رحلة استكشافية بلجيكية قبل 60 عاما ترصد 12 ألف نقش قديم وسط الجزيرة العربية

فيلبي أشرف عليها وقدم نتائجها للملك المؤسس وأستاذ في اللغات السامية وآخر في الفيلولوجيا والتاريخ شاركا فيها * الرياض.. مدينة أمراء الصحراء الغربية المشوقة تستكمل مسيرة أكبر ملك عربي معاصر

سوق المقيبرة في العاصمة السعودية الرياض قبل 67 عاما («الشرق الأوسط»)
TT

سجل الرحالة البلجيكي فيليب ليبنز جزءا من رحلة استكشافية قام بها إلى وسط الجزيرة العربية قبل 60 عاما مع كل من هاري سنت جون فيلبي الذي أشرف على ترتيب هذه الرحلة وقدم نتائجها للملك عبد العزيز، وكونزاك ريكمان أستاذ اللغات السامية في جامعة لوفان المشرقية، وجاك ريكمان ابن أخت الأستاذ السابق ومساعده في الفيلولوجيا والتاريخ الحِمْيَري والسبئي.

وشملت الرحلة التي انطلقت عام 1951م كلا من جدة والطائف وبيشة وأبها ووادي تثليث وبلاد زهران وتربة ونجران ووادي الدواسر والرياض، وتميزت برصد كثير من المواضع الجغرافية والمعالم الأثرية والنقوش القديمة في المناطق التي مر بها أفراد البعثة الاستكشافية، وترجمت دارة الملك عبد العزيز ما سجله الرحالة ليبنز إلى اللغة العربية حيث أنجز الدكتور محمد الحناش نقل ما كتب عن الرحلة من الفرنسية إلى العربية. وكانت المعلومات التي توصل إليها فريق الرحلة ثرية، بل إن ما تم تدوينه عن الرحلة من أسماء للمواضع ووصف كثير منها خاصة قرية الفاو، يعد غزيرا، وأضافت الجديد وكثيرا من المعلومات عن أجزاء كثيرة من المناطق التي غطتها الرحلة وما كتبه ليبنز عنها.

وكشفت الرحلة التي دعمها الملك المؤسس عن وعي الملك بأهمية الأعمال العلمية والإفادة من خبرات المختصين في التاريخ القديم والآثار، كما أن الشروط التي فرضها الملك عبد العزيز على فيلبي وأعضاء البعثة الاستكشافية تعبر عن إدراك الملك عبد العزيز لنتائج مثل هذه الرحلات.

حيث ذكر فيلبي في هذا الصدد ومن خلال أوراقه الخاصة بالرحلة التي كتبها عام 1960م ولم يتمكن من استكمالها نظرا لوفاته في العام نفسه، أن الملك عبد العزيز أصدر موافقته على هذه الرحلة، واشترط أن لا يكون ضمن فريق البعثة أي يهودي أو متعاطف مع الصهيونية بأي حال من الأحوال، وأن يتم إعداد تقرير بنتائج الرحلة وتقديمه للحكومة السعودية مع الصور الفوتوغرافية للنقوش والقطع الأثرية التي يتم اكتشافها، وأن تكون جميع تلك القطع ملكا للحكومة السعودية.

وتعكس هذه الشروط، وفقا للدكتور فهد السماري الأمين العام لدارة الملك عبد العزيز مراجع ترجمة الكتاب والمعلق عليها والمحقق للمواضع الواردة في أوراق الرحلة، حكمة الملك عبد العزيز في تعامله مع مثل هذه البعثات الاستكشافية من حيث دعمها بشكل يخدم البلاد ويمنع نقل القطع الأثرية خارجها.

في يوم 24 أكتوبر (تشرين الأول) 1951م اختفت من سماء بلجيكا طائرة ذات أربعة محركات سجل على بطاقتها أسماء ثلاثة ركاب متوجهين نحو المجهول، وقد أخذت الحكومة السعودية، بواسطة فيلبي، على عاتقها جميع القضايا المتعلقة بالرحلة: التنقل والسكن والمأكل واليد العاملة، وذلك على نفقة الملك الشخصية. كما لمح إلى ذلك الرحالة ليبنز في استهلاله للكتاب، مضيفا: «أما هديتنا للملك فكان يكفينا منها كأس من الكريستال للتعبير عن عرفاننا وعظيم شكرنا لجلالة الملك، ملك المملكة العربية السعودية، وقد كان يثار أثناء اجتماعاتنا الشهرية التلقيح ضد الأمراض المختلفة: الحصبة، والحمى الصفراء، والكوليرا، والجذام، والتيفوئيد، والملاريا، والتيتانوس».

كانت جدة هي أولى محطات وصول الرحالة الثلاثة. يقول ليبنز: «في الرابعة صباحا تحولت أنظار ركاب الطائرة من نور كوكب الزهرة المتلألئ في عنان السماء لتركز على الأنوار الكهربائية في المدينة الواقعة على ضفاف البحر الأحمر، إننا نطير فوق جدة، المدخل الغربي إلى المملكة العربية السعودية. إنها دولة صاحب الجلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، المشهور بابن سعود».

ثم تحدث الرحالة عن الجزيرة العربية والسعودية وعدد سكانها الذين حدد عددهم بنحو أربعة ملايين ونصف المليون نسمة في ذلك الوقت، «منهم نصف مليون يسكنون مدن الرياض ومكة وجدة والمدينة المنورة بالإضافة إلى مراكز النفط، بينما يتكون بقية السكان من أهل القرى الذين يسكنون الواحات أو من البدو، مقسمين على نحو عشرين قبيلة رئيسية، وهؤلاء يعيشون على الرعي أو على الترحال ويسكنون حول آبار المياه في بعض المناطق شبه الخالية داخل البلد.

الملك ذو حكم مطلق وقد فرض سلطته على شعب شغوف بالاستقلال، وقد كان ذا شخصية قوية تتجمع فيه صفات كثيرة جعلته يفرض سياسته وسلطته، وقد نجح ابن سعود في هذه المهمة التي جعلت منه شخصية عربية تاريخية، لقد مات في نوفمبر (تشرين الثاني) من سنة 1953م، ومع ذلك فإننا سنتكلم عنه هنا بضمير الحاضر لأن رحلتنا كانت في زمانه».

ويضيف فيليب ليبنز: «ها هي جدة المدينة البيضاء تمتد بخيلاء على ضفاف البحر الأحمر ذي المياه الزرقاء، فمن هنا يصل أغلب الحجاج متوجهين إلى مكة التي تبعد نحو سبعين كيلومترا عن جدة».

والمدن العتيقة الخشبية تغالب المنازل بالإسمنت، كما تغالب الطرق المسفلتة والطرق المخصصة للطيران. هناك حيث ينتهي المعمار الحديث تبدأ الصحراء التي يتداخل فيها الجمل مع السيارة ويلتقي فيها الحمير، والنساء المتحجبات، وروائح السوق.

خراف مشوية ونرجيلة

* الريال هو العملة السعودية وقيمته تعادل الفرنك السويسري، لا توجد أوراق نقدية، يتم تسديد قيمة السيارة بـ10000 قطعة نقدية، وفي هذه الحالة يستحسن وزن المبلغ بدل عده.

