حمد بن إبراهيم الحقيل.. شيخ الأدباء وأديب الشيوخ وصاحب الأحكام القضائية اللافتة

المؤرخ والنسابة والشاعر ومرجع التاريخ القضائي في السعودية * الشيخ الراحل عبد العزيز التويجري: أنت جرم كبير هاجر في الفضاء وسار كالمجرة السابحة في حرية مطلقة * في رسالة مؤثرة بعث بها إلى الحقيل قبل 40 عاما

الشيخ حمد بن إبراهيم الحقيل النسابة والمؤرخ شيخ الأدباء وأديب الشيوخ
TT

قبل 20 عاما أطلق علامة الجزيرة الراحل الشيخ حمد الجاسر لقب «شيخ الأدباء وأديب الشيوخ»، وقبله أطلق الأديب واللغوي الراحل يحيى المعلمي لقب «أديب القضاة وقاضي الأدباء» على المؤرخ والنسابة وأشهر قضاة السعودية في العقود الماضية حمد بن إبراهيم الحقيل، وهما لقبان يعبران عن المكانة التي احتلها الشيخ الحقيل وحضوره اللافت في القضاء وفي المشهد الأدبي، بل وفي خارطة الثقافة السعودية المعاصرة بشكل عام.. وعلى الرغم من هذا الحضور اللافت للشيخ الحقيل، أو «سلطان الذاكرة» كما سماه الدكتور عبد الله بن إبراهيم العسكر أستاذ التاريخ بجامعة الملك سعود، فإن حظه من تناول النقاد لأعماله، ومحطات حياته، وتجربته في القضاء، والتأليف، والوظائف والأعمال التي تقلدها، وصالونه الأدبي، وشعره الفصيح والنبطي.. لم يكن على مستوى ذلك.

ونجح صلاح بن إبراهيم الزامل، الإعلامي والمختص في كتابة السير والتراجم والدراسات الإعلامية وصاحب المؤلفات الستة، في رصد سيرة المؤرخ والنسابة حمد بن إبراهيم الحقيل التي ضمنها كتابا عنونه بـ«شيخ الأدباء وأديب الشيوخ».

بداية، يوضح الدكتور عبد الله العسكر أستاذ التاريخ في جامعة الملك سعود، أن الشيخ حمد استوعب علم النسب في سن مبكرة، وكانت حدة ذكائه وقوة حفظه المعينين اللذين أمداه بشذرات النسب الواردة في كتابه «كنز الأنساب»، وهو من أشهر كتبه، مضيفا أن المعين العلمي الذي أثر في تكوين الشيخ الحقيل هو تقلده وظائف دينية في سن مبكرة وتعيينه قاضيا في بلدة الخرمة قبل 62 عاما، وقد صقلت السنوات الأربع التي قضاها في هذا العمل حصيلته من معرفة البادية، وزادت حصيلته من الشعر الشعبي، كما تدرج في سلك القضاء قاضيا في ضرماء والمزاحمية ثم الخرج إلى أن تقاعد قبل 43 عاما وتفرغ للتأليف وإعادة نشر بعض مؤلفاته السابقة.

وشدد العسكر في تقديمه للكتاب على أن الشيخ حمد الحقيل عمل في البادية والحاضرة وصادف من القضايا المختلفات ما جعله ينأى عن إصدار حكم، بل اختار تصالح الفريقين، وهو توجه يصلح للبادية أكثر، على أنه اختيار فقهي معروف في المدرسة الحنبلية.

ووقف العسكر عند محطتين في حياة الشيخ حمد؛ الأولى صالونه الأدبي الذي أمه الجمع الغفير من علماء البلاد ومثقفيهم. هذا الصالون كان أول صالون من جنسه في الرياض. ويستقبل فيه أصدقاء، ومثقفين كُثر بعد صلاة العصر من كل يوم في منزله بحي المربع، وقد استمر لسنوات طويلة، وكان صالونه مدرسة، اختلف إليه علماء من داخل السعودية ومن خارجها. على أن علاقة الشيخ حمد لم تقتصر بعلماء الرياض الذين يرتادون صالونه، بل تعدتها إلى علماء التقى بهم في لبنان ومصر، وهو اعتاد أن يقضي بعض الوقت من كل عام في تلك البلاد. والثانية مؤلفاته اللافتة التي استوحى موادها من ذاكرته الواسعة، مما جعل البعض يطلق عليه لقب «سلطان الذاكرة».

