رشدي ملحس.. دائرة المعارف المتحركة ورائد المخطوطات والمعاجم والموسوعات

عمل مع الملك المؤسس ضمن الكوادر العربية المؤهلة لشغل وظائف الدولة السعودية الناشئة * ابن نابلس الوزير المفوض.. رئيس تحرير وسكرتير ومستشار الملك المؤسس وراصد تاريخ وجغرافية السعودية

رشدي ملحس ابن نابلس الذي خدم في السعودية 33 عاما في وظائف صحافية وسياسية وتعليمية وأنجز عدة مؤلفات في عهدي الملك المؤسس والملك سعود
TT

* الأديب والمحقق والعالم والباحث المتتبع ومدير الشعبة السياسية في عهدي الملك عبد العزيز والملك سعود يعد رشيد ملحس أحد أبرز رجالات الثقافة والسياسة العربية في كل المحطات الكثيرة التي تنقل خلالها بين تركيا والشام، ثم السعودية، وذلك في فترات ذات شأن من تاريخ الوطن، حيث كانت جميع الدول العربية عدا مملكة نجد والحجاز واليمن، تعيش في ظل الاستعمار، وحيث سلطة الانتداب الأجنبي، والحرب العالمية الأولى، والثورة العربية، وحركات الاستقلال العربي وارتفاع نغمة القومية العربية وظهور الجمعيات السرية التي غاياتها السعي إلى استقلال العرب الداخلي.

في هذه الأجواء عاش ملحس، وعبر نشاطات سياسية وصحافية مارسها في إسطنبول ثم الشام، توجه إلى الملك عبد العزيز ودولته الناشئة حيث كانت أنظار العرب تتجه إلى هذه الدولة وملكها المؤسس، وحيث الملاذ الآمن لكل من التحق به، وقد جاؤوه لاجئين هاربين من نير الاستعمار، فأصبحوا مسؤولين رسميين لتسيير الشؤون الإدارية والدبلوماسية في الدولة الجديدة التي كانت تحتاج الكوادر المؤهلة في ظل قدرة الملك عبد العزيز على اختيار الرجال المناسبين لشغل وظائف الدولة؛ إذ عين حافظ وهبة المصري وزيرا مفوضا في لندن، وعين خالد القرقني الليبي مستشارا، كما عين الدملوجي العراقي مستشارا.. أما من بلاد الشام، فإنه عين فؤاد حمزة اللبناني وكيلا للشؤون الخارجية، وعين خير الدين الزركلي وخالد الحكيم السوريين مستشارين، وعين يوسف ياسين رئيسا للشعبة السياسية، وتشير المصادر إلى أن روابط الصداقة التي تربط رشدي بيوسف ياسين الذي كان يرأس تحرير جريدة «أم القرى» في ذلك الحين كانت سببا في دعوته للقدوم إلى مكة المكرمة للإسهام في تحرير جريدة «أم القرى»، في حين يرى أحد الباحثين أن المبالغة في القول بأن يوسف ياسين هو الذي استدعى رشدي ملحس وكلفه رئاسة تحرير «أم القرى»، كما أشارت بعض المصادر، غير مقبولة، إلا إن جاء في إطار تنفيذ يوسف ياسين لرغبة الملك نفسه، خاصة أن «أم القرى» هي اللسان الرسمي للدولة الجديدة، فأهمية الجريدة وتوجه الملك عبد العزيز المعروف للاستفادة من رجالات العرب المبرزين يؤكدان أن الملك عبد العزيز هو الذي استدعى رشدي ملحس.

ونجح المؤرخ والباحث قاسم بن خلف الرويس في كتاب أنجزه مؤخرا وصدر عن «جداول» للنشر والتوزيع في بيروت بعنوان «رشدي ملحس.. من نابلس إلى الرياض»، في تتبع سيرة رشدي طيلة نصف قرن وفي أكثر من موضع من تركيا ثم الشام وأخيرا السعودية، من خلال نشاطاته السياسية والثقافية إلى استقراره في بلاط الملك عبد العزيز مستشارا ورئيسا للشعبة السياسية، مرورا بعمله أمين سر لـ«جمعية العهد العربي» في إسطنبول، ثم إصداره جريدة «الاستقلال العربي» في دمشق، ومن ثم توجهه للحجاز والاستقرار في السعودية ليتولى رئاسة تحرير «أم القرى» وليعمل مستشارا سياسيا في ديوان الملك عبد العزيز، مع الحديث عن ما حققه من ريادة في نشر عدد من المخطوطات وتحقيق دراسات تاريخية وجغرافية وأدبية وغيرها من الدراسات والبحوث والأعمال التي نبشها المؤلف الرويس في هذا الكتاب الذي يعد أحد أهم المراجع لسيرة ملحس وثقافته ومنهجه وآثاره.

من رئيس تحرير إلى وزير من المؤكد أن أول عمل حكومي مارسه رشدي بعد قدومه كان في جريدة «أم القرى» معاونا ليوسف ياسين في الإشراف عليها وتحريرها، في حين تثبت الوثائق الرسمية أن البداية الفعلية لخدماته الحكومية كانت بتاريخ 1 رجب 1346هـ، وقد ظل رشدي يعمل في جريدة «أم القرى» فترة تبينت خلالها قدراته وتجلت فيها جهوده، وهو الأمر الذي تكشفت معه مواهبه وثبتت عليه كفاءته، ولكن من الغريب أنه خلال هذه الفترة لم يظهر اسمه على صفحات الجريدة برفقة أي موضوع رغم مشاركته الفاعلة في تحريرها، وقد يكون لعدم حبه للظهور والشهرة دور في ذلك.

كلف بعد ذلك برئاسة تحرير الجريدة في سنة 1347هـ، ونرجح أن ذلك كان في شهر جمادى الثانية حيث نشر في الصفحة الثالثة من العدد 205 مقالته الأولى في الجريدة تحت عنوان «سوانح تاريخية: 1- الربان النجدي أحمد بن ماجد» تحت توقيع «ابن الصالح» بتاريخ 18 جمادى الثانية 1347هـ/ 30 نوفمبر «تشرين الثاني» 1928م.