المجاملة والبروتوكول ليست مجرد كلمات عند الأعرابي، فقد قادنا فيلبي إلى هذه المتاهة من الاستقبالات والمواعيد: من رئيس البلدية إلى القائمقام إلى الوزير متوجين هذه اللقاءات بزيارة نائب الملك في الحجاز، الأمير فيصل، وهو أحد أبناء ابن سعود ووزير الشؤون الخارجية، وقد كانت مقابلته ذات فائدة كبرى حقيقية بالنسبة لأهداف هذه البعثة. تعد جدة متحفا أثريا في طريق التكوين حيث أشرف ريكمان على عملية تصنيف وتصوير القطع الأساسية التي ستعرض فيه، وقد اشتغلنا في ذلك مدة يومين وقد أشار فيلبي في أوراقه الخاصة بهذه الرحلة إلى أن الملك عبد العزيز أصدر أوامره بإنشاء متحف للآثار في جدة».

ويواصل الرحالة تعليقه على الرحلة عبر طريق غير المسلمين ومتحدثا عن مكة والحج وشروطه وأركانه بشكل موجز، معرجا على قرية الزيمة بوادي مكة على الطريق بين مكة والطائف التي تشتهر بجودة الموز، واستقبال الشريف علي بن أحمد الحارثي لأفراد البعثة أحسن استقبال وقبولهم احتساء الشوربة في بهو داخل مزرعة الحارثي «أمير القرية» أو «رئيسها» كما أطلق عليه الرحالة، كما تحدث عن القهوة وكيفية إعدادها وجلسات السمر في العراء وتحت النجوم، كما وصف وجبة العشاء التي تم تحضيرها في غضون ساعتين من أجل أفراد البعثة والمكونة من لحم الضأن والأرز، وفي القرية استوقفهم نقش ورسم حربي معروف من قبل المسافرين الذين يمرون من هنا، فكان ذلك مناسبة لأعضاء البعثة للقيام بأول تصوير وأول نسخ، ومر الفريق بالحوية شمال الطائف التي كان الملك عبد العزيز يخيم فيها وقت الصيف وأصبحت اليوم من أحياء الطائف وبها مطارها الذي حمل اسمها كما وصف الطائف التي كان يعيش فيها عشرة من الجنود البريطانيين الذين يقومون بتدريب السعوديين في مخيم كبير وذلك في إشارة إلى البعثة العسكرية البريطانية في الطائف التي بدأت في مارس (آذار) 1948م بهدف تدريب أفراد الجيش السعودي واستمرت مدة ثلاث سنوات، وتحدث الرحالة عن الطائف وحدد عدد سكانها في وقته بـ50 ألف نسمة واشتهارها بالسدود المبنية من الأحجار الطبيعية، كما أشار إلى اشتهار المنطقة بإنتاج العسل وانتشار مربي النحل وصناعة العسل الطبيعي، كما وصف زيارة أفراد البعثة إلى أمير الطائف ناصر بن معمر وتناول وجبة العشاء التي أقيمت على شرف أعضاء البعثة حيث وضع الخدم على الأرض 67 صحنا تتراوح بين قدر وآنية الشوربة، وقد امتلأت الصحون بخرفان مشوية بكاملها بما في ذلك رؤوسها بالإضافة إلى عجينة الحمص (الجريش)، كما قدم لهم عسل جيد وخبز ممتاز وتمر وموز.

ثم عرج الرحالة بالحديث عن رحلته من الطائف إلى بيشة التي تفصلها عن الطائف مسافة طولها 323 كيلومترا، ووصف الطريق والأدغال الشوكية وقطعان الماعز والقوافل الصغيرة التي كان يتأرجح خلفها رعاتها بخطوات ثقيلة، وهي محملة بأكياس من البر والتمر والتبن وأغراض أخرى، ومر الرحالة مع أفراد البعثة بتربة التي تقع على الوادي المعروف باسمها واصفا إياها: «واحة على مساحة 150 هكتارا كلها مشجرة بالنخيل يحاذيها قصر الأمير المحلي المبني بالطوب، وبيوت من الطوب الأصفر بالإضافة إلى منارة صغيرة مربعة، وقابل أفراد الرحلة الاستكشافية بعض رجال البلدة الذين يجلسون في شكل دائرة حول محور الخيمة وهم يتناوبون على مقبض الغليون المائي المعروف بالنرجيلة، وعندما يسحبون الدخان من النرجيلة تسمع صوت الماء الذي يجتازها، في وقت صوب فيه أحدهم عينيه اللامعتين نحو الرحالة وقال: (البي بي سي؟) (يقصد محطة هيئة الإذاعة البريطانية) مشيرا إلى خليط من البرامج التي تقدم أخبارا عن الحرب والتي تضحك الناس جميعهم!» زار الفريق أمير تربة سعد السميري وكان من رجال الأمير فيصل بن عبد العزيز وتناولوا العشاء على مائدته: «لقد لبسنا أحسن ما عندنا للذهاب إلى أمير تربة وفي أثناء الأكل كان ينزع أطرافا صغيرة من لحم الضأن ويضعها في جهتنا، وهي حركة تستحق الانتباه؛ ذلك لأن الأكل ممتاز إلا أنه كان ساخنا. وحسب قول الأمير، فإن المدرسة المحلية ليست باهظة التكاليف، كل طفل يكلف نحو 25 فرنكا بلجيكيا، ثم أضاف قائلا: (وفي بعض الجهات ندفع للآباء نقودا لنشجعهم على الذهاب بأبنائهم إلى المدرسة). وبعد ساعتين من هذا الوقت افترقنا تحت النجوم أمام رواق القصر.

وزار الفريق معدن الذهب القديم في المعملة، وهو جبل يقع شرقي القسمة في بلاد زهران وقد اكتشفت فيه معادن، وفي هذا المركز بقايا جدران مبنية بحجارة طبيعية على شكل خطوط راسمة خطا عاريا فوق المنظر الذي أحرقته الشمس، لقد عاش هنا عدد من الرقيق وماتوا في هذه المنطقة المعزولة مخلفين وراءهم أجزاء كثيرة من الأدوات الحجرية التي كانوا يستخدمونها في جرش الأحجار، ووصل الفريق إلى الحرة (حرة سبيع المعروفة): إنه سهل حزين مزروع بالحصى المكور، الأسمر أو الأسود، في حجم حجر التبليط، وكانت تهب علينا نسائم ريح حارة مع عواصف تجعل المنظر يهتز بصفة دائمة، كما اجتازت البعثة طريق الفيل، ثم أرض بدو غامد ثم رينة وهو واد ينحدر من جهة الغرب والجنوب باتجاه الشمال الشرقي، ووقفوا على إحدى الآبار التي توجد بها نقوش قديمة كما انتشر أعضاء الفريق في الوادي بحثا عن النقوش في الصخور التي كانت نقوشا ثمودية: اسم ثمود يدل بشكل غير واضح على بعض قبائل شمال السعودية التي كان يسكنها شعب ثمود، ومن بين القضايا التي حيرتنا وتزداد معها حيرتنا أكثر فأكثر هو عثورنا على أثرهم كلما اتجهنا جنوبا، على الأقل إلى اليمن. وتطرح الـ9000 نقش التي كشفنا عنها قضية انقراض هؤلاء القوم أو حتى وجودهم تحت هذا الاشتقاق. أستطيع أن أتصور هؤلاء الرحل في قوافل أو محاربين كانوا يسكنون هنا قبل نحو 2000 سنة، لقد جمعنا نحو 20 رسما لحيوانات مفترسة أو أليفة لا يعدم بعضها شيئا من الأناقة، ومن بعيد كانت إحدى البدويات تختلس إلينا النظر وهي تسقي ماعزها، وقد كانت مستعدة للفرار في حالة اقترابنا منها.