ويتحدث المؤلف الزامل عن ميلاد ونسب وتعليم الحقيل ومشايخه والوظائف والأعمال التي تولاها، وماذا قال عنه الأدباء ومحبوه، موردا مؤلفاته وإنتاجه الفكري، ودراسة فنية لبعض شعره، ملحقا كتابه بوثائق ورسائل من ملوك وأمراء الدولة السعودية إليه في مناسبات مختلفة. أنجز الشيخ حمد الحقيل خمسة مؤلفات هي: «زهر الأدب في معرفة أنساب ومفاخر العرب»، و«عبد العزيز في التاريخ»، و«صيد القلم»، و«الوحشيات والأوابد»، و«كنز الأنساب».

شهدت مدينة المجمعة (200 كيلو متر) شمال غربي الرياض ولادة الشيخ حمد بن إبراهيم الحقيل عام 1883هـ وكانت أولى المهام والوظائف التي تسلمها هي إمامة قصر الإمارة في المجمعة وعمره آنذاك 15 عاما، وقد وضع أول قدم له في شواطئ الأدب ولا يزال أمامه البحر وعبواته، وكان قد قضى سنواته الماضية كلها في التعليم ومرافقة والده وأعمامه خلال رحلتهم التجارية في الأحساء، كما أخذ العلم من المسجد الحرام، وهذا مؤشر على بوادر النبوغ والذكاء لديه أهلته لتولي هذا المنصب وهو في هذه السن الصغيرة، وظهور شخصيته القيادية ولا يزال يافعا، وقد استمر في هذا العمل أربعة عشر عاما ولم ينقطع عن طلب العلم وتثقيف نفسه من خلال الاطلاع الحر في تخصصه العلم الشرعي، وقراءة دواوين الأدب القديمة في زمن شحيح جدا، حيث يضطر طالب العلم أو المحب للقراءة إلى النسخ بيده ويستغرق ذلك أياما بل أسابيع، إذا كان الكتاب مطولا.

وفي تعريفه للشيخ الحقيل ونقلا عن بعض تلاميذه في الخرمة التي تولى القضاء بها قبل 62 عاما لمدة 4 سنوات، يقول الناشر المعروف علي السيد صبح المدني صاحب مطبعة «المدني» المصرية: «حدث بعض طلاب الشيخ أنه كان يقرأ عليه (البداية والنهاية) في الخرمة يوم كان قاضيا لها فسمع من مقرئه أن الشاعر (سلما الخاسر) سمي بذلك لأنه اشترى ديوان امرئ القيس بكتاب الله. وفي اليوم نفسه دخل عليه ابنه الصغير عبد الكريم وكان عنده سيارة صغيرة يلعب بها فاستبدلها بمصحف وهو فرح مسرور. يقول الشيخ حمد: استبدلناها بكتاب الله الكريم، فسماه (عبد الكريم الرابح) لأنه ضحى بلعبته في سبيل الحصول على كتاب الله تشجيعا له، وهذا يعد لفتة تربوية مؤثرة من الشيخ للابن».

لم ينقض له صك

* وقدم العلامة الراحل الشيخ ابن عبد الله بن حميد رئيس المجلس الأعلى للقضاء، رئيس المجمع الفقهي بالرابطة وعضو هيئة كبار العلماء في السعودية، شهادة تؤكد على تميز الشيخ الحقيل وأفضليته وكفاءته في القضاء، حيث قال العلامة ابن حميد أمام جمع من الناس وفيه علية القوم وكان الحديث يدور عن القضاء والقضاة إن الشيخ حمد لم ينتقض له صك أصدره في جميع الأماكن التي قضى فيها أو انتدب إليها.

وهذه الشهادة تؤكد أن الشيخ حمد سديد في أحكامه التي يصدرها، فلم تكن ثمة ثغرات أو منافذ ينتقض بها الصك، بل هو محكم تمام الإحكام لا يستطيع أي شخص لديه الإلمام بالقضاء والأحكام أن يجد ولو مدخلا واحدا لأحكام الشيخ الحقيل في قضاياه كلها، فقد وهبه الله الفطنة، وحدة الذكاء، وحضور البديهة، وحسن التخلص، والفراسة، والقوة في إصدار الحكم، وعدم مجاملة أي شخص كائنا من كان، وكان الشيخ يقول للخصمين دائما: «إذا لم يرضكما الحكم أحلتكما إلى هيئة التمييز، وهذا من حقكما، فالمهم هو الوصول إلى الحق وإصابته سواء عندي أو عند غيري؛ فغايتي وهدفي هو إيصال الحق».