ظل رشدي ملحس رئيسا لتحرير جريدة «أم القرى» من 1347هـ إلى سنة 1349هـ. تميزت خلالها الجريدة بنشر البحوث التاريخية القوية والمجددة التي نفخت فيها روح العروبة وروح الإسلام. وكان له النصيب الأكبر في معظم ما نشر من هذه البحوث، ويبرر المؤرخون عدم ظهور اسمه على أكثر ما كتبه في تلك الفترة بأن من عادة بعض رؤساء التحرير أن يكتبوا في جرائدهم أحيانا من دون توقيع، كما أنه جمع بين العمل في رئاسة تحرير جريدة «أم القرى» والعمل مستشارا للملك في الوقت نفسه.

ونظرا لما حققه رشدي من نجاح في إدارة «أم القرى» اكتسب خلالها ثقة الملك عبد العزيز بعد اكتشاف مواهبه وقدراته، فإنه أراد الاستفادة من خبرته في مكان أكثر أهمية وأكثر قربا من الملك هو الشعبة السياسية، فنقل عمله إليها، حيث تعد أحد أقسام ديوان الملك عبد العزيز وكانت تختص بالشؤون السياسية التي كان الملك يباشر العمل فيها بنفسه علاوة على ما كانت تقوم به مديرية الشؤون الخارجية في تلك الفترة، وتمثل هذه الشعبة الجهاز الإداري في الديوان الذي يعني بتنظيم مسائل الشؤون الخارجية التي يتولاها الملك بنفسه، ويرى أحد الباحثين أنها تشكل في الواقع أمانة سر أعمال المستشارين والساعد الأيمن للملك في معظم الأمور. وفي عام 1930م تم تكليف يوسف ياسين بإدارة الشعبة السياسية، كما تم تعيين رشدي معاونا له، وربما كان ذلك بطلب من يوسف ياسين بسبب كثرة أعبائه وأسفاره، حيث إنه كلف بإدارة الشعبة إضافة إلى عمله الأساسي سكرتيرا خاصا للملك.

استمر رشدي في عمله في الشعبة كمعاون لرئيس الشعبة السياسية فترة طويلة أثبت خلالها قدرة وجدارة، وربما وصف خلال هذه الفترة بـ«سكرتير الشعبة السياسية» نظرا للمسؤوليات الإدارية المنوطة به أو بـ«السكرتير الخاص بالملك» بسبب قربه منه وارتباطه به مباشرة، أو «المستشار» لاتصاله معه باستمرار، وربما وصف بـ«مدير الشعبة السياسية» أيضا.

والحقيقة أن العاملين في الشعبة السياسية يؤدون مهام متعددة سواء في الجانب الاستشاري أو الإداري أو الدبلوماسي أو الإشرافي، فلا غرابة في إطلاق هذه الصفات عليه لأنه كان يقوم بها جميعا.

كلف رشدي بعد ذلك برئاسة الشعبة السياسية، حيث تفيدنا المصادر بأنه كان رئيسا للشعبة سنة 1947م، فإذا علمنا أن يوسف ياسين كان رئيس للشعبة يقينا في 6/11/1364هـ، حيث صدر مرسوم ملكي باعتباره وزيرا قائما برئاسة الشعبة السياسية إضافة لأعماله الأخرى، فيمكننا القول إن تعيين رشدي في رئاسة الشعبة كان بين عامي 1365هـ و1366هـ من دون شك.

استمر رشدي بعد ذلك في رئاسة الشعبة لمدة أربع أو خمس سنوات أكد فيها جدارته في الاضطلاع بالمسؤوليات الجسيمة الملقاة على عاتقه، فصدر إنعام ملكي كريم باستحقاقه رتبة وزير مفوض من الدرجة الأولى بصفته رئيسا للشعبة السياسية تقديرا لإخلاصه وتفانيه في خدمة الملك عام 1950م.

وبعد وفاة الملك عبد العزيز عام 1953م ظل رشدي دائب السعي في خدمة الملك سعود محتفظا بمكانه كرئيس للشعبة السياسية حتى وفاته.

وأثناء عمل رشدي في الشعبة السياسية في سنة 1356هـ عهد إليه الملك عبد العزيز بمهمة تربوية تعليمية هي الإشراف على مدرسة الأمراء وهي مدرسة مقرها في قصر الحكم بالرياض مخصصة للأمراء وأتباعهم وبعض أبناء موظفي القصر، وقد فوض إليه الملك كل ما يتعلق بشؤون المدرسة ووجه مديرها وزملاءه بمراجعته، حيث قال لهم عند مقابلته: «كل ما تحتاجون من شأن المدرسة فهذا عندكم رشدي يقضي الأمر»، بل وجههم إلى الاتفاق معه على الطريقة التي يسيرون عليها. وتشير مذكرات العاملين في المدرسة إلى دوره الكبير في الارتقاء بمستوى المدرسة من خلال زياراته وتوجيهاته، بل ومرافقته للملك أو لرجال التعليم والإدارة لتفقد المدرسة والاطلاع على أوضاعها أو قيامه بتنسيق زيارات طلاب المدرسة وأساتذتها لعرض مواهبهم وأنشطتهم أمام الملك أو ولي العهد، كما كان يقوم بإرسال خطب الطلاب وكلماتهم وقصائدهم التي يلقونها إلى جريدة «أم القرى» لنشرها تشجيعا لهم، ولا شك أن إسناد أمر المدرسة إليه يعني الثقة في شخصه وفي علمه وقدراته.

ومن الأمور المرتبطة بالتعليم التي أسندت إليه أيضا متابعة الأمور الخاصة بمراقبة شؤون التعليم في مدارس شركة «أرامكو» بالظهران وذلك سنة 1363هـ.

ولا يفوتنا الإشارة إلى مهمة أخرى لها علاقة بالتعليم وبالثقافة بصفة عامة، حيث كان رشدي يتولى مهمة الإشراف على مكتبة قصر الحكم في الرياض ويهتم بها، وهي مكتبة فخمة، تضم نوادر المخطوطات التي ورثها الملك عبد العزيز عن آبائه، وما أضيف إليها من الكتب في عهد الملك عبد العزيز، حيث زودت بجميع الكتب المطبوعة، كما ذكر الشنقيطي.

ثقافته وأبحاثه ومنهجه

* لا شك أن رشدي ملحس يتكئ على قاعدة معرفية متينة ونضج فكري مبكر تكونا نتيجة الدراسة والقراءة والاطلاع، ولا شك في أن ممارسته الصحافة في وقت مبكر حفزت قدراته على الكتابة المستمرة. كما أن ثقافته لم تكن تقتصر على اللغة العربية وحدها، فنحن على يقين من إتقانه اللغة التركية بسبب دراسته في إسطنبول، ورجوعه في بحوثه إلى المصادر التركية يؤكد استفادته العلمية منها.

