جدة.. زخات القصص

الأمير خالد الفيصل كان أحد الذين حبسهم المطر خلال عودته إلى منزله

.. وأخرى محتجزة وسط الطريق (تصوير: سلمان المرزوقي)
TT

لم يكن أهالي جدة يتحرون أمس معرفة الـ10 في المائة من مساحة مدينتهم التي يعيش فيها 3 ملايين على الأقل، أكثر من تحريهم معرفة نهاية كل واحد منهم من القصة التي اجتاحته تحت ما كانوا يتعارفون على أنه (مطر)، بعد أن بلغ الاستيئاس في نفوسهم مداه من المشاريع التي لم تقطع أرضا ولم تبق ظهرا لعشرات السنين فيها.

الراقدون تحت الأرض في مقابر جدة كانوا الوحيدين الذين لم يشعروا بما تساءل عنه السياب «أي حزنٍ يبعثُ المطر، وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر، وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع، بلا انتهاء كالدم المراق كالجياع». وكيف تنشجُ المزاريبُ إذا انهمر؟

وكيف يشعرُ الوحيدُ فيه بالضياع؟

بلا انتهاء، كالدمِ المُراق، كالجياع في حين أن خيوط الماء نسجت من القصص مما لا ترفع معها الأقلام ولا تجف منها الصحف، فكل الأنفاس التي استنشقت رائحة المطر وجدت في عبيره ذكرى تعيدها إلى مآزق الأمس وغرائب حكاياته وعلامات الاستفهام التي سكنت عقولهم فيه.

الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز، أمير منطقة مكة المكرمة، وقائدها إلى العالم الأول بدوره كان من أوائل الذين حبسهم المطر في طريق عودته إلى منزله من مقر الإمارة بحي المساعدية وسط جدة إلى شمالها مرورا في طريق المدينة حسبما ذكر ذلك أمس.

كما كان وقوع مقرات الدوائر الحكومية والشركات في منطقة البلد والمنطقة الصناعية جنوب جدة غالبا، سببا في احتجاز الآلاف في مكاتبهم حتى بعد منتصف الليلة قبل الماضية، بفعل إغلاق الكثير من الطرقات التي تربط المنطقة الجنوبية التجارية العملية غالبا بالشمالية والوسطى اللتين تعجان بالمساكن.

فعدنان الحربي بعد انتهائه من أحد اختبارات الجامعة قضى 26 ساعة ليصل إلى منزله على بعد 10 كيلومترات عن الجامعة، فيما لم تزل طالبات إحدى مدارس البنات في البغدادية مثلا محتجزات في سطح المدرسة حتى بعد منتصف الليلة قبل الماضية فيما بعض المعلمات وموظفي القطاعات المختلفة لم يصلوا منازلهم حتى مساء أمس. فيما كانت الاختبارات النهائية لطلاب وطالبات التعليم العام في المملكة التي صادفت يوم الأمطار آخر أيام الأسبوع الأول منها عاملا هاما دون احتجاز مئات الآلاف من الطلاب والطالبات في المدارس، وهو الأمر الذي طال ضرره الطلاب الذين يدرسون في المدارس الأجنبية أو العالمية في جدة إذ تسير بتقويم دراسي يختلف عن ذلك الحكومي.

باطراد مع الزمن تزيد القصص طرافة وغرابة، وتحوي عناصر أكثر هولا وإمتاعا في سريالية شعورية تتجدد في نفوس الراكبين على السيل كلما جرف والغارقين تحت المطر كلما حيرهم إن كان سيتوقف أو إن كان سيشتد.

فشارع فلسطين الذي يخترق 8 من أهم طرق جدة، ويحوي العشرات من متاجر الإلكترونيات، وأجهزة الاتصالات ومحلات تأجير السيارات، شهد بفعل السيل الذي أتى مباشرة من خلاله في شرق جدة، بالإضافة للمشاريع الإنشائية الجارية فيه وكتل التربة فيها، شهد الشارع أكبر تدفق للسيل الذي جرف مئات السيارات بالعالقين فيها.

المفارقة أن حادثة سرقة واحدة لم يتم تسجيلها لأحد المحلات على جانبي الشارع، في وقت كان السيل لا يبقي ولا يذر من أبواب تلك المحلات التي تحوي قطعا بملايين الريالات (تليفونات جوالة وأجهزة كومبيوتر وسيارات).

مفارقة أخرى سجلها الشارع للشباب الذين قاموا بإنقاذ العائلات والأطفال الذين احتجزوا في سياراتهم وسط السيول، في مبادرة وشجاعة ذكرتنا بما كان قد حصل في الأربعاء الأول الذي حصلت فيه الكارثة الشهيرة، فعشائر جوالة جامعة الملك عبد العزيز في جدة مثلا، أعلن أفرادها على صفحاتهم في «فيس بوك» وقف أنفسهم للإنقاذ في طرقات وشوارع جدة.

مصورو الفوتوغراف اعتبروا بدورهم المناسبة فرصة لملء ذخائرهم من الصور التذكارية للأحداث، وتصوير السيارات التي امتزجت بالجدران وبأعمدة الإنارة والشجر، بالإضافة للتي امتزجت ببعضها البعض كألعاب الأطفال الصغيرة. كما لم يفوتوا فرصة توثيق السكك المتشققة والأرصفة المدمرة كالورق.

عقب نهاية الأمطار، أتت تجارة الرافعات المربحة التي ارتفعت لأقصى درجاتها بفعل كثرة السيارات المعطلة وبفعل قلة الرافعات فيها.

مع القصص أتت المقارنات والنكات، فجدة أنهكها المتذمرون بمقارنتها في أنظمة تصريفها بمدن من العهد الروماني، وبمدن أخرى تقع في بلدان أقل ماديا من المملكة، فيما انتشرت عشرات النكات والطرائف التي أخذت تخبط عشواء في كل الاتجاهات.

وكيف تنشجُ المزاريبُ إذا انهمر؟

وكيف يشعرُ الوحيدُ فيه بالضياع؟

بلا انتهاء، كالدمِ المُراق، كالجياع. يبدو أنه سوف يتم تأجيل الإنسان في رحلة منطقة مكة المكرمة إلى العالم الأول، بعد أن أدركت إمارتها أن بنية كبرى مدنها التحتية التي سيعيش عليها الإنسان «لم تكتمل بعد».