوى، وتاروت الأحساء، والقلعة في القطيف، وبرج الطوية بالجبيل، وعبر الزمن تشكلت هوية عمرانية ونمط معماري تميزت المنطقة الشرقية به حتى وقت قريب.

يقول المهندس الذي قضى أكثر من نصف عمره في «أرامكو» السعودية، الأقوى على مستوى العالم في إنتاج النفط، أو عملاق النفط السعودي كما يحلو للبعض، عند بداية تكون مدينة الدمام قبل أكثر من 100 عام استمدت هويتها العمرانية ونمطها المعماري من المناطق المحيطة بها كالأحساء والقطيف ودول الخليج المجاورة، ولكن ذهبت العاصفة الخرسانية بهذا التراث الزاخر، فلم يعد له وجود اليوم إلا بالأحافير والتنقيب.

وأخذ المهندس العتيبي يروي تفاصيل ما يسميه «اغتيال التراث»: «بعد اكتشاف النفط في المنطقة وبدء التحولات في أنماط الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسكنية، وما تتطلبه تلك المرحلة من إيجاد أعداد كبيرة من المساكن والمباني، التي يصعب إنتاجها بالطرق التقليدية المتبعة آنذاك، تم اللجوء إلى الأساليب الحديثة في نوعية البناء الخرساني الذي ساهم في فقدان الهوية العمرانية ودخول مواد وتقنيات وطرز جديدة في البناء، كما ساهم في ارتفاع تكاليف البناء التقليدي، وبطء التنفيذ، وعدم توافر المواد المستخدمة، واختفاء حرفيي البناء التقليدي، ودخول العمالة الوافدة التي لا تتقن هذا النوع من البناء، في تفاقم المشكلة واكتمال فصول الاغتيال».

ويضيف «أنتجت الماكينة الخرسانية بسرعة مذهلة أحياء جديدة بتخطيط شبكي حديث وشوارع فسيحة، وهجرت الأحياء التقليدية والمناطق التاريخية القديمة التي تميزت بتعرجاتها العضوية».

ثم يدلي المهندس ضيف الله العتيبي ومن موقعه في أمانة المنطقة الشرقية بالاعتراف الشجاع: «نحن في القطاع البلدي في الوقت الذي أسهمنا في التنمية بفاعلية لكننا - من دون قصد – أسهمنا كذلك في إهمال بعض التراث المعماري من خلال نزع الملكيات لفتح الشوارع وتوسعة الطرقات وإنشاء الساحات والحدائق، حتى لم يتبق من ذلك التراث إلا الشيء القليل، وحين هدأت العاصفة، صحونا فلم نجد إلا بقايا قليلة من تراثنا وصورا متناثرة نتحسر عليها».

ويضيف المهندس ضيف الله «لقد سارعت الأمانة وهي الجهة التي تعنى بالتنمية والتطوير وهوية المدينة، وإيمانا منها بمكانة التراث العمراني وأهميته الاقتصادية والثقافية، إلى وضع خطة استراتيجية تستعيد وتبرز تراث مدن المنطقة، وتعزز هويتها العمرانية، وتضمنت الخطة الاستراتيجية للأمانة أهداف الحفاظ على التراث العمراني وتأصيل الهوية المعمارية التراثية، غير أن المهمة ليست سهلة، بل ثمة عقبات وتحديات، لأن إعادة إحياء تراث عمراني تمت إزالته أصعب بكثير من الحفاظ على مبان تراثية قائمة».

وأخذ العتيبي يتجلى في حديثه أمام حضور صامت «دعانا ذلك إلى عمل دراسات استشارية في النمط المعماري، وكان من أهداف الدراسة تحسين البيئة العمرانية في المنطقة المركزية بالدمام وإعادة تأهيلها، وإيجاد طراز معماري يتلاءم مع هوية المنطقة التاريخية ويحافظ على إرثها المعماري، ووضع معايير واشتراطات لتصميم المباني الجديدة وصيانة المباني القديمة وإعادة تأهيلها».

ويضيف «توصلت الدراسة إلى حقيقة مفادها اضمحلال الهوية العمرانية وزحف العمالة الوافدة للمناطق ذات القيمة التراثية، وضعف وعي الملاك والمستثمرين، ولذا تبنت الأمانة برنامج المحافظة على التراث من خلال استعمال عناصر العمارة التقليدية، وزودت المكاتب الهندسية بمعايير واشتراطات للاسترشاد بها وتطبيقها».