كما أن اهتمامه بمؤلفات المستشرقين وبحوثهم يؤكد على سعة أفقه وتحفزه العلمي، فهو رغم محاربته للاستعمار وكراهيته فإن موضوعيته جعلته يقول: «لقد أصبح الاستشراق فرعا مهما من فروع الاختصاص في الغرب، وأضحى علماؤه من الرجال الذين لهم كلمة مسموعة في ميدان الحضارة والسياسة، لا سيما بعد احتكاك الشرق بالغرب، وتوثيق عرى الروابط الأوروبية بينهما، زد على ذلك المصالح التجارية والاستعمارية، وهي بيت القصيد في عالم السياسة العصرية، من أجل ذلك لا تسير في أية مملكة من ممالك الغرب إلا وتجد جمعيات كبيرة غايتها نشر كل ما له صلة بالشرق والشرقيين، وعلماء أفاضل وقفوا حياتهم للبحث والتنقيب بين طيات الكتب ومعالم الآثار التي تظهر ثقافة الأمم الشرقية». ولا بد أن يكون لانفتاحه الثقافي على الحضارات الأخرى دور في تطوير قدراته البحثية وفي تشكيل استقلاله الفكري المميز.

وصف رشدي بأنه أديب جغرافي محقق، وبأنه عالم مؤرخ وكاتب صحافي، وبأنه باحث متتبع.. والحقيقة أنه كان ذلك كله، لأنه كان موسوعي الثقافة واسع المعرفة، حتى إن أحد الباحثين شبهه بـ«دائرة المعارف المتحركة» في حين أنه عرف بالتخصص في تاريخ هذه البلاد قديمه وحديثه، فالقديم منه كان يحلله على ضوء العلم الحديث، والحديث منه كان يرده إلى مقوماته الأولى بعد الفحص والتحليل، كل ذلك في بيان طابعه السهولة والوضوح والانسجام.

إضافة إلى ذلك، فهو صاحب حس وطني عربي إسلامي تجلى في بحوثه منذ بداياته، حيث كان يتحرى التاريخ العربي اللامع لإثارة كوامن النفوس الأبية، فكان كتابه الأول عن إحدى الشخصيات المعاصرة التي قاومت المستعمرين بكل بسالة، ثورة قلمية، ثم عمل على الغوص في بطون الكتب العربية القديمة للبحث عن شخصيات مرموقة من الجزيرة العربية كان لها الفضل في تحقيق بعض المكاسب العلمية، ومن الأمثلة على ذلك ما كتبه ملحس عن الربان النجدي أحمد بن ماجد. وقد جمع ملحس إلى جانب الوطنية نضوج الفكر وسلامة المنهج، فاهتمامه لا ينصب على الشخصية المترجم لها بقدر ما ينصب على تقويم الأثر الذي خلفته هذه الشخصية ومدى أهميته لتاريخ الجزيرة العربية.

اضطلع بعد ذلك، كما يقول أحد الباحثين، ببحوث فريدة إحيائية - لا إنشائية - تتركز في تاريخ وجغرافية الجزيرة العربية، فكان رشدي من أوائل الذين لفتوا الأنظار إلى كثير من الموضوعات العلمية والتاريخية، ولو نشرت كل كتبه الخطية لوجدنا أنه سبق إلى دراسات في التاريخ والجغرافيا جديدة لم تكن بلادنا تعرفها قبله، والحقيقة أن مقالاته وكتبه تظهر أنه كان محققا دقيقا متابعا عارفا بمصادر تاريخ شبه الجزيرة المخطوطة والمطبوعة، كما أن إنتاجه يتسم بالوضوح والنضج والإمتاع مع دقة الملاحظة والاستيعاب، إضافة إلى حسن الترتيب وإجادة التبويب والإخراج، ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن رشدي ملحس كان أبرز من راد البحوث التاريخية خلال عهد الملك عبد العزيز، فهو قد حدد نشاطه العلمي منذ وقت مبكر في ميدان واحد لا يتعداه، مكرسا جهوده في بعث المخطوطات والتعريف بأمهات المصادر العربية القديمة التي تتناول تاريخ الجزيرة العربية أو التي تتحدث عن جغرافيتها ومواضعها ورجالها.. يسير أحد الباحثين إلى ذلك قائلا: «ولا أعلم الأثر الذي خلفه رشدي ملحس على بعض الكتاب المحليين الذين عنوا في ما بعد ببعث التراث والنواحي التاريخية، ولكن المؤكد أن ملحس كان أول المهتمين بمثل هذه البحوث، وقد خلفه في هذا المضمار محمد سعيد عبد المقصود وعبد القدوس الأنصاري وحمد الجاسر».

محاور منهجه العلمي

* اعتمد رشدي ملحس خلال مسيرته الثقافية سواء في الصحافة أو البحث والتأليف، في منهجه العلمي على أربعة محاور متوازية خدمة للعلم والتاريخ والأمة وهي:

محور البعث والإحياء: حيث كانت انطلاقته الأولى في الكتابة والبحث نابعة من مشاعره الإسلامية والعربية الصادقة، وهو ما دفعه إلى إحياء ذكرى البطل العربي «الأمير محمد بن عبد الكريم الريفي» بكتاب صدر سنة 1926م، ثم لا يلبث طويلا حتى يقوم سنة 1927م بالتعريف بإحدى نوادر مخطوطات التراث العربي المحفوظة في مكتبة الشيخ ماجد الكردي في مكة هي «اللآلي في شرح أمالي القالي» في مجلة «الزهراء» المصرية، بل ويعد قراء المجلة بمقال يختص بالحديث عن مكتبة الكردي ومخطوطاتها، ثم تظهر أبحاثه بعد ذلك في جريدة «أم القرى» خلال الفترة من 1347هـ إلى 1354هـ وكلها تتمحور في السياق التاريخي نفسه من خلال بعث المخطوطات، فنجده يكتب تحت عنوان «نوادر المخطوطات» ثلاث مقالات؛ الأولى عن كتاب «دستور الإعلام» لابن عزم التونسي، والثانية عن كتاب «تاريخ الإسلام» للذهبي، والثالثة عن كتاب «تاريخ المدينة» لابن شبة، وإبراز الحضارة العربية والإسلامية وبعض شخصياتها مثل كتابته عن «الربان النجدي أحمد بن ماجد» أو سلسلته المعنونة بـ«أوضاع الحكومة في عهد عمر بن الخطاب»، والتعريف بأمهات المصادر العربية القديمة التي تتناول تاريخ الجزيرة العربية أو التي تتحدث عن جغرافيتها ومواضعها ورجالها كسلسلته التي عنونها بـ«مؤرخو نجد والحجاز» أو مقالته «معجم البلدان العربية»، والتاريخ لبعض الجوانب المهملة من تاريخنا ككتابته عن «دار الكتب المكية» أو «تاريخ الصحافة والطباعة في الحجاز».