واتصف الشيخ حمد الحقيل بالحكمة في تصرفاته القضائية والإصلاحية بين الناس، واتضح ذلك من القصة التي أوردها المؤلف على لسان الشيخ بقوله: «إنه طرق عليه الباب شخص في منزله الذي يسكنه في إحدى المناطق التي عين فيها قاضيا، (ففتحت الباب، وإذا الرجل مع سلاح وسكين، وقال لي: إن أختي زوجها أخي الشقيق الصغير من دون علمي وإذني، فما رأيك يا شيخ من أقتل أخي، أو الزوج أو المأذون؟ فطمأنته وقلت له: لا تقتل أحدا منهم أبدا، أنت سوف تعقد لأختك وأنت الولي وأنت لك القدر والاحترام والكرامة. فأرسلنا خطابا إلى الرجل ومعه شاهدان، فأتى الزوج وكان في بلدة أخرى إلى منزلي، وقلت له: الآن اعقد لهذا الرجل زوجا لأختك، فعقد لهما بأن حصل الإيجاب منه والقبول من الزوج، والزوجة وهي راضية من قبل)، وهذه القصة تدل على حكمة الشيخ وحنكته ودهائه، حيث أوجد هذا الحل، وقد يكون سهلا، حيث منع هذا الحل سفك دم أبرياء لا ذنب لهم. وبهذه العقلية النادرة والحصيفة، استطاع أن يصلح بين الناس وأن يوحد كلمة أهل البلاد التي قضى فيها وأن يسخر جهودهم في نفع وطنهم».

ولم يكن الشيخ الراحل راغبا في القضاء من قبل، وقد حاول منذ صدور الأمر الملكي بتعيينه قاضيا أن يتخلص لكنه لم يستطع، وبعث برسالة إلى نائب الملك آنذاك قبل 62 عاما يطلب النقل من هذه المنطقة أو الاستقالة، لكن القيادة لم تقبل استقالته لعلمهم بكفاءة وقدرة الشيخ القضائية، وقد أشاد نائب الملك (الأمير فيصل آنذاك) بالشيخ حمد في ما بعد من خلال رسالة جوابية جاء فيها أن: «الحالة لا تخفى عليكم من جهة عدم وجود أشخاص أكفاء يعتمد عليهم في أشغال مراكز القضاء، ولهذا، فإنه من غير الممكن إجابة طلبكم في الوقت الحاضر»، لكن طلبه للنقل قد تحقق في ضرماء القريبة من العاصمة الرياض.

واشتهر الحقيل بقضاياه السديدة وآرائه الموفقة. ونظرا لثقة رئيس القضاة الشيخ محمد بن إبراهيم في كفاءته، انتدبه إلى منطقة الأحساء في أواخر الخمسينات الميلادية لإنهاء قضايا متأخرة ومتراكمة من قضاة سابقين لم يبتوا فيها، فتوجه إلى هناك وفوجئ بقضايا كثيرة ومتنوعة وأنجزها جميعا، ولعل أبرزها قضية مفادها أن شخصا ركب مع شخص في سيارته وقد تبرع هذا الشخص بإيصاله من دون مقابل للمكان الذي يريده، وفي أثناء سيرهم قام الراكب بفتح باب السيارة وخرج منها وارتطم بالأرض وتوفي، فطالب أولياء المتوفى بالدية، وظلت هذه القضية دون حكم من المحكمة، فدرس الحقيل القضية وقرر عدم دفع السائق دية المتوفى، كما برزت قضية أخرى بت فيها الشيخ كانت حديث الناس في وقته عندما قام الشيخ بإقناع إحدى الأسر في الخرج التي تولى القضاء فيها بقبولهم الدية من دون قصاص.

وتعدت مهام الشيخ ما يجري داخل دائرة المحكمة؛ بل كانت اهتماماته تتعداها؛ فقد كانت هموم المنطقة وما تحتاجه من خدمات متنوعة وإرساء بنيتها التحتية ضمن همومه، وهذا الهاجس لازمه في كل المناطق التي عين قاضيا فيها.