لقد انتهينا من المكان المثمر والمعشب فقررنا الدخول في منطقة على شكل دائرة مساحتها مائة كيلومتر، ولقد حان الوقت لنسخ بعض نقوش الدهثمي التي كان البدو يكسرونها كلما دعت الحاجة إلى أحجار لدعم البئر».

وصل الفريق إلى بيشة، وهي مدينة تبعد عن خميس مشيط نحو 250 كيلومترا نحو الشمال: «لقد دخلنا بيشة دخولا احتفاليا حيث جمع فيلبي السيارات والشاحنات لندخل في موكب واحد متجهين نحو قصر الأمير (محمد بن هديان تولى إمارة بيشة خمس سنوات بدأت عام 1364هـ) وذلك من أجل إظهار الاختلاف عن المسؤولين وكذلك لإضفاء هالة على موكبنا في نظر السكان، وفي بيشة نزل الفريق ضيفا على الأمير الذي أكرمهم، وتناولوا وجبة تتكون من خروف مجزأ إلى أربع أو خمس قطع مع الأرز.

استمع الفريق وباندهاش إلى وصول أحد الأوروبيين إلى المنطقة: «إنه عضو في المنظمة الدولية لمكافحة الجراد الذي كانت تخضع له هذه المنطقة بكاملها. يمر الجراد بمرحلتين أو بثلاث مراحل من النمو، ويجب مكافحته قبل أن يتعلم الطيران. يحدثنا مرافقنا عن سحابة من الجراد كان طولها قد بلغ ثلاثين كيلومترا وعرضها من كيلومتر واحد إلى 4 كيلومترات، كانت تنقسم إلى فراسخ مفصولة بفراغ يصل إلى كيلومتر ومتوسط الكثافة كان يصل إلى 300 جرادة في المتر المربع، هذه الأرقام تعني أنه وصل على الأقل إلى مساحة 200 كيلومتر مربع، ومجموع الجراد سيصل إلى 60 مليارا. ومن دون تعليق فإن مليارا من الجراد يزن 1400 طن».

ويصف الرحالة بيشة بأنها «ملتقى كثير من الطرق كما أن واحاتها تعد سوقا مهمة تنعقد على المساحات الكبيرة المحاذية للقصر، وتمتلئ السوق بالنساء المحجبات اللاتي غسلن شعرهن ببول النوق، ويمارسن تجارة العطور والحناء لتخضيب الأطراف باللونين الأسود والأحمر، وهن يتبادلن بالأيدي الأساور والتمائم والتمور والتوابل في جو أخوي حار وسهولة لسان، كما كان الأطفال يتجمعون بين الحيوانات فيسمع لهم رغاء وثغاء وبكاء وعويل تحدث صداعا يغطي على نداء الباعة الذين يعرضون بضائعهم بصوت مرتفع.

في هذه الأثناء تكون الجمال والحمير معطلة، حيث يحكم وثاق مقدم أرجلها، وكانت واحدة منها تنحني على ركبتيها، لكنها تحمل وسما أو علامات مختلفة مكوية على جلودها، على الكتف أو على الفخذ أو على العنق، كل فرع من القبيلة له علامته الخاصة به، ومكان محدد على جلد الحيوان يكون عليه.

كان الناس جميعا ينظرون إلينا في حيرة، وأكثرهم لم ير في حياته (أبيض نصرانيا) كما يسموننا، وعلى هذه اللوحة الحية في لونها وأصواتها أخذت قافلتنا الطريق متجهة نحو الجنوب».

مائدة على الطريقة الأوروبية

* شرع الفريق في رحلة من بيشة إلى أبها مرورا بقرى وهجر وموارد مياه وآبار، ووصف الرحالة حياة السكان والطبيعة، كما شاهد القبور التي تتناثر في السهول، وهي عبارة عن أكوام صغيرة مغطاة بالحصى وفوقها حجرة عمودية تدل عليها، وقال: «إن دفن الموتى في السعودية أمر يسير، والملك نفسه دفن كما يدفن أفقر واحد من رعاياه».

ووصل أعضاء الفريق إلى خيبر واكتشفوا واحاتها، ووادي المسيرق في بلاد شهران ووقفوا على النقوش فيه، وقرية ابن هشبل التي تطل عليها تلال من الجرانيت حتى وصلوا إلى أبها التي وصفها ليبنز بأنها «مدينة مربعة الشكل وغير محصنة بالأسوار من جميع جوانبها يسكنها نحو عشرة آلاف نسمة».

في أبها تناول الفريق طعام العشاء على الطريقة الأوروبية، «حيث كانت هناك مائدة طويلة مغطاة بمنديل وموضوعة بشكل مقلوب على الأرض المنبسطة، أما أدوات الأكل فقد جلبت من أفخر معارض لندن، وكان الخدم يجتهدون في توزيع هذه الأدوات غير المعروفة لديهم، أما رفقاؤنا المسفر ومحمد و(محمدون) آخرون، فكانوا قد شمروا أكمامهم وهم يراقبون من خلال نظراتهم الشزرى ما نفعل، لأنهم لا يكونون طبيعيين إلا عندما يجلسون أمام النار في المخيم وأيديهم في الخروف وهم يأكلون محدثين أصواتا عند امتصاص أصابعهم. لكن الجسورين منهم عادوا إلى عاداتهم القديمة، بينما كان الآخرون يجتهدون في تقليدنا.

التقى الوفد فهد بن تركي ابن أمير أبها تحت خيمة في موقع رائع في ضواحي المدينة والأمير يتسلى بآلة التصوير الفورية، وذهب أعضاء الوفد للبحث عن الآثار ليعودوا بعد ساعتين، ويتناول الغداء الذي كان عبارة عن خروف لذيذ مخلوط بالأرز وبعض حبيبات العنب المجفف (زبيب)، ثم أهداهم الأمير إناءين ممتلئين عسلا وتمرا، ليودعوا أبها متجهين صوب نجران، حيث عبروا وادي بيشة وعاينوا صخرة مغطاة بالنقوش والرسوم، ثم ذهبوا للسلام على الشيخ سعيد بن مشيط رئيس قبيلة شهران الذي يعيش في قصر محصن، وتوجهوا إلى شعيب الحشرج، ثم واحات تندحة، وهو وادي في خميس مشيط يقع على ضفة قرية تحمل اسمه، وخلال مرورهم التقطوا بعض الرسوم الثمودية».