محور الترجمة

* هذا المحور يكتسب أهمية كبيرة جدا، لأن الترجمة قنطرة معرفية مهمة للتواصل مع الثقافات الأخرى والاستفادة منها، وكان رشدي يدرك هذه الأهمية وعلى الرغم من أنه لم يترجم إلا عن اللغة التركية بسبب إجادته التامة لها حيث ترجم الجزء الثاني من كتاب «الفاروق» للمؤلف مولانا شبلي النعماني الخاص بأوضاع الحكومة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه أيضا قابل تعريبه على النسخة الهندية للكتاب، وهذا دليل على الدقة والتحقيق، كما نجده يعرف بكتاب «تاريخ الإسلام الكبير» للمستشرق الإيطالي الكونت كايتاني معتمدا على الترجمة التركية وذلك في مجلة «المقتطف» المصرية سنة 1927م، ولكن كانت اللغة التركية هنا وسيطا بين العربية والهندية في كتاب «الفاروق»، والعربية والإيطالية في الكتاب الآخر، وقد أشار ملحس إلى سبب ترجمته للجزء الثاني من كتاب «الفاروق» فقال: «.. ليطلع عليه المجددون الذين يحاولون نسخ كل قديم، وإبادة كل مأثرة للسلف الصالح وطمس معالمهم»، فهو يعمد هنا أيضا إلى البعث والإحياء، ولئن اختلفت الوسيلة فالهدف واحد.

محور التحقيق العلمي

* في سنة 1352هـ دشن رشدي مشروعه العلمي الأهم، حيث طبع تحقيقه للجزء الأول من كتاب الأزرقي «أخبار مكة» على ثلاث نسخ خطية إضافة إلى الطبعة الأوروبية، وكان قد عرف بهذا الكتاب ومؤلفه وبين أهميته وعلق على أخطاء الطبعة الأوروبية في جريدة «أم القرى» في ثلاث حلقات ضمن سلسلته «مؤرخو الحجاز ونجد»، ثم ضمن ما كبته في مقدمة التحقيق. وفي سنة 1357هـ صدر الجزء الثاني من هذا التحقيق مع إضافة بعض الملاحق المهمة وقد قال أحد الباحثين عن هذا العمل:

«يعد عملا رائدا في تاريخ نشر التراث في بلادنا، وهو ركيزة أولى من ركائز التحقيق العلمي الحديث الذي كنا وما زلنا نطمح إليه».

ويشير الجاسر في مقدمة تحقيقه لكتاب «بلاد العرب» الذي نسبه للغدة الأصفهاني إلى قيام رشدي ملحس بتحقيق هذا الكتاب ومحاولة نشره مثبتا ذلك برسالة من رشدي ملحس بخط يده يوضح فيها منهجه في تحقيق الكتاب الذي ينسبه بدوره للأصمعي.

محور التأليف المتخصص

* يظهر ذلك جليا من خلال عمله على المعاجم الجغرافية، الذي بدأه بكتابة «معجم البلدان العربية» حيث نشر منه بحث المعادن من قسم «الحجاز ونجد وملحقاتها» سنة 1348هـ ثم نجده في أبحاثه المنشورة في مجلة «المنهل» ابتداء من شهر صفر 1357هـ في «معجم منازل الوحي» الذي نشر منه عشرة فصول ثم توقف، ثم نجده في معجم جغرافي آخر هو «منازل المعلقات» الذي نشر بعضا منه في مجلة «المنهل» أيضا.

ومن التأليف المتخصص أيضا قيامه بتأليف كتاب «مسافات الطرق في المملكة العربية السعودية» الذي طبع سنة 1361هـ تقريبا، وهو الكتاب الذي وضع حدا لجهل الناس بالمسافات في بلادهم، ثم طبع بعد ذلك مرات عديدة.

ومن التأليف المتخصص أيضا «تقويم الأوقات للمملكة العربية السعودية» وهو من المؤلفات المهمة التي يعتمد عليها الناس كثيرا في معرفة الأوقات والأيام والشهور والفصول والنجوم والأبراج، وقد طبعته مطبعة الحكومة في مكة المكرمة سنة 1362هـ.

عناية فائقة بالمخطوطات

* لقد اعتنى الأستاذ رشدي ملحس بالمخطوطات عناية فائقة من واقع تتبعه للتراث العربي واهتمامه ببعثه وإحيائه كما ذكرنا، فقد كان غاية الحرص في الاطلاع على المخطوطات القديمة والحديثة والتعريف بها في وقت مبكر، ومن المعروف أن رشدي كان رائدا في اهتمامه بالمخطوطات والموضوعات التاريخية، لا سيما التي لها علاقة بالتاريخ المحلي في القديم والحديث.

وقد أظهر رشدي مهارة في التعامل مع المخطوطات، وتمكنا من قراءة خطوطها واكتشاف مكنوناتها والاستدلال على نسخها واكتشاف مؤلفيها والترجمة لهم، نراه جليا من خلال ما نشره من مباحث، ومن هنا نجد أنه على معرفة جيدة وإلمام تام بجميع المكتبات الخاصة والعامة في المملكة العربية السعودية التي تحتوي على كتب مخطوطة في تلك الفترة، ولا شك في ارتياده معظمها في وقت مبكر واطلاعه على ما تحويه من النوادر وقضائه وقتا طويلا بين أروقتها ورفوفها والاستفادة منها، والحقيقة أننا نلاحظ أيضا أنه على علم واطلاع بما يكون في مكتبات العالم الأخرى كبريطانيا وفرنسا وتركيا وألمانيا ومصر والعراق من نسخ خطية لمصادر المباحث التي يطرقها، بل ويراسل المكتبات حول العالم مستفسرا عن النسخ الخطية وربما كلف صديقا بالبحث والاستقصاء في مكتبات إحدى الدول للحصول على إحدى النسخ.