ونقف عند رسالة بعث بها الملك فيصل (الأمير فيصل آنذاك عندما كان نائبا للملك عبد العزيز في الحجاز) إلى الشيخ حمد عندما كان قاضيا في الخرمة حيث كان قضاء وإمارة الخرمة تابعا لقضاء وإمارة مكة المكرمة وهي رسالة جوابية من الملك فيصل ردا على رسالة أرسل بها الشيخ له وتتضمن نصيحة خالصة رأى الشيخ أنه من الواجب عليه أن يبعثها خاصة أنه في مكان قضائي حساس، وقد رد عليه الملك فيصل برسالة أبدى فيها قبوله للنصيحة والموعظة بروح طيبة، وجاء في نص الرسالة:

«حضرة الفاضل الشيخ حمد بن إبراهيم الحقيل - حفظه الله - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

وبعد، فقد اطلعنا على كتابكم المؤرخ في 15 رمضان 1369هـ، فألفيناه حافلا بالنصائح الثمينة، والموعظة الطيبة، ولا شك أن تزويدكم بهذه النصائح وتذكيركم بهذه المواعظ دليل على حسن إخلاصكم لنا، فنشكركم على ذلك، ونسأل الله أن يوفقنا للاقتفاء بآثار السلف الصالح، وأن يعيننا وإياكم على طاعته، ويوفقنا جميعا لما فيه رضاه، والاهتمام فيما يجدي فيه الاهتمام».

ولا شك في أن الرسالة التي تفوح شكرا وعظيم تقدير ومحبة لرسالة الشيخ تدل على أن قادة السعودية يجلون المخلصين من أبناء الوطن وهذه الرسالة شهادة على حضور الشيخ ومكانته.

ويوضح المؤلف الزامل أن كتاب «زهر الأدب» يعد أول مصنف للشيخ حمد الحقيل وصدر قبل 47 عاما وهو باكورة الإنتاج الفكري له، وكان إذ ذاك رئيس محكمة الخرج وطبعه في مصر.

أما كتاب «عبد العزيز في التاريخ»، فقد صدر قبل 34 عاما وطبع في بيروت وتلته عدة طبعات كان آخرها قبل 21 عاما. وجاء في تعريف الكتاب أن الشيخ حمد ولد سنة 1338هـ ولم تتوحد المملكة بل لم يضم الحجاز وحائل إلى حكم الملك عبد العزيز، مما يعني أن الحقيل ولد ومسيرة التوحيد للبلاد لم يمض عليها سوى تسع عشرة سنة فقط.

لقد عاش الحقيل وعاصر الملك عبد العزيز حتى وفاته مدة 35 سنة، ولا ريب أنها مدة كافية ليعرف عن هذه الشخصية الكبيرة الشيء الكثير؛ إذ إن الشيخ تولى عدة مناصب في عهد الملك المؤسس.

وحتى لو فرضنا أنه لم ير الملك عبد العزيز ولم يسمعه، فإن شيخنا بالتأكيد رأى وسمع جلساءه والذين عملوا معه بالديوان الملكي وأخذ عنهم، لذلك تكونت عند شيخنا حصيلة معلوماتية عن شخصية الملك عبد العزيز - رحمه الله - انطلق من خلالها ليكتب عن هذه الشخصية الفذة التي صنعت التاريخ في الجزيرة العربية وأوجدت كيانا ودولة في هذه الجزيرة العربية ولفتت أنظار الشرق والغرب إلى هذا الحدث الكبير في هذه الجزيرة، وذهبت أقلام هؤلاء، من غير المسلمين خصوصا، إلى أن تدون وتحبر عن هذه الشخصية وتأتي وتزور المملكة، فجاءت مؤلفات؛ منها ما ترجم إلى العربية، والباقي لم يترجم حتى الآن. استهل الشيخ الحقيل مؤلفه هذا بمقدمة وجيزة قال فيها: «وبعد، فهذه جوانب من حياة بطل بدأت في تدوينه وأنا أعلم أن كتابة التاريخ من أشق الأمور وأصعبها لأن المؤرخ مهما بلغ من الدراية والرواية لا ينجو من التأثر بمحيطه وينازعه عاملا السخط والرضا، ومن الصعب أن يلم بسيرة رجل كعبد العزيز امتد حكمه وكفاحه خمسين عاما وأكثر». وقد برر كتابته لتاريخ عبد العزيز مع أن كتابه لا يحيط بكل جوانب تاريخ ومسيرة هذا الرجل العظيم، قائلا: «ولكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، والكاتب يكتب ما استطاع وما استحسن، وبعده يأتي من يكمل، وكم ترك الأول للآخر»، ثم إن شيخنا حمد ألزم نفسه في تدوينه سيرة هذا القائد الكبير أن يتجرد من الهوى وأن يدرس عمله هذا بإخلاص، ثم ختم شيخنا مقدمته هذه آملا «من القراء المنصفين والجهابذة المثقفين أن يتأملوه بعين الأنصاف».