عبرت القافلة الصحراء وعبر فجاج كثيرة الارتجاج بين الصخور الوردية وذات لون الكريمة فوق حجر الجرانيت، وتجاوزت القافلة عددا من القطعان وأضرحة كبيرة محاطة بشكل دائري بصفائح أحجار متراكمة، وشاهد أعضاء القافلة أرانب وأفراخ الحجل وبعض الغربان، والتقط الفريق بعض الرسوم الثمودية، كما قام رجال القافلة بصيد جيد، وحملوا إلى الرحالة جربوعا حيا تم ربطه في رجل السرير لكن الجربوع حفر نفقا وتحرر من الأسر.. وصل الفريق إلى قرى وموارد قبل الوصول إلى نجران، وخلال الرحلة تم نسخ عدد من النقوش المحلية، وشاهد أفراد البعثة أهم واد في المنطقة المعروف بوادي حبونة وسهله العريض الذي يتراوح بين 7 و8 كيلومترات، وفي آبار الخضراء نصب الفريق خيمته بالقرب من بعض خيام البدو الذين احتفوا بهم وقدموا لهم خروفا، وبعد الأكل وصلت شاحنة وعلى متنها حاكم نجران الأمير تركي بن ماضي، وهو شاب عليه علامة العربي القح، هادئ ومبتسم: «تبادلنا في هذا اللقاء قبلات الترحاب باختصار شديد نظرا لأن الأمير كانت تنتظره مرحلة طويلة من السير ليلا؛ إذ كان متوجها لمساعدة أحد أبناء الملك الذي تعطلت سيارته بسبب نفاد البنزين منها خلال رحلة صيد» (الأمير الذي تعطلت سيارته هو محمد بن سعود الكبير ابن عم الملك الذي كان في رحلة صيد في المنطقة).

يقول ليبنز عن نجران: «تعد مركزا اقتصاديا وإداريا لقبيلة يام، ويسكنها الحاكم الذي يعينه الملك. عرضها نحو أربعين كيلومترا، وواحتها يسكنها نحو 8 آلاف نسمة من السكان الحضر، وهي تشكل حزاما طويلا من النخيل يمتد في الوسط على طول وادي نجران من الشرق إلى الغرب»، كما أعطى وصفا لأطلال الأخدود وآثاره، وخلال إقامة الفريق في نجران تم وضع مخطط مفصل للأخدود، والبحث عن النقوش في الجبال، واستكشاف بعض النفط في الربع الخالي، ثم واصل الفريق رحلته من نجران إلى اللدام في وادي الدواسر وسجل نقوشا وآثارا في المنطقة، ثم واصل أعضاء الفريق رحلتهم إلى الرياض. حول ذلك يعلق فيليب ليبنز:

«كان فيلبي أول من قام برحلة استكشافية سنة 1918م. ثم جاء من بعده عالمان في الآثار سنة 1932م. ومن بعدهما جاء المستكشف ثيجر في سنة 1948م. هؤلاء هم الذين بدأوا وأنهوا قائمة الأوروبيين الذين سبقونا إلى اللدام في وادي الدواسر.

خلال الألف كيلومتر اللاحقة سنتمكن من عبور المنطقة التي لم يكن قد تم استكشافها بعد، وهي التي تقع على التخوم الغربية لنفود الدحي الذي لا يزال هو نفسه غير معروف.

وفي صباح يوم 24 يناير كنا قريبين من اللدام وفي جهة الشرق كنا قد وصلنا إلى صخور طويق المتحللة ذات لون الآيس كريم، وعندما تكون الشمس خلف هذه الصخور، فإنها تنفتح على ممر يعد الثاني من نوعه بعد ممر قرية، الذي يبدأ من وادي الدواسر.

كانت واحات النخيل والتجمعات السكنية قد بدأت تتضح أمامنا، كانت منازلها قصيرة، ومبنية من اللبن الطيني، وقلما تكون على دورين، وأسقفها مسطحة، تشبه صناديق الورق المقوى مقلوبة على وجهها. تنقسم المساكن إلى مجموعتين متراصتين، تفصل بينها مساحة شاسعة، الحي الجنوبي يسمى اللدام، والشمالي يسمى الخماسين.

وبمجرد أن وضعنا أقدامنا على عتبة باب قصر الأمير الذي كان في انتظارنا شرع في تقبيل فيلبي بحرارة وأخوة، بينما استقبلنا نحن بشكل رسمي، ثم قدم لنا المراسلات التي لحقت بنا من جدة لكنها كانت ممزقة، الله وحده يعلم كيف تمزقت، وكانت لي فيها أربع رسائل آخرها كانت بتاريخ 26 نوفمبر (تشرين الثاني).

كان معنا لدى الأمير بعض الرجال؛ من بينهم رجل كان مصابا في وجهه بمرض الجدري، كانوا يكثرون من النظر إلينا بعيون جاحظة، أما النساء المتحجبات فكن يخدعن حب استطلاعهن بفرقعات من الضحك الذي يأخذ شكل الإثارة العصبية، بينما كان الأطفال أكثر انسجاما معنا.

وضع لنا الأمير حمد بن مقبل تحت تصرفنا منزلا نظيفا، لكن غرفه كانت مظلمة، مما جعلنا نفضل عليه الخيمة التي كانت منصوبة على المساحة الفارغة الفاصلة بين المدينتين.

وحسب التقاليد، فقد كنا نتناول الطعام في بيت الأمير، حيث كنا نذهب ثلاث مرات في اليوم إلى قصره المبني من الطوب، وفيه بابان من الخشب.

قضينا الليلة عند أحد أعيان الواحة متكئين على الحيطان المدهونة بالجير وكانت توجد ساعة منبه داخل إطار فيه صورة مكة، وفي إحدى الزوايا كان يشتغل أحد الخدم في 8 أباريق ذات منقار يشبه منقار الصقر، وفي يده منفاخ يوقد به النار فوق الفحم داخل الغرفة المشرعة الأبواب، وقد كان التدخين ممنوعا في الديوان، لكن مسفر الأول أسر إلي بأنه عثر على سجائر تباع عند أحد الباعة في البلد.

بدأت يومي بسماع صوت الحصى وهو يمر بين أذني، فقد كان هناك بعض الأطفال بالقرب منا، لكنهم هربوا لتوهم بمجرد أن رأونا، وبعد دفع ثمن السجائر التي حملها إلي مسفر خفية، قمت بمراجعة مصروفاتي منذ خروجنا إلى الصحراء، فوجدتها بلغت 7 سنتات أميركية يوميا.

كان السكان يتكلمون بخليط من الخوف والفرح عن الليلة - الكابوس - ويتعلق الأمر بسيول كانت قد انهمرت عليهم بعنف لا مثيل له سنة 1917م، التي بلغت هذه المنطقة فأغرقت الأسر والحيوانات، كما اقتلعت الأشجار والنباتات وغمرت الآبار، وعلى النقيض من هذا، وبعد فترة كانت الأرض قد أخضرت جاعلة الناجين منهم يعيشون في جنة فوق الأرض.

وفي هذه الأثناء كنت أتلقى سيلا من الأسئلة التي كان يطرحها علي البدو المحيطون بنا تتعلق كلها بظروف الحياة في بلجيكا:

- ما اسم قبيلتك؟

- اسمها فلاماند.

- قل لنا، يا فيل (مختصر فيليب) كم عدد الجمال التي تملكها قبيلتك؟

- ولا واحد، لكننا نملك الكثير من البقر والغنم.

إلى هنا كانت الأمور تسير بشكل طبيعي، لكنها ستنقلب لما أكدت لهم أن رعاة القطعان يسكنون في المنازل، أما العشب الأخضر فلا ينقطع على مدار السنة، وهو يوجد قرب البيت. كما أنهم يغذون بقرتين في الهكتار الواحد، وقد كانت شروحي تلاقى بنوع من الريبة، والتهكم، مع أنهم كانوا يوهمونني بأنهم يثقون في كلامي.

وبعد الزوال قمنا بعبور جميع أرجاء الواحة على متن السيارة وفي رفقتنا سكرتير الأمير، وكان حضوره معنا يسمح لنا بالتستر على آلات التصوير بين أرجلنا.