ويمكن حصر بعض المخطوطات التي عرف بها أو أشار إليها في أبحاثه، ونستطيع الجزم باطلاعه عليها وعمله على دراستها، بغض الطرف عن طريقة وصولها إلى متناول يده، سواء كانت عن طريق الزيارة أو الاقتناء أو الاستعارة أو النسخ أو التصوير وهي:

- «أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار» لأبي الوليد الأزرقي، و«زبدة الأعمال وخلاصة الأفعال» للأسفرائيني، و«مختصر تاريخ مكة المشرفة شرفها الله تعالى للإمام أبي الوليد محمد بن عبد الله بن أحمد بن الوليد الأزرقي» ليحيى الكرماني، و«العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين» للفاسي، و«اللآلي في شرح أمالي أبي علي القالي» لأبي عبيد البكري، و«دستور الإعلام بمعارف الأعلام» لابن عزم التونسي، و«تاريخ الإسلام وطبقات المشاهير والإعلام» لشمس الدين الذهبي، و«تاريخ المدينة المنورة وولاتها» لعمر بن شبة، و«سمط النجوم العوالي في أبناء الأوائل والتوالي» لعبد الملك بن حسين العصامي و«عنوان المجد في تاريخ نجد» لعثمان بن بشر، و«تاريخ في أنساب القبائل العربية» لحمد بن محمد بن لعبون، و«مثير الوجد في معرفة أنساب ملوك نجد» لراشد بن علي الحنبلي، و«عنوان المجد في أحوال بغداد والبصرة ونجد» لإبراهيم فصيح الحيدري قال: «منه نسخ خطية في مكاتب العراق». و«التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية» لمحمد خليفة النبهاني، أشار إلى أنه في 12 جزءا، صدر منه جزءان «البحرين» و«البصرة» وأما بقية الأجزاء فذكر أنها لا تزال مخطوطة، و«جزيرة العرب» للأصمعي، و«رسالة في أنساب أهل نجد» لإبراهيم بن محمد الضويان، و«مجموع في الأنساب»، وجزء من تاريخ نجد المسمى «روضة الأفكار والأفهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام» لحسين بن غنام.

ولم يقتصر رشدي في اهتماماته على النواحي التاريخية والجغرافية لهذه البلاد، التي طرق فيها أبوابا لم يطرقها قبله أحد، ولكنه التفت أيضا لجوانب أدبية لا تجد عناية في تلك المرحلة التاريخية، فكان من أوائل الساعين إلى توثيق الشعر النبطي وتدوينه من أفواه الرواة، قال الزركلي في كتابه «شبه الجزيرة العربية»: «كان مما أخبرني رشدي ملحس نائب رئيس الشعبة السياسية في الرياض وقد طالت ملازمته للملك عبد العزيز، أنه يفكر في تدوين ما ينسبه إليه رفاق صباه من أبيات يتناقلونها عنه من الشعر النبطي، ولا أعلم إن كان قد بقي بعد وفاة رشدي شيء من هذا في أوراقه المخزونة بجدة».

وقد يقول قائل إن كلام الزركلي لا يدل على اهتمام ملحس بالشعر النبطي بقدر ما يدل على اهتمامه بشخصية الملك عبد العزيز، ويصح ذلك لو لم نجد له استشهادا بالشعر النبطي في أحد مباحثه الجغرافية، فقد استشهد مثلا ببيت من الشعر النبطي في شرحه لمنازل معلقة الأعشى، وهذا يعطينا انطباعا بأنه كان مهتما بهذا الشعر ومعترفا بدوره كمصدر من مصادر البحث في تاريخ الجزيرة العربية وجغرافيتها.

ومن آثار المطبوعة ستة كتب هي:

- «سيرة الأمير محمد بن عبد الكريم»، و«أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار» للأزرقي، و«بحث المعادن» و«مسافات الطرق في المملكة العربية السعودية»، و«تقويم الأوقات لعرض المملكة العربية السعودية»، و«تقويم أم القرى» وهو التقويم الرسمي للمملكة العربية السعودية.

أما آثاره المخطوطة: فبلغ عدد الكتب المخطوطة تأليفا وتحقيقا وترجمة سبعة كتب؛ هي:

«معجم البلدان العربية قسم الحجاز ونجد»

* يعد رشدي ملحس أول من فكر في وضع معجم شامل لأماكن المملكة من خلال هذا الكتاب، وقد أشار الأنصاري في مقال نشره في سنة 1365هـ إلى الكتاب كمعجم شامل للدول العربية لا يقتصر على المملكة وحدها، حيث قال: «فشرع في تأليف (موسوعة) ضخمة عن البلاد العربية باسم (معجم البلدان العربية) وهو المعجم الذي ما زال الأستاذ يقوم بتأليفه، وقد نشر مقدمة كتابه هذا في العدد 313 من (أم القرى) وأبان فيها طريقته في التأليف، ولا شك في أنه متى أنجزه وأخرجه فإنه سيكون (دائرة معارف) مهمة عن البلاد العربية». وذكر الجاسر أن رشدي كان يحاول وضع كتاب شامل في تحديد بلدان المملكة سماه «معجم البلدان العربية: قسم الحجاز ونجد» قبل إطلاق الاسم المعروف الآن على المملكة وكان قد أشار إلى أن رشدي قد طلب منه سنة 1368هـ كتابة بحث عن إقليم الخرج ليضيفه إلى هذا الكتاب ففعل، ويتفق الجاسر مع الأنصاري بأنه أصدر من هذا المعجم كتيبا صغيرا عن المعادن.

والحقيقة أن تفكيره في هذا المعجم يرجع إلى سنة 1930م حيث كتب في صحيفة «أم القرى» مقالة عنونها بعنوان هذا الكتاب «معجم البلدان العربية: قسم الحجاز ونجد وملحقاتها» أشار فيها إلى أهمية تعريف الأماكن في هذه البلاد، خاصة في ظل الأخطاء والنواقص في المعاجم القديمة، خاصة «معجم البلدان» لياقوت الحموي، وقد اعتبر الأنصاري هذه المقالة مقدمة لهذا المعجم.

ويمكننا القول إن هذا المعجم كما يظهر من عنوانه شامل للبلاد العربية، ولكن يبدو أن ملحس بدأ فيه بقسم الحجاز ونجد وملحقاتها، وهو اسم المملكة قبل توحيدها الذي أحسبه قد أنهاه؛ بدليل أنه لو لم يكن كاملا أو شبه كامل لما استطاع انتزاع بحث المعادن منه.