عبقرية ملك

* بحكم موسوعيته وإحاطته بالأدب العربي وفنونه والتراث وأقسامه، أحب أن يستطرد في شيء من هذا الأدب من قصص وحكم وعبر ومدائح وأشعار وقصائد مفيدة للقارئ خاصة في الفصول التي عقدها مثل «من غرائب الملوك ونوادرهم»، و«حكم تليق بالمقام» و«قصة المعتمد بن عباد» وما ورد فيها من قصائد وبالذات «الشاعر الداني في رثاء حال المعتمد».

بدأ المؤلف الحقيل يرسم صفات الملك عبد العزيز الخَلقية والخُلقية قائلا: «كان - رحمه الله - مفتول الساعد شديد العصب قوي القلب متناسق الأعضاء أسمر اللون ذا لحية مستديرة»، ثم قال معددا صفاته الخُلقية وسجاياه الكثيرة المتعددة: «هو خفيف الروح، حلو النكتة، لطيف التهكم، وحد الجزيرة العربية وجمع أشتاتها، وقد وهبه الله بسطة في الجسم وبسطة في العلم. خاض أكثر من مائة وخمسين معركة، ولما مات وجد على جسمه ثلاث وأربعون ندبة وأثر جرح». ونقل مقالة للملك عبد العزيز تدل على عبقرية هذا الرجل، وفيها يقول: «لما كنت على شيء من الضعف كنت أكثر ما أكون جراءة، وعرفت أنني أصبحت الأقوى، شعرت أنني أكثر أناءة وحكمة».

تطرق الحقيل إلى أبرز صفة في الملك عبد العزيز وهي صفة العدل، مدللا على ذلك قائلا: «كان يقتص من المجرم ولو كان أقرب قريب، وكثيرا ما كان يتلو الحديث المأثور عن سيد البشر صلى الله عليه وسلم: (لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها). وكان استتباب الأمن مظهرا من مظاهر العدل والحكم الشديد، فقد يسير المسافر عشرات الأميال ومعه الذهب ولا يخشى إلا الله عز وجل، وإذا حكم الشرع بقصاص، فإن ساحة الإعدام رهيبة جدا».

ثم يدعو إلى التأمل وتحليل شخصية الملك عبد العزيز قائلا: «حياة عبد العزيز تدعو إلى الإكبار كما تدعو إلى الاقتداء، وكيف لا تكبر الإرادة القوية في الرجل القوي الذي لا يعبأ بالحياة وصعابها؟ وكيف لا تكبر وهي من المثل العليا في القدرة على الدأب وراء الغايات في غير سآمة لا فتور ولا ملل وفي إدراك المرء واجبه نحو ربه ثم نفسه وشعبه ثم في القيام بها على خير مثال؟ أما عن الإكبار فحسبكم الجهود العظيمة التي بذلها صاحبها في بناء نفسه وشق طريقه وسط محيطات مدلهمة وأجواء قاتمة وخصاصة وعوز وفقر وحاجة احتمل فيها من الأعباء كل ثقيل وعسير حتى نال اسما عظيما وجاها عريضا ومجدا باذخا».

في الفصل الذي عنون له الحقيل بـ«ملك فعال خير من ملك قوال»، يورد في هذا الفصل موقفا من مواقف «الملك عبد العزيز التي تحسب لهذا الملك الذي إذا قال فعل، وهي أن جمال باشا أحد ولاة الأتراك في بغداد كان يتظاهر بالصداقة والمودة للملك عبد العزيز، فأرسل الملك عبد العزيز مندوبه أحمد بن ثنيان، وعندما وصل ابن ثنيان وجد الجو قد تغير وسمع كلاما لا جمال فيه من جمال ولا حكمة؛ قال جمال مخاطبا المندوب السعودي: (ابن سعود غره أن صفح عنه فيضي باشا، فإذا كان لا يقبل بما تطلبه الحكومة فإن في إمكاني أن أخترق بلاد نجد من الشمال إلى الجنوب بطابورين لا غير). عاد المندوب يحمل هذا الكلام إلى عبد العزيز، فكتب إلى جمال باشا كتابا فيه هذه الكلمة: (قلتم إنكم تستطيعون بطابورين أن تخترقوا بلاد نجد من الشمال إلى الجنوب، ونجيبكم بأنا سنقصر لكم الطريق، وذلك قريب إن شاء الله».