كان نبات القمح الغض ينمو بين أشجار النخيل العالية، كما كانت هناك بعض الناعورات البدائية تقف على ست عجلات متوازية، تطلق الماء على أجنحتها التي كانت تتلاعب به.

كانت الطريق ممدودة بين نحو عشر عرصات، آخرها اسمها كمدة، وكانت فقيرة، وتقع بين أعواد من الطماريس التي كانت تلمع بلونها الفضي تحت الشمس، كان السكان يجمعون منها الحبوب ويحضرون منها طلاء أحمر جيدا، ويظهر أن هذه الصناعة في طريقها إلى الانقراض، لأنهم وجدوا أن المواد الكيميائية تؤدي الغرض بشكل أحسن منها.

وخلف كمدة توجد تلال بها أشجار العبل التي تحيط بمجرى وادي الدواسر غير الواضح قبل أن يندثر في سلسلة جبال طويق، حيث يكمل الخشمان الأصغر والعمور شكل هذا الثعبان الملتف حول نفسه.

لقد انتهى كل شيء عندما غابت الشمس، وقد كنت فرحا بالتفرد بـ(سَطْل) من الماء الذي اغتسلت به. كان ميزان الحرارة يشير إلى 27 درجة في المساء، وعندما كنت جالسا حول النار أسفل النقوش سمعت الرجال يتحدثون عن الرياض التي كنا نقترب منها. إن فرحة دخولهم المدينة والريالات التي سيتقاضونها ستنسيهم بسرعة تعب مطاردة النقوش في الأدغال، وهكذا أصبح تفكيك الخيمة ينجز بسرعة كبيرة مصاحبا بالأغاني.

وقد اجتزنا بسرعة سهل وطاة النوم المليء بالحمض، ورغبة منا في تجنب الطريق الذي سلكه فيلبي سابقا اتجهنا شرقا في تماس جبال الجد عابرين فجاجا واسعا من خلال جبال المفص.

كان السهل الموالي كثير الارتجاجات حيث كان كل عريش من الحمض معلقا فوق نجد من الرمال، وكانت الزوابع تتراقص أمامنا في غبار الرمال، وقد قطعت إحداها الطريق أمامنا، كانت عبارة عن أسطوانة من الغبار يصل علوها إلى ستين مترا، تنتهي بخليط من الأعشاب والرمال كان يسير في اتجاه الرياح، لقد بدأنا عبورها بارتطام بعض حبات الحصى مع إطار السيارة، وانتهينا منها بموجة من الرياح الدافئة.

كنا نسير وسط هذه الزوابع أمام أعين بعض الأطفال والنساء ومعهم رجل وحمار، كانوا كلهم واقفين أمام خيمتهم الفقيرة، وفي غياب وجود الحيوانات من هذه المنطقة فقد أصبح الحمار عضوا في هذه القبيلة التي تسمى (لصلبة)، فهؤلاء البدو الرحل يختلفون عن غيرهم بعدم امتلاكهم لأرض خاصة بهم، كان يجب عليهم أن يعيشوا على الحليب الذي يقدمه لهم جيرانهم البدو، ولذلك فإنهم يشتغلون كثيرا في إصلاح أغراض البدو مثل الأسلحة والقدور المعدنية في المخيمات التي يمرون بها، فهم يعبرون الصحراء والجبال بكل حرية، يدفعون إتاوات رمزية ويعيشون في هدوء، وعلى الرغم من نشاطهم اليدوي ووضعهم الاجتماعي الضعيف، فإنهم يتمتعون بقدر من الاحترام، لأنهم صيادون مهرة عند الضرورة ومنهم المرشدون المتميزون.

لم يكن أمامنا إلا بعض مسالك الجبال، ولذلك فلم يتمكن أحد منا من العثور على بئر العبسة؛ إذ لم يكن هناك ما يدل على وجودها باستثناء بعض الحفر التي يوجد بها ماء على عمق سبعة أمتار في وسط كومة سميكة من روث البهائم، وقد عثرت في هذه الحفر على أعز صديق لي في الصحراء وهو أبو بليق (نوع من العصافير التي تتغذى بالحشرات) بردائه الأبيض المفروش على أرضية لونه الأسود.

لقد توقفت السيارات بعد ذلك فوق سطح من الأحجار الرسوبية ذات اللون المائل إلى الحمرة، أسفل جزيرتين صخريتين مسطحتين. هاتان الجزيرتان تعدان جزءا من جبال صفراء الدميثيات، كان هناك قبر ضخم فوق المرتفع، والكل كان داخل دائرة من الأحجار الطبيعية التي يبلغ قطرها 32 مترا، تمتد هذه المنطقة إلى التخوم الغربية لنفود السر، وهي عبارة عن لسان من الرمال يمتد على مئات الكيلومترات، كانت تستخدمه السيارات التي تذهب من مكة إلى الرياض.

وفي وسط السهل الذي سيقودنا إلى بئر الشعيبية كانت توجد شجرة يبلغ ارتفاعها ثلاثة أمتار، كانت تتحرك فوق الأرض كما تتحرك طائرة من الورق ذات الشكل المثلث، وكان هناك أيضا هيكل عظمي لجمل ميت، جففته الشمس فتحول إلى عظام نخرة، ولا نتصور أن هذا الجمل كان قد مات عطشا، لأن البئر لا تبعد عن هذا المكان بأكثر من نصف ساعة، لقد وجدنا كذلك حيوانات وبعض البدو، بينهم امرأتان ترتديان ثيابا جميلة ومتسعة. كانت ضفة هذه البئر المحاطة بالحجر الطبيعي مبنية بقطع من الحجر المقلم بشكل عميق وأملس، فكيف لم تفكر الأجيال الماضية في الحركات البسيطة وفي الأغاني الرتيبة التي كانت ترافق الرحل في عبوديتهم الدائمة: الماء؟ نقول هذا الكلام نثرا، لأن البساطة الرعوية تنتقل بسرعة من الشعر إلى الحقيقة، نقول هذا لأننا كنا ندفئ القهوة على نار أشعلناها من روث البهائم.

وعبر سهل صهيد اقتربنا من نفود السر الذي تشكل تلاله حزاما بنفسجيا، منخفضا تتخلله سرابات، ونظرا لكثرة الحصى الغليظ بها ولوعورة أرضها فقد تركنا المرشد يبحث عن نقطة سهلة تمكننا من الاقتراب منها، وقد عثر فعلا على نفود محاط بمسالك لا بأس بها، حيث توجد ممرات تجبرنا على السير فيها، التي إن حدنا عنها كان يمكننا أن نتوقع أي شيء، وبعد عدة محاولات أجلنا الحل إلى اليوم التالي مفضلين نصب الخيام فوق مرتفع إحدى الهضاب التي ما زالت تخفيها صفوف من القمم الأكثر منها علوا.

وفي الطرف الجنوبي لنفود السر الذي لم يعد سوى مجرد مضيق حاد، سرنا فيه أقل من عشرة كيلومترات مهتدين بأثر عجلات سيارة كانت قد مرت منه حديثا، وبعد عبورنا بعض المنحنيات التي كان يصعب على السيارات تسلقها بلغنا مضيق المروَّت، الذي يقع على ألواح من الصخور الرسوبية الرمادية اللون والمتنطعة التي كانت ترحب بنا بسهولة السير فوقها.