- «معجم منازل الوحي»:

* وصفه الأنصاري سنة 1365هـ بأنه كتاب سائر في طريقه من حيث التأليف، وهو من صنع الأستاذ ومن حسن اختياره، خصص لموضوع شائق رائق لم نطلع من قبل على كتاب يضاهيه في هذا التخصص، فهو أول كتاب من نوعه، وقد نشر فصولا منه في مجلة «المنهل» لاقت حفاوة القراء في الشرق والغرب.

وبالفعل فقد نشر من هذا الكتاب وتحت هذا العنوان عشرات الحلقات في مجلة «المنهل»؛ أولها في شهر صفر 1357هـ وآخرها في شهر ذي الحجة 1358هـ، وكان قد كتب تمهيدا في صدر الحلقة الأولى من بحثه موضحا أسباب وطريقة تأليفه حيث قال: «كنت أثناء دراستي لسيرة صاحب الرسالة النبي العربي صلى الله عليه وسلم، أدون بعض ملاحظات في تحديد المنازل والأماكن التي وردت وتعريفها تعريفا يقربها من الأذهان، ويزيل ما أشكل على الأفهام، ثم عنّ لي أن أنشر هذه المذكرات في مقالات متسلسلة في مجلة (المنهل) الغراء، على أن أعود إليها في ما بعد فأجمع هذه المقالات جمعا مبوبا على نمط المعاجم المزينة بالرسوم والخرائط، وطبعها في شكل كتاب».

- «منازل المعلقات»:

جمع فيه ما يقرب من تحقيق 150 منزلا من المنازل المذكورة في المعلقات العشر وحقق أماكنها المعروفة اليوم، وكان قد أعد بيانا يحوي أسماء المواضع التي أشكلت عليه في المعلقات وبعث بنسخ منه إلى كثير ممن توسم فيهم المعرفة ومنهم الأستاذ خالد الفرج وعلي بن عبيد الله بن سرحان ومحمد بن بليهد وحمد الجاسر.

بل إن محمد بن بليهد قد ألف كتابه «صحيح الأخبار» الذي تناول منازل المعلقات استجابة لرغبة رشدي ملحس، وقد أشار إلى ذلك في مقدمة كتابه وأورد نص رسالة رشدي إليه ومنها قوله: «يهمني جدا معرفة حدود الأماكن التي ورد ذكرها في المعلقات العشر وقد عنيت لأجل ذلك بجمع ما تيسر تحقيقه، وربما أنك من الخبيرين بمثل هذه الأمور جئت بكتابي هذا أرجوك مساعدتي في هذا البحث وأن تكتب إلى مطولا عما لديك من التحقيقات عن هذه الأماكن مع بيان حدود كل منها وتعريفها تعريفا وافيا». ويؤكد البليهد أنه بعث إليه بما عنده من المعلومات.

وقد بدأ رشدي بنشر فصول من هذا الكتاب في مجلة «المنهل» في آخر عام 1367هـ ببحث عن اليمامة وهو ما نرجح أنه جزء من منازل معلقة عمرو بن كلثوم وإن لم يعنون موضوعه بـ«منازل المعلقات»، ولكنه في العدد التالي من المجلة يتدارك ذلك فيكون عنوان البحث: «منازل المعلقات: معلقة الأعشى ميمون بن قيس» ليورد منازل معلقة الأعشى في ثلاث حلقات ثم ينقطع، ولكن نحن على يقين من اكتمال هذا الكتاب بدليل إحالاته في حواشي «منازل معلقة الأعشى» إلى مباحثه في المعلقات الأخرى مما يعني إنجازها.

- «جغرافية البلاد العربية السعودية»:

أشارت إليه مجلة «المنهل» في تقديمها لبحث رشدي المعنون بـ«نجد» الذي نشرته في عدد ذي القعدة وذي الحجة 1365هـ فقالت: «فصل ممتع من كتاب (جغرافية البلاد العربية السعودية) لسعادة الأستاذ المحقق رشدي بك الصالح ملحس»، والعجيب أن محرر «المنهل» قد أشار قبل ذلك وفي عدد ربيع الثاني 1365هـ إلى إنجاز رشدي لهذا الكتاب «جغرافية المملكة العربية السعودية» وأنه معد للطبع في هذا العام 1365هـ وسيكون مع خرائطه. ولكنه لم يخرج إلى النور حتى الآن.

- «أوضاع الحكومة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه».

وهو عبارة عن ترجمة الجزء الثاني من كتاب «الفاروق» تأليف مولانا شبلي النعماني رحمه الله، وهو من أجلة علماء الهند، وجمع في كتابه هذا ما تفرق من سيرة عمر رضي الله عنه وما تناثر من أخباره، وبوبها تبويبا قربها من الأذهان، وفصلها تفصيلا جلى بها الألباب من الدنس والعيوب، وانتهج لنفسه في تدوينه منهاجا حديثا جمع بين القديم والحديث، فجاء كتابه جامعا مانعا تلذ مطالعته، وتحلو تلاوته. وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة التركية وطبع في إسطنبول فانتشر انتشارا يفوق التصور، وقد رأى رشدي ملحس أن من واجبه تعريب هذا الكتاب القيم اعتمادا على اللغة التركية التي يجيدها بعد مقابلة التعريب على النسخة الهندية ليعم نفعه وتنتشر فائدته بين المسلمين، وشرع في نشر ترجمة الجزء الثاني من الكتاب الخاص بأوضاع الحكومة في عهد عمر رضي الله عنه، على صفحات جريدة «أم القرى» ابتداء من العدد «467» الصادر يوم الجمعة 26 يناير (كانون الثاني) 1934م وقدم له بمقدمة استقينا منها المعلومات السابقة ختمها بقوله: «ليطلع المجددون الذين يحاولون نسخ كل قديم، وإبادة كل مأثرة للسلف الصالح وطمس معالمهم»، وقد استمر النشر في «أم القرى» في حلقات مسلسلة وصلت إلى تسع وعشرين حلقة في العدد «552 مكرر» الصادر يوم الجمعة 12 يوليو (تموز) 1935م.