نقل الحقيل بعضا من أحاديث الملك عبد العزيز العامة في مجلسه الذي يؤمه كثيرون من علية القوم وغيرهم، التي تنم عن إلمام الملك عبد العزيز بعادات وتقاليد الأمم الغربية والشعوب الأوروبية التي تخالف النهج الإسلامي والسلوك القويم والعادات الكريمة الفاضلة، قائلا: «كان - رحمه الله - كثير النقد للخلق الأوروبية وضعفها، لما في نظام حياتهم من كثرة العلاقات الجنسية غير الشريفة والفاحشة العلنية»، كما ذهب المؤلف في هذا الفصل أيضا إلى سلوك الملك عبد العزيز في أثناء حروبه إبان توحيد المملكة وحرصه الدائم على سلامة وأمن جنوده والعاملين معه، قائلا: «كان رحمه الله يحمل ناظورا كبيرا، فهو دائما يراقب من مجلسه حركات الجند والخدم، حتى إنه لا تمر غيمة في الأفق إلا رفع إليها الناظور مستثبتا متيقنا. ويقول: علينا الكبيرة والصغيرة، إذا كنا لا نداوم المراقبة لا نكون عالمين بكل ما يتعلق بشؤوننا.. وكان مرة يراقب قافلة أناخت عند خيمة المؤونة حاملة الخضرة والماء من الأحساء فأمر أن يحضر قيما، فلما حضر سأله عن جمل من الجمال فقال القيم: (هو حرون يا طويل العمر)، فقال عبد العزيز: (اتركه يرعى مع الإبل لا ترجعه معك). وعلق الحقيل على هذه القصة قائلا: «من لا ينصف بعيره لا ينصف الناس، مهما قيل في عبد العزيز فهو رجل كبير القلب والنفس والوجدان، عربي تجسمت فيه فضائل العرب إلى حد يندر في غير الملوك الذين زينت آثارهم بشعرنا وتاريخنا».

تحدث المؤلف عن مشروع الملك عبد العزيز الكبير وهو توطين البادية الذي له الفضل بعد الله عز وجل في استقرار البادية، بعد حياة مليئة بالاضطرابات، لذلك كان هذا المشروع يهدف إلى دمج البادية في الحاضرة لأجل استفادتهم من الوسائل المتاحة في ذلك الوقت.

ويضيف أن عمله في تحضير البوادي وتأسيس الهجر خطوة كبرى في تمدنهم وتعلمهم، وعلى أثر ذلك، فتحت المدارس ونقلتهم من الجهل إلى العلم، ومن الظلمات إلى النور، مشيرا إلى أن «في إخواننا من البوادي روح القتال؛ بل فوق ذلك الشجاعة.. شجاعة لا تعرف الخوف ولا تهاب الموت، وقد تقلدوا يوم تحضيرهم سيفين؛ سيف الدين، وسيف الثبات.. قال عنهم الملك عبد العزيز: (يجيؤونا في السلم، فنعطيهم كل ما يحتاجون من كسوة ورزق)، قال: (ولكنهم في أيام الحرب لا يطلبون شيئا منا)».

وقد عدد الحقيل أسماء الهجر التي استقر بها «الإخوان» وذكر 52 هجرة، ثم ختم كتابه هذا بقصيدتي الشاعرين محمد بن عثيمين والشاعر الأديب بولس سلامة في ملحمة عيد الرياض، كما قام بشرح قصيدة الشاعر الشهير محمد بن عثيمين شرحا وافيا، وأماط اللثام عن هذه القصيدة العصماء النونية.

جرم هاجر في الفضاء

* احتل الحقيل مكانة بارزة في كثير من المؤلفات، التي وصفته بأنه أحد الأدباء.. العلماء.. الرواة الثقاة، وهناك كثير.. ولكن قبل ترك الكتاب والمؤلفين، لا نترك تلك الرسالة الخاصة.. الشاملة.. المؤثرة التي أرسلها إلى الشيخ حمد المؤلف الكبير الراحل الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري التي سجلها في كتابه «الإنسان رسالة وقارئ - الجزء الثاني من كتاب (رسائل خفت عليها الضياع)» التي نوردها كاملة لشمولها وأهميتها، وكثرة ما جاء فيها:

«إلى أخي، إلى صديقي، إلى شيخنا حمد:

أبعث برسالتي هذه محييا أجمل تحية، ومسائلا أين مكانك يا شيخ؟

أين زمانك معنا؟ كل شيء لدينا فراغ، أنت جرم كبير، هاجر في فضاء الله الواسع وسار كالمجرة السابحة في حرية مطلقة، في كون هو الآخر، لا يصل إليه إلا من تحرك في اتجاه الحرية والأفضل، وأراد الانعتاق من قيود المادة والركود والعوز النفسي والخلقي والدمار الروحي..