ومن جميل المبادرة هنا طبقا للعتيبي «أمانة المنطقة الشرقية قدمت ذاتها قدوة للآخرين والمستثمرين، فبدأت بتطوير المنطقة المركزية في الدمام، ونفذت مبنى الإدارة العامة للتخطيط العمراني، وهو على وشك الانتهاء، وسوق شارع الملك سعود، وساحة الملك سعود في وسط الدمام، وأبراج مدخل منتزه الملك عبد الله بالواجهة البحرية بالدمام، وأسهمت هذه المبادرات في تحفيز المواطنين والمستثمرين لتطبيق هذه الأنماط في مشاريع أخرى منها: مبنى كانو على شارع الأمير محمد بن فهد، ومبنى الراجحي على شارع الملك سعود، ومقر توعية الجاليات، ومسجد زيد العيسى».

وفي مسلك آخر، قدمت الأمانة بالمنطقة الشرقية عددا من الدراسات المعمارية لتنفيذ بعض المشاريع الاستثمارية المستندة إلى هذه الرؤية والقيم التراثية مثل: السوق الشعبية في الدمام، وسوق الحمراء على الكورنيش بالدمام، ومشروع بيت الشرقية في مهرجان الجنادرية.

وتحث أمانة المنطقة الشرقية الخطى حاليا لإعادة تأهيل الأحياء السكنية القديمة مع الحفاظ على قيمتها التراثية، ومواجهة صعوبات وتحديات نظرا للمخاطر الأمنية وتشويه المنظر الحضاري في ظل بقاء المباني القديمة الخاصة مهجورة ومهملة، كما أن تعدد الملاك والورثة وعدم وجود تشريعات ملزمة بالحفاظ على هذه المباني وإعادة تأهيلها تعتبر تحديات جوهرية، حيث يوجد عدد من المباني الخاصة ذات القيمة التراثية في بعض الأحياء القديمة، تعاني من الإهمال، والأمانة تعمل بالشراكة مع الهيئة العامة للسياحة والآثار للاتفاق على برنامج محدد للمواقع التي يجب تطويرها.

ويبشر المهندس العتيبي كل المهتمين بالشأن العمراني أن ما قامت به الأمانة ليس سوى البداية، وهي في رأيه خطوات جادة على الطريق الصحيح، وتتطلب مواصلة العمل والجهد وزيادة الدعم ضمن عمل مؤسسي متكامل لاستنهاض هذا التراث، واستلهام الدروس والعبر وتأصيلها، للمحافظة على ما تبقى من التراث العمراني.

وليس أهم من الثلاثية التي أشار إليها المهندس ضيف الله العتيبي من أجل النجاح في إحياء هذا التراث وهي: التوعية، والدعم، والتشريع.

ولا شك أن مؤتمر التراث العمراني برعاية قائد المسيرة ومحب التراث الأول خادم الحرمين الشريفين، رسالة ووسيلة لنشر الوعي بأهمية التراث العمراني، وكيفية التعامل معه بين المسؤولين والمهتمين وأفراد المجتمع، كما أن الأمانات والبلديات والجهات المعنية بالتراث بحاجة لمزيد من الدعم المالي والفني في هذا المجال، أما التشريعات والأنظمة المنظمة لهذه العملية، فهي المطلب الأكثر أهمية في الوقت الراهن.

وثمة رسالة أخيرة بعثها أمين المنطقة الشرقية، مفادها أن تقوم الأمانات والبلديات بإيلاء أهمية كبرى للتراث العمراني والهوية المعمارية، من خلال إجراء الدراسات المتخصصة، وتنفيذ المشاريع التوضيحية، التي يمكن أن تقود وتحفز الآخرين من القطاع الخاص، وتشجيع ودعم جهود الأمانات والبلديات ماديا وفنيا للعناية بالتراث العمراني وتعزيز الهوية المعمارية الأصيلة، وإيجاد وتطبيق التشريعات والأنظمة اللازمة الخاصة للتعامل مع أنواع التراث العمراني، وإيجاد حوافز ذكية لتشجيع المستثمرين والمواطنين على احترام وتوظيف التراث العمراني، وزيادة عدد الجوائز المحفزة على تصميم وتنفيذ المشاريع العامة والخاصة التي تعكس وتوصل التراث العمراني، وتبادل التجارب والخبرات بين المدن الإسلامية في مجال الحفاظ على التراث العمراني، وتأسيس الشراكات الاستراتيجية في هذا المجال.