- «جزيرة العرب للأصمعي»:

وهو الكتاب نفسه الذي حققه حمد الجاسر منسوبا إلى الحسن بن عبد الله الأصفهاني باسم «بلاد العرب»، حيث ذكر أن رشدي أول من لفت نظره إلى أهمية هذا الكتاب بما نشره من أبحاث، فكان يستشهد بنقول من هذا الكتاب وينسبها للأصمعي، وقد جرى بينه وبين الأستاذ رشدي نقاش حول المؤلف، ولكن رشدي أصر على نسبته للأصمعي وجرت بينهما مكاتبات بشأن هذا الكتاب وقد نشر الجاسر في مقدمة تحقيقه لـ«بلاد العرب» رسالة من رشدي تؤكد تحقيقه لهذا الكتاب مؤرخة في 18/5/1368هـ، وقد وضح فيها شيئا من منهجه من خلال وصف النسخة ونسبها للأصمعي اعتمادا على ما ذكره في مقدمة معجمه، وتصحح الأغلاط بالرجوع إلى منقولات أصحاب المعاجم عن الأصمعي، ووضع ذيلا للكتاب بمعجم منازله ووصفها وصفا جغرافيا حديثا مع تعليقات يسيرة، كما راسل المكتبات حول العالم للعثور على نسخ أخرى للكتاب ولتزويده بمعلومات حول الكتاب ورواته.

- «شعر الملك عبد العزيز النبطي»:

وقد انفرد الزركلي بالإشارة إلى هذا الكتاب نقلا عن رشدي ملحس نفسه حيث قال في كتابه «شبه الجزيرة»: «كان مما أخبرني رشدي ملحس نائب رئيس الشعبة السياسية في الرياض وقد طالت ملازمته للملك عبد العزيز أنه يفكر في تدوين ما ينسبه إليه رفاق صباه من أبيات يتناقلونها عنه من الشعر النبطي، ولا أعلم إن كان قد بقي بعد وفاة رشدي شيء من هذا في أوراقه المخزونة بجدة».

أما البحوث والمقالات التي نشرها، فقد كان رشدي يمارس الصحافة ويكتب فيها منذ وقت مبكر من حياته، ونتوقع أن أرشيفه حافل بكم هائل من المقالات والأبحاث، ولكن ليس لدينا تصور عما كتبه قبل مجيئه للمملكة سنة 1926م لصعوبة الحصول على مصادر تلك الفترة في الجهات التي عاش فيها أول حياته.

أما بعد قدومه، فقد نشر في مجلتي «الزهراء» و«المقتطف» المصريتين، مقالتين تاريخيتين تعتبران أقدم ما توصلنا إليه من المقالات.

وخلاف ما أكده جنيد من أنه هو الذي كتب وصف رحلة الملك من مكة المكرمة إلى الرياض في آخر ربيع الثاني 1346هـ ونشرت حلقتها الأولى في 23 جمادى الأولى 1345هـ، لم نستطع أن نتوصل بصورة قاطعة إلى شيء من المقالات التي كتبها في جريدة «أم القرى» قبل 25 جمادى الثانية 1347هـ/ 1928م، أما مقالاته من هذا التاريخ فصاعدا فقد كان للحازمي فضل التنبيه على كثير منها، ولكن لا تزال مجموعة من مقالاته في «أم القرى» غير منسوبة إليه لعدم توقيعه باسمه الحقيقي، خاصة بعد توليه رئاسة التحرير، فمن عادة بعض رؤساء التحرير أن يكتبوا في جرائدهم أحيانا من دون توقيع.

ويمكن القول إنه بدأ النشر في «أم القرى» بالطريقة المسلسلة، حيث يعمد إلى اختيار جملة من الموضوعات التي يمكن جمعها تحت عنوان واحد ثم يبدأ الكتابة فيها، فكتب أولا سلسلة «سوانح تاريخية» في خمس حلقات ثم كتب سلسلة «مؤرخو نجد والحجاز» في عشر حلقات، ثم سلسلة «نوادر المخطوطات» في خمس حلقات، ثم سلسلة «أوضاع الحكومة في عهد عمر بن الخطاب» في تسع وعشرين حلقة نشر آخرها - وهو ما نظنه الآن آخر ما نشر فيها لرشدي ملحس - في 11 ربيع الثاني 1354هـ، وهناك غير ذلك من السلاسل والمقالات والبحوث التي لم نستطع الجزم بنسبتها إلى رشدي ملحس ولكن بلغ ما أحصيناه متيقنين من نسبته إليه 52 مادة توزعت على 14 موضوعا أو أربع سلاسل تقريبا وكانت جميعا ذات اتجاه تاريخي.

أما مجلة «المنهل» فقد نشر فيها أول موضوع في عام 1938م، ولكنه هنا اتخذ اتجاها جغرافيا رغم احتفاظه بأسلوب السلسلة التي اتضح أنها مشاريع لكتب علمية فبدأ بسلسلة «معجم منازل الوحي» في عشر حلقات ثم «منازل المعلقات» في أربع حلقات وقبلها وبعدها مباحث جغرافية أخرى، تخللتها تعقيبات على بعض الموضوعات وكان آخر ما نشر فيها بحث «الربع الخالي» في المحرم 1373هـ، ومجموع المواد المنشورة في «المنهل» 21 مادة توزعت على ثمانية مواضيع على اعتبار أن حلقات كل سلسلة موضوع واحد. كما نجد له مقالة منشورة في مجلة «المستمع العربي» 1944م بعنوان «آل سعود في التاريخ».

رحيل ريادة

* في يوم 23 يناير (كانون الثاني) 1959م، وبعد حياة حافلة بالعطاء والإخلاص قضاها بين مسؤولياته الرسمية الكبيرة وبين ميوله العلمية والأدبية طيلة ثلاث وثلاثين سنة هي مدة مقامه على هذه الأرض الطاهرة، انتقل رشدي ملحس إلى رحمه الله إثر نوبة قلبية حادة في مدينة جدة ودفن فيها.