يا عزيزي:

إذا استطاع الخارجي أن يخرج على نظام الجماعة.. إذا استطاع المعتزل أن يخرج في عزلته على شيخه، فإني، وإن هجرتني، لا أستطيع الخروج عليك ولا أستطيع أن أعتزل وأتحرر من جاذبيتك، أبدا يا عزيزي، كما لا يستطيع تلاميذك الدائرون في فلكك أن يتحرروا من سلطانك عليهم. هل من أمل، يا عزيزي في أن تهبط إلى مياهنا فنراك؛ أم ماذا؟ غريب أنت يا شيخ وغرابتك صدعت قلبي وفهمي، وخلقت عندي عقدة نفسية لا محلل لها، وإن تجمعت لفك عقدتها كثير من المدارس النفسية. أراني محتاجا إلى أن أدنو منك، ولو قليلا على وجه هذه الرسالة، فإذا خططت لك بمشاعري ورقة شعوري فاخفض لي جناحك العاتي ولا تحلق عني بعيدا كجناح العقاب الغاضب. ولعلك، وأنت أستاذنا، تعرف شيئا عن طبائع العقاب، كما تعلم أنه أقوى الطيور وأشدها فتكا وحسدا وبطشا، حاول هواة الصيد في كل عصر، في كل زمان ومكان، أن يدربوه على التسامح، وعلى أن يكون مطيعا لأوامرهم، يوجهونه حيث يشاؤون، ويصطادون به ويقنصون، ويذلون كبرياءه، ولكنه غضوب شمخ بأنفه وأبى، فاستعاضوا عنه بالصقور وكلاب الصيد، وظل هو فوق السحاب يمارس طبعه. إذا جاع أشبعته مخالبه، وإذا اغتنى فاق في غناه ذلة المال وذلة التحسر عليه. وأنت فيك من طبع العقاب، أتصورك في عرشك العائلي عقابا رجعت في ذاكرته وفي أعماق نفسه ذكريات الماضي البعيد حرارة الشوق الحر حرث العاطل من الأرض في عالم الأدب. فأنت الابن الأصيل الذي حمل الفؤوس، وبادر في جمع الحطب، وإيقاد النار، ورفع سناها إلى حيث أشرقت بها نفسك وروحك. أنت ابن القوم الذين قال عنهم شيخ المعرة:

الموقدون بنجد نار بادية لا يحضرون وفقد العز في الحضر يا شيخنا:

إذا كانت مطاياك اليوم غير مطايانا، وإذا كانت ركائبك غير ركائبنا، وإذا توجهت بك ركائبك ومطاياك مغربا عنا، فلأن لك عالما وجهته غير وجهتنا، وجهتنا دائما أفقية ووجهتك عمودية، إذا ومض برق وخلنا سحابه، وتخيلنا أنه ممطر لننجع إليه، وجدناك قد بنيت خيامك على أرضه في سباق لا نباريك فيه، وهكذا سارت بنا الحياة معك في أودية نجد ورمال الدهناء، وصحراء امرئ القيس، وكثير عزة، والنابغة الذبياني.. واليوم تزهد فينا زهد الفضيل بن عياض، وتتركنا أيتاما نبكي على جامع شملنا ومعمر مجلسنا الخاص.

أبا عبد الكريم:

هل تسمح لي أن أدعو ربي؟ أعتقد ذلك، أدعوك يا ربي أن تبدد شمل أسفاره في الفضاء، وأن تسقطها في كسوف لا خروج لها منه! دعائي دعاء رجل غاب عنه أعز الناس عليه، وظل ينعي على نفسه فراق صديق أذهلته عنا قاهرة المعز.

ماذا رأيت منا يا صديقي حتى تفعل هذا بنا؟ هل قصرنا في ودنا؟ هل عربدت داخل نفوسنا شطحات الفاسقين بالقيم، والخائنين للود والناكصين على أعقابهم عن الوفاء والمروءة؟ لا أظن ذلك.

إن شمائل العرب التي لا يخزي الله فيها صاحبها، أبدا، مقيمة معنا في وعي جاهر بفضائل الأخلاق. فردد معي يا عزيزي: لبيك نجدا.. لبيك رمال الدهناء.. لبيك جبال اليمامة.. لبيك مرابع صبانا ومدافن موتانا!!، رجع داخل نفسك أصداء الماضي! حرك الراكد داخل هذه النفس، واذكر سهرات الليل مع النجم الطالع والقمر المطل في قريتنا الصغيرة!! لا تدفن نفسك في هزيع الليل، فأنت جحفل لجب لا تساكن نفسك الكبيرة غير أيامنا التي كانت لنا معك، عرج علينا، نحن بدوك، وعرب الصحراء، تعال إلينا، يا أبا عبد الكريم، فأبو الطيب هو الذي قال في رحلاته الطويلة بعد الألم الطويل والمعاناة الشاقة:

أين الذي الهرمان من بنيانه ما قومه، ما يومه، ما المصرع؟

تتخلف الآثار عن أربابها زمنا فيدركها الفناء فتتبع وهو القائل أيضا:

نحن أدرى، وقد سألنا بنجد أقصير طريقنا أم طويل وكثير من السؤال اشتياق وكثير من رده تعليل.