كان بعض القحطانيين والعتيبيين يوردون نحو مائة جمل من بئر حويتة ويوقفونها بصوت (وي - وي) حاد، أو يطاردونها بصوت (هوتش – هوتش) الرخو، وقد وافقت إحدى الفتيات الصغيرات على التقاط صورة لها، وكانت متلفعة في خرقة بالية، وهي تقف في مواجهة الرياح القوية».

سيقان أبو الهول في جبال طويق

* ويواصل فيليب ليبنز وصفه للرحلة بقوله: «كنا نتسلق هضبة الذيبي وهي امتداد متقدم للجرف المحيط بسهل المروت شمالا، وفوق قمتها الموحدة وجدنا دائرة من الحجر يصل محيطها إلى 72 مترا، وهي عبارة عن صف طويل من الحجارة التي تواصل امتدادها على أكوام الحجر الأخرى إلى غاية الهضبة المجاورة.

كانت الشمس الذهبية تغرق في سماء ذات لون أزرق، وكان القمر يثقل الخطى جهة الشرق صاعدا في السماء. ورمال نفود قنيفذة تعكس لمعان جمال كواكبها التي غالبا ما كانت تؤله في الأزمنة الغابرة.

وباتباعنا لطريق شاحنات نقل الخشب وصلنا نفود قنيفذة عبر تلال الرمال التي كانت مليئة بشجيرات من أعشاب الثمام. كانت السيارات تغرق فيها من دون الاهتمام بما يجري تحتها إلى أن تصل عجلاتها إلى الطبقة الصلبة منها. في هذه الأثناء اجتزنا شاحنة فوقها 15 رجلا معلقين فوق كومة من الفحم الخشبي. تبادلنا معهم بعض عبارات التحية لكن كل واحد كان يخشى الغرق في الرمال التي لا تتمكن قوة الرجال أن تزحزح منها السيارة الغارقة إلا بمقدار الديسيمتر.

وأخيرا أخرجنا من هذه النفود عبر إحدى المضايق. وبينما كنا نعبر جبالا صفرا من الشمس مررنا بمنطقة فيها طبقة خفيفة من الوحل القديم التي كان لونها قد أصبح أبيض كالملح، تحت تأثير سنوات الجفاف.

وعبر ضباب بلون الرصاص كنا نتخيل سلسلة جبال طويق التي قطعنا جهتها الجنوبية على امتداد نحو مائة كيلومتر، وهي عبارة عن مجارف عالية رمادية اللون وسط سهل يولي فيه كل جرف ظهره للآخر، وتقف على سيقان منتفخة تشبه سيقان أبو الهول. وفجأة عثرنا على طريق عليه آثار المشي. إنه أكبر محور طرقي يقطع المملكة العربية السعودية، لأنه يربط بين الخليج العربي والبحر الأحمر، مرورا بجدة ومكة والرياض ومراكز النفط.

كانت الرياض تبعد بمائة كيلومتر شرقا. وبعد ذلك بقليل تجاوزنا كثيرا من السيارات، كما أننا كنا نلتقي بالعديد منها. كان الطريق يمتد على طول وادي حنيفة الذي يمر بالقرى وواحات النخيل والأراضي الزراعية. وبين هذه القرى توجد العيينة.

كلما اقتربنا من العاصمة كنا نشاهد تكاثر السواني ذات العجلات التي تحدث صريرا، وجدران الدعم التي تحيط بجانبي مجرى الوادي على شكل قناة. ثم من بعد ذلك طواحين الهواء بأجنحتها المعدنية التي تشهد على التأثير الأميركي. كانت الثلاثون كيلومترا الأخيرة تمثل نجاحا جميلا. الكثافة السكانية والحضرية ناجحة، تقريبا كانوا كلهم تابعين للعائلة الملكية، كما أن الأرض تضاعفت قيمتها.

وقد خرجت قافلتنا من وادي حنيفة كما تنهض الجمال والحيوانات من قعودها. كانت أشجار النخيل تتموج مع نسيم المساء، وكانت أنوار قصر ولي العهد تتلألأ. كما أن مضخات الماء التي تعمل بالديزل ترسل مياهها إلى الحدائق الأميرية، بينما كان يوجد أحد الأعمدة التي بها نور يضيء إحدى الخيام السود التي تسكنها عائلة بدوية. دخلنا العاصمة من أحد الطرق المسفلتة المحاطة بأعمدة التليفون.

نمنا تلك الليلة على قماش كان موضوعا فوق طاولة عليها شوكات الأكل ونحن جالسون على أريكة.

وفي المضاف الذي كان يتمدد فيه ضيوف الملك تسلمنا مراسلاتنا التي أعادت اتصالاتنا بالعالم.

كان معنا اثنا عشر ألف نقش حميري أغنينا بها «متن النقوش السامية» وعددها يضاعف محتوى القسم المخصص لنقوش الجزيرة العربية القديمة.

لقد قطعنا مسافة 5448 كيلومترا؛ قطعنا أكثر من ألفي كيلومتر منها في الآفاق المجهولة، أرسلنا برقية إلى بلجيكا نخبرهم فيها بانتهاء الرحلة بنجاح تام.

إن الحنين إلى إحدى المغامرات التي انتهت يمثل ذخيرة للذكريات التي ستبدأ.

مخرجان سينمائيان في الرياض

* كان على الأجنبي الذي يدخل الرياض في سنة 1952م أن يستجيب لشرط أساسي وهو: أن تكون قد وجهت إليه دعوة شخصية من الملك، والنتيجة الحتمية لهذا هي أن كل أجنبي يمر بالرياض سيكون ضيفا على الملك.

تقع عاصمة المملكة العربية السعودية في قلب الصحراء، يقيم فيها الملك وأفراد عائلته الكثيرون وأهم خدام الدولة. أما وزارة الخارجية التي يترأسها أحد أبناء الملك فتوجد في جدة على البحر الأحمر. والشيء نفسه بالنسبة لأعضاء الهيئة الدبلوماسية الذين لا يمكنهم الابتعاد عن هذه المدينة.

في صباح يوم 11 فبراير (شباط) كان اثنا عشر أوروبيا يشاركون نحو ثمانين ألفا من سكان الرياض حياتهم، فهناك الطبيب الشخصي للعائلة الملكية، وهو ضابط متقاعد اسمه رومل Rommel القادم من مخيمات الإنجليز العسكرية. وأربعة من الأميركيين الذين يهتمون بسبع عشرة طائرة من طائرات ابن سعود، وإنجليزي واحد يعمل في تكييف الهواء في القصور، ومخرجان سينمائيان أميركيان قدما إلى الرياض لعرض مشروع فيلم عن ولي العهد. هذا بالإضافة إلى فيلبي الذي كان يتردد بين الجلسات اليومية التي كانت تنعقد في ديوان الملك وبيته الخاص، وأخيرا ثلاثة باحثين بلجيكيين في الآثار وهم على أهبة السفر.

وتلبية لرغبة الجميع في التقاط صورة جماعية في الرياض صعدت فوق سطح بيت الضيافة. فشاهدت سحابة من الغبار المذهب تنزل فوق المدينة وعلى الصحراء المجاورة. كانت الأسطح المحاطة بالأسوار تختفي أحيانا بسعف النخيل الذي كانت تبدو لنا من خلاله القصور الزرق والبيض وذات اللون الأمغر.