ولقد عاش رشدي ملحس عزبا لم يتزوج، ولكنه اشتغل بتربية أبناء وبنات أخيه عبد الفتاح. وتكتسب أوراق ومذكرات رشدي ملحس أهميتها التاريخية من ناحيتين؛ ناحية علمية مرتبطة بإنتاجه من الكتب والأبحاث، وناحية وطنية تتصل بعمله الرسمي في الشعبة السياسية القريب من الملك عبد العزيز والملك سعود وكان شاهد عيان على تاريخ المملكة العربية السعودية، ولا شك أن أوراقه تحتوي كنوزا من الوثائق في هذا الشأن، ولكن بعد وفاته سنة 1959م ظلت مكتبته بمحتوياتها من المخطوطات والأوراق والكتب والمذكرات في مدينة جدة حيث كان أبناء أخيه عبد الفتاح، وكان أول من نبه إلى أهميتها، ولمح إلى مكان وجودها وسوء تخزينها هو حمد الجاسر، رحمه الله، وذلك بعد وفاة رشدي بتسع سنوات حيث كتب في 8 مارس (آذار) 1968م: «ولقد توفي الأستاذ رشدي ملحس رحمه الله منذ بضع سنوات وأصبح من الصعب العثور على النسخة التي حققها وأعدها للنشر مع محاولة كبيرة من محبيه ومنهم علامتنا الجليل الأستاذ خير الدين الزركلي، وغيره.. ولا تزال بعض آثار هذا الباحث لدى ابن أخيه الدكتور هشام ملحس - أحد موظفي وزارة الصحة في جدة - حبيسة في صناديق مقفلة».

من خلال كلام الجاسر، يتضح لنا وجود محاولات للاطلاع على محتويات مكتبته وأوراقه من بعض محبيه، ولكن يبدو أنها باءت بالفشل بسبب موقف ابن أخيه هشام عبد الفتاح ملحس الذي فضل أن يحبسها في صناديق!! فطالت مدة الحبس حتى ظن الناس موتها كما مات صاحبها، حيث قال الجاسر بعد ذلك ضمن حديثه عن كتاب رشدي «معجم البلدان العربية»: «وقد انتقل إلى رحمة الله تعالى، وبموته مات ما كنا نتطلع إلى معرفته عما انتهى إليه هذا المعجم». وقال أيضا عام 1389هـ: «..مكتبته التي لا نعرف ماذا آل إليه أمرها». كما نوه الزركلي بأوراق رشدي في حديثه عن جمع رشدي لشعر الملك عبد العزيز النبطي، متسائلا غير متفائل، حيث قال: «ولا أعلم إن كان قد بقي بعد وفاة رشدي شيء من هذا في أوراقه المخزونة بجدة».

وللأسف الشديد فقد عانت هذه المكتبة طويلا من الإهمال رغم أهمية ما تحتويه من معلومات تمس التاريخ الوطني بصفة عامة، ولا شك أن عوادي الزمن قد عدت على معظمها، وأنى لها أن تقاوم وهي حبيسة الصناديق في بلد يحتضنه البحر؟ ولكن يظهر أن الشيخ محمد بن سرور الصبان قد ضم مكتبة رشدي ملحس التي كانت زاخرة بالنفائس والنوادر من الكتب المخطوطة والمطبوعة ومجموعات الصحف القديمة والحديثة بعد ذلك إلى مكتبته عن طريق الشراء من ورثته، وأتوقع أن شراء الصبان للمكتبة كان خلال الفترة من 1388هـ - 1391هـ، في حين انبرت أخيرا دارة الملك عبد العزيز بالرياض فأنقذت ما أمكن إنقاذه من المراسلات والوثائق ومسودات المؤلفات والصور الفوتوغرافية عندما تم إيداع ما تبقى من مكتبة رشدي ملحس فيها.

وقال فيلبي يوما: «ولم تترك المهام الرسمية لملحس الوقت الكافي لتطوير حسه الأدبي، وعلى وجه اليقين يمكن القول: (لو أن الظروف كانت طبيعية لفضل رشدي ملحس أن يكرس كل حياته للأدب والدراسة».

والحقيقة التي لم يعلم عنها فيلبي أن رشدي ملحس رغم هذه المسؤوليات الرسمية الكبيرة التي أخذت جل وقته، أصبح من الرواد المشهود لهم في تاريخنا الحديث، فكيف لو كان متفرغا للبحث والتأليف؟ وأجمل المؤلف مقومات الريادة التي نالها رشدي ملحس باستحقاق في الميدان العلمي في المملكة العربية السعودية من خلال أعماله التي سبق إليها؛ حيث يعد عمله في تحقيق «تاريخ الأزرقي» ركيزة أولى من ركائز التحقيق العلمي الحديث في المملكة العربية السعودية، كما أنه من أوائل العرب الذين حاولوا وضع منهج لفهرسة المخطوطات العربية يعتمد فيه على إبراز كل ما يتعلق بالمخطوطة لتكون المعلومة عنها واضحة لمن يرغب في استعمالها للتحقيق في ما بعد، كما كان من أوائل الذين لفتوا الأنظار إلى كثير من الموضوعات العلمية والتاريخية، وقد سبق إلى دراسات في التاريخ والجغرافيا جديدة لم تكن بلادنا تعرفها قبله، ويعد رشدي ملحس أول من فكر في وضع معجم شامل لأماكن المملكة من خلال كتابه «معجم البلدان العربية: قسم الحجاز ونجد وملحقاتها».

كما أن من مقومات ريادته أنه صاحب أول بحث علمي وتاريخي حديث عن المناجم في المملكة العربية السعودية، وألف سفرا إحصائيا لمسافات الطرق في المملكة العربية السعودية هو الأول من نوعه في بلادنا، وقد سد فراغا ملموسا ووضع حدا لجهل الناس بالمسافات، وهو صاحب فكرة تقويم «أم القرى» - التقويم الرسمي للدولة - بل هو صانعه وواضع حكمه وطرائفه الرائعة في مدة لا تقل عن ربع قرن؛ إن لم تزد عليه، وهو أول من فكر في تحقيق منازل المعلقات في الشعر العربي وهو من أشار على ابن بليهد بالتأليف حول ذلك، ومن هنا بدأ ابن بليهد كتابه «صحيح الأخبار»، كما يعد ملحس أول من نبه إلى وجود جزء ثالث مفقود لأهم مصادر التاريخ السعودي «عنوان المجد في تاريخ نجد» لعثمان بن بشر، كما أنه أول مترجم للمصادر التاريخية في المملكة العربية السعودية حيث ترجم كتاب «الفاروق» من اللغة التركية إلى العربية في سنة 1352هـ تقريبا، وأول باحث محلي يطرق باب التاريخ للطباعة والصحافة في الحجاز منذ العهد العثماني حتى أوائل العهد السعودي، كما أنه أقدم من نبه إلى أهمية تكوين إدارة أو هيئة تسعى إلى إبراز تاريخ شبه الجزيرة العربية، وهو أول من فكر في تدوين أبيات الشعر النبطي المنسوبة إلى الملك عبد العزيز.