* عزيزي:

لماذا تساءل أبو الطيب؟ ولماذا شكا؟ أظنه متشائما من الحياة، لم تعجبه الصلة، فأراد أن يقول لنفسه البائسة: هذه هي الحياة، هذا مصير الإنسان، سيتحول إلى فناء، وسيتبع الباني بناؤه، وسيذوب الصخر وسيتبدد، ولكن إلى أين؟ شكوى تزحمها شكوك، والحيرة تلازم الإنسان، وهي معي في هذه اللحظة هاجسة في نفسي بأشياء رهيبة، وقلبي مضطرب فزعا، وعقلي يتصدع، ورغاء الحياة وزبدها يخنق نفسي، والتاريخ قائم في تساؤلات أبي الطيب، صفحاته وحروفه أحجار هذا البنيان الشامخ يبصق على وجه الإنسان ويقول له: ليس هكذا تعمر الحياة، وليس هكذا يشاد المجد، وليس هكذا تشقى الإنسانية ليخلد الرعب والخوف والجبرية على الإنسان البائس!!

* يا عزيزي:

لولا ظروف عيشي ومشاغلي لقابلتك برسالة تفرغ فيه نفسي عذابا أليما عاشرته منذ الطفولة، وأسقتنيه الحياة في لبن الرضاع. وكما تعرف أو تتذكر، كيف أنا وكيف أنت، وكيف كنا، وكانت حياتنا وصداقتنا وعلاقاتنا. كيف تربينا، مع من؟ ولماذا وإلى أين؟ ولكنها عروق دفينة في أبعاد النفس لا أستطيع أن أصل إليها إلا بحفر وتنقيب وإسراف في النزول إلى أعماق النفس لأستخلص منها هويتي.. إن علماء الآثار في العالم يدرسون تاريخ الإنسان وطرق حياته وعيشه، ونوع حضارته ومدنيته على ضوء محصلات زهيدة لا أثر لها في رفع الشقاء عنه، أو تذليل صعوبات الحياة في وجهه، وفي تقديري أن الدراسة الصحيحة والسليمة والقادرة على التغيير في حياة الإنسان هي العودة إليه لدراسته دراسة واعية، فإن في أعماقه ترقد الهمجية، وتقيم الضواري والوحوش، وتنعس، في رقاد خفيف، عقارب الذات وحياتها متربصة بالإنسان، في أطوار حياته.. في ثغرات كالتي تأكله اليوم في الوطن العربي!

* يا شيخ:

ليتني شاعر مثلك فأمدحك! وإذا لم أستطع هجوتك! ليتني كاتب مثلك، فأولف كتابا يقرأه الإنسان ليعرف نفسه فيه من خلال نفسك! لأني أراك مجموعة كبرى من المتناقضات التي لو قدر للإنسان أن يغرس قلمه فيها فيعرضها في تحليل علمي دقيق على علماء النفس، لأحرقوا كتبهم وتحليلاتهم لعظماء الرجال، صغارهم وكبارهم، وقالوا: (الجواب فيه وعنده). لاختفى نابليون وهتلر، وموسوليني، ونيتشه وشوبنهاور وهيغل... وإلخ، ووقفوا بالقارئ معك وحدك مع صفاتك مع غضبك، مع رضاك، مع عبوسك، مع ضحكتك العالية، وبسمتك الهامسة في خرير الماء العذب الهادئ.

* يا صديق العمر:

دعني أهذي، فهذياني الطفولي بكاء على نفسي، وعلى ذكرياتي، وعلى عجزي!! وقبل أن أختم كتابي هذا، لك تحياتي ولمن معك، مقيما أو راحلا، ولكل من فهمك ودعاك وقدرك حق قدرك.. واسلم يا شيخ!!

* المخلص عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري 1391هـ /1971م.

- وقد رحل الشيخ حمد الحقيل عن الدنيا قبل 3 سنوات تاركا سفرا خالدا من المؤلفات، وذكريات وقصصا لافتة، أكدت مكانته وعلو منزلته وحضوره في المشهد الثقافي والقضائي.