وخلف الباب كانت تختفي امرأة شابة تختلس النظر إلي أحيانا. وعند نزولي التقيت بأحد الخدم الذي أخبرني من دون أية مقدمات بأنني في حريم المضيف. ولم يكن علي إلا أن أخلي المكان، لأن المثل يقول: «أحبك يا سواري، لكن ليس أكثر من معصمي». لقد نودي على فيلبي، وفي انتظاره أن يعود، قمنا بعزل ملابسنا المتسخة التي كان تغسل بسعر إجمالي وهو ريال واحد لكل قطعة، من دون التمييز بين القطعة الكبيرة والصغيرة.

جاء كبيرنا يبحث عنا من أجل أن نقوم بزيارة للملك. وقد ركبنا متلفعين بعباءاتنا البدوية سيارة «رولز رويس» التي كان ولي العهد قد أهداها لفيلبي.

أما قصر الملك (قصر المربع) فهو عبارة عن مجمع سكني يتكون من كثير من العمارات المحاطة بأسوار من الآجر. وهو يقع بين أقصى شمال الرياض والصحراء. دخلنا إليه عبر سلسلة الممرات الداخلية حيث كان يصطف كثير من السيارات.

وقد وجدنا على باب قصر الملك كثيرا من الناس، منهم الموظفون السامون والحكام ورؤساء القبائل والخدم والمتظلمون والملتمسون وهم جالسون في انتظار مقابلة الملك لهم، كانت عباءات أغلبهم سوداء خفيفة وشفافة وهم مصطفون أمام حائط أزرق سماوي.

وعن طريق باب من الخشب ذي مصراعين ومزين بنخلة تحتها سيفان متقاطعان، وهو سلاح محلي، قطعنا المرحلة الثانية من البروتوكول، أدى بنا هذا الباب إلى فناء ذي ألوان زاهية مزينة بالزهور. قادنا أحد الضباط السعوديين الذي كان يلبس بدلة عسكرية ذات لون زيتي، إلى ممر طويل وإلى الديوان الملكي. شكل هذا الديوان يشبه حرف (L) وطول جناحه خمسون مترا. كان الحضور، وعددهم سبعون شخصا، يلبسون الزي العربي. وكان الحراس المسلحون بالسيوف والمسدسات ينتشرون بين الحضور الذين كانوا يتربعون فوق السجاد متكئين بظهورهم إلى الحائط.

وفي زاوية الديوان كان هناك رجل مسن طويل القامة يجلس على كرسي متحرك وعلى رأسه غترة حمراء، كان يحدق فينا بعينيه كلما اقتربنا منه. إنه صاحب الجلالة الملك ابن سعود.

هذا الرجل المحترم جدا يجد نفسه اليوم تحت وطأة الجروح التي أصابته خلال المعارك الكثيرة التي قادها في حياته، قد يتجاوز عددها عدد سنوات عمره، هذه الجروح أوقفت نشاطه الذي قاد به حياته الصعبة. ومع هذا، فإنه ما زال يتولى في هذا الديوان البت في جميع قضايا البلد. كان يقعد على يمين الملك بعض أولاده وكثير من الوزراء. لكنه كان وحده الذي يوجه المحادثات. كان استقباله حارا. وفيما كان الخدم يقدمون لنا القهوة كان الملك يستمع إلى سرد عن الرحلة التي كان يرويها فيلبي على مسمعه. فللملك تجربة البدو الرحل، ولذلك كان ينتبه بتركيز متواصل، كانت أسئلته تتعلق بوضع السكان المعيشي، والمسؤولين، وحالة المراعي، والحيوانات، وحالة الصيد، وتساؤله عن حالة الطرق تدل على اهتمامه وتفهمه لوضع الساكنين في هذه الأصقاع البعيدة. لكن هدف ونتائج البعثة لم تكن مألوفة لديه، ومع ذلك؛ فإنه بذل مجهودا من أجل استيعاب أهميتها معبرا عن خالص تهنئته لريكمان.

انتهت المقابلة بعد أن تقدمنا للملك بخالص عرفاننا له بالجميل الذي أسداه لنا وعلى دعمه غير المشروط لبعثتنا.

وحسب التقاليد الشرقية؛ فإن الحضور يتبادلون بطريقة خفية الهدايا التي تؤدي دورا مهما في العلاقات الثنائية. وهكذا؛ فإن كل واحد منا حصل على بدلة عربية كاملة، بالإضافة إلى ساعة رسم عليها وسم ملكي. وبدورنا قمنا بإهدائه كأسا كبيرة من الكريستال رسمت عليها السيوف السعودية.

وقد لاحظنا على جنبات المدينة القديمة وجود خمسة أشياء:

- محطة القطار التي تتكون من ست خيام حيث يصل خط السكة الحديد الأكثر حداثة الذي يربط الخليج العربي بالرياض وقد أدى وجود هذا القطار إلى انخفاض مصاريف النقل بنسبة عشرة في المائة عما كانت عليه في سنة 1950م.

- ملعب الخيل الذي كان يوجد على الأرض الطبيعية لكنه يتميز بوجود مسجد يؤدي فيه المتسابقون الصلاة قبل أو خلال أو بعد السباق، وذلك حسب وقت السباق.

- باب من القصدير المتموج يؤدي إلى ساحة مسورة، إنه سجن الكلاب الضالة. ولم تكن الرياض مستثناة من هذا، إلى أن قرر الملك التخلص منها. وبما أن ميدور حيوان غير أصلي، فإنهم كانوا لا يقتلونه. بل كانوا يتركونه في معزله الخاص بالذكور وآخر خاص بالإناث. يقدمون لهم الأكل في انتظار أن ينقرض بهذه الطريقة. وهذا مشروع في طريق الإنجاز. لقد اقتحمنا الباب فوجدنا أنفسنا أمام نحو سبعمائة كلب من الذكور محجوزين في سجن على مساحة نصف هكتار. إنها كلاب شرسة، لونها لون الحليب بالقهوة، متوسطة القامة، وملتوية الذيل، متذمرة، متضايقة، إلخ. كان مشهد هذه الكلاب ذات العيون الموجهة إلينا، والأذان (المسمطة) أو الواقفة، يدعو إلى الشفقة. لكن المكان كان نظيفا والكلاب تتلقى العلاج جيدا، وكان نباحها يرد على نباح إخوتها الموجودة خارج السجن.

- وفي النهاية مررنا بجانب المقبرة الملكية. إنها ذات مظهر تقشفي خالص، فلا توجد إلا بعض الحجارة للدلالة على وجود القبر، وكانت القبور قبل هذا الوقت تحاط بسور قصير لحمايتها من عوامل التعرية.

تنقسم مدينة الرياض إلى ثلاث ظواهر متميزة؛ فمن جهة هي المدينة القديمة التي تقطنها أغلبية السكان، ومن جهة أخرى فيها كثير من القصور وبها مساكن الخدم. وأخيرا العرصات الصغيرة التي يسكنها المهاجرون إلى المدينة وهم يسكنون الخيام السود التي أصبحت تتطور باستمرار نحو البناء باللبن.

أما الطرق المؤدية إلى المدينة العتيقة فهي مسفلتة، وفي كل ملتقى الطرق كنا نشاهد أحد رجال الشرطة ينظم مرور السيارات، وهو يقوم بمهمته بكل هدوء. وبعد ذلك دخلنا متاهة من الأزقة التي كانت تلف بنا بين منازل مكعبة الشكل والمبنية من الطين. كنا نجد دائما بابين مغلقين باستمرار يفصلان بين الحائطين العاليين ومن دون نوافذ. واحد في المائة من هذه المنازل يعلق على بابه علما صغيرا فوق سارية أو عمود. وهذا يدل على وجود منزل المكلف بالسهر على تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أحيانا تؤدي بك هذه الأزقة إلى بعض الأماكن التي تظهر عليها علامة السوق. لكنها في جهات أخرى تدل على مناطق كانت بها قصور قبل أن تتحول منها، فالإدارة اتسعت بسرعة فحولت مبانيها من هذه المنطقة. وفي جهات أخرى كانت هذه الأماكن المتسعة تستخدم لانعقاد الأسواق التي يكثر فيها الصخب والأخذ والرد.

إن الدخول بالسيارة من هذه القنوات الضيقة يؤدي بك إلى الاحتكاك المشبوه بالنساء المتحجبات، وبالأطفال الثائرين، وبالجمال والحمير ذات اللون القريب من لون الحناء. وتبدأ المغامرة عندما نلتقي بشاحنة أو بسيارة عريضة.

كان بيت فيلبي عبارة عن مجموعة غرف صغيرة وفيه سلم يؤدي إلى السطح. والحيطان مزخرفة بطلاء بسيط على شكل فوانيس وزهور وبعض الرسوم الهندسية. لم يكن في البيت لا كراسي ولا طاولة. فقد كان فيلبي يستقبل ويأكل ويعمل وينام على السجاد، أي في الإطار الذي اختاره لنفسه والذي يفضله، وهو الأسلوب العربي.

كنا نحن الستة نحيط بمائدة عليها خروف لذيد مطروح على الأرض. كان معنا الطبيب الألماني الذي سيغادر البلد غدا في الطائرة متوجها إلى ألمانيا بحثا عن الدواء، وكذلك أحد الطيارين الإنجليز المتقاعدين. كان موضوع حديثنا يدور حول تاريخ مغادرتنا الرياض؛ إذ لا يمكن لأوروبي أن يدخل الرياض أو يغادرها إلا بإذن شخصي من الملك.

وفي صباح ما بينما أنا غارق في (العفش) إلى عنقي أخبروني بزيارة أحد الأعراب. إنه أحد أبناء الشيخ يحيى بن نسيب الذي عالجته في نجران. جاء يبحث عني بناء على أمر من أبيه وقد رجع حاملا شكرا موجها إلى زميلي الذي يحمل شهادة في الطب.

لقد أطلقنا سراح الرجال الأربعة عشر الذين رافقونا في هذه الرحلة جميعهم عربا وأفارقة، لقد كانوا مستقيمين وفاعلين ومطيعين. سيعودون قريبا إلى مكة مسقط رأسهم، محملين بزاد مهم وبذكريات لا تنسى. وإذا كانت أسماؤنا ستذكر على شفاههم، فليعلموا أن صورة هؤلاء الأصدقاء الأوفياء ستظل كذلك محفورة في قلوب رفقائهم الأوروبيين.

توزع الكهرباء في الرياض بالمجان، لكن لا يستفيد من هذه الشبكة إلا الذين يصدر في حقهم أمر بهذا. وكان ولي العهد هو الذي يتولى توزيع الكهرباء. وكان قصره الذي يبعد ثلاثة كيلومترات عن الرياض عبارة عن معرض عالمي، حيث إن الواجهات والنوافذ والحدائق والمسجد كانت كلها عبارة عن إكليل من مصابيح الأنوار التي تتلألأ في نسيم الصحراء.

وكما جرت العادة، فقد قمنا بكثير من الزيارات لإخوة وأبناء الملك، من دون أن ننسى الوزراء والموظفين السامين.

لقد دعانا الأمير سعود الذي كان يتحمل قسما مهما من مسؤوليات والده إلى حضور حفل في إحدى حدائق قصره.

كان الطريق المؤدي إلى مكان الحفل داخل القصر يمر فوق جسر مصبوغ باللون الأصفر ينتهي على حدود الحديقة التي تنتشر بها الورود والزهور وجميع أنواع النباتات ذات الألوان الزاهية والروائح الزكية. أما القصر الذي كان على طابقين فقد كان مطليا باللون البنفسجي.

كان الأمير سعود الذي يشبه أباه في البنية القوية ذا شفتين ملتحمتين تحيط بهما لحية قصيرة وشارب أسود. لقد استقبلنا بترحاب كبير على ضفة المسبح، حيث كانت بعض طيور الببغاء معلقة في أقفاصها الفضية.

كان الجميع يجلس حول طاولة منصوبة فوق بساط من العشب الأخضر، وكان قسم كبير من الأكل مستوردا من أميركا أو من لبنان. كان يحيط بنا أربعون من الخدم ببدلاتهم البيضاء وحزامهم الأحمر وهم يتحركون بأوامر من رئيسهم الذي تعاقدوا معه من نيويورك. وعند غروب الشمس توجه الجميع للصلاة متوجهين نحو مكة. وبعد قليل سيشرع مهرجان الأنوار في عقد مؤتمره مع القمر الذي بدأ ينمو في الأفق.

وهكذا بدأت المملكة العربية السعودية تستبدل تقنية جديدة بالتقنية القديمة. فقد عوضت المحركات السواني التقليدية، والسيارة الجمل، والقصور الخيام، والكهرباء الاستنارة بضوء النار. وقد أصبح الناس مذهولين بهذا السيل من التسهيلات التي أصبحت تنهال عليهم، بينما يراهن بعضهم الآخر على المستقبل المجهول. إن قضية الماء في الرياض هي رمز هذا المستقبل المجهول الذي قد يعتمد على سائل تحت الأرض آخر غير الماء. فقد كانت توجد بئران أو ثلاث آبار توزع على جميع سكان الرياض. وكل قصر من القصور العشرة تقريبا يسقي منها حدائقه ويملأ مسابحه ليل نهار. وكانت بقعة المياه الجوفية قد بدأت تتناقص بشكل خطير. وكلهم يعرفون هذا، لكنهم لا يهتمون به إلا قليلا. إن مستقبل العاصمة في الميزان. فمدينة أمراء الصحراء المشوقة والغريبة مدعوة لإكمال مسيرة أكبر ملك عربي في الأزمنة المعاصرة، صاحب الجلالة ابن سعود.

في 15 فبراير من سنة 1952 كان فيلبي واقفا وحده في مطار الرياض.

قبل شهور رافقنا، رجلا صارما مع نفسه متسامحا مع غيره. لقد كنا مع أحسن مستكشف للمملكة العربية السعودية في الزمن المعاصر، واليوم نودع فيه صديقا.

وعندما تقلع الطائرة الملكية - طبعا بعد الصلاة - لكل واحد منا أن يعيد قراءة جمل الكاتب سان إكسوبري التي تقول: «لقد تغذينا بسحر الرمال، بينما سيحفر الآخرون آبار البترول.. سيثرون بهذه البضاعة، لكنهم سيكونون قد وصلوا متأخرين؛ ذلك لأن سعف أشجار النخيل الممنوعة، أو المسحوق الأول للمحار ستكون قد قدمت لنا أغلى ما عندها؛ لأنها لا تجود بذلك إلا ساعة واحدة في الحياة، ونحن الذين عشنا هذه الساعة».