مسارات طرق القوافل القديمة.. شواهد حضارية يكتنفها الغموض على أرض السعودية

رغاء الإبل وحداء أصحابها يقطع سكون البراري خلال اختراق القوافل التجارية للطرق القديمة * كنوز حضارية تتمدد تحت أكوام الحجارة والتلال الرملية والخطوط الجبلية

دائرة من الأنماط الأثرية في منطقة تبوك
TT

تحظى أرض المملكة العربية السعودية بوجود عدد من الشواهد الأثرية، والأعلام الدالة على مسارات طرق القوافل المنصوبة منذ قديم الزمان، حيث تعد جزيرة العرب همزة الوصل بين أماكن التحضر على مر العصور: فقد كانت القوافل التجارية تخترق تلك البراري المترامية الأطراف من شمالها إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها بحركة دائبة لا يسمع فيها إلى رغاء الإبل وحداء أصحابها.

وظلت الطرق خلال فترات طويلة مسلوكة، وقد وضعت لها أسماء وردت في أشعارهم، كما وردت أسماء طرق أخرى. وعندما جاء الإسلام اعتنى الخلفاء والولاة بالطرق المتجهة إلى مكة المكرمة، حيث حفرت الآبار والبرك الكبيرة لتجميع مياه السيول، ووضعت الأميال على جواد هذه الطرق، كما بنيت القصور والاستراحات في منازلها تسهيلا لمعاناة حجاج بيت الله الحرام.

وقد سلكت طرق الحج دروب الطرق القديمة: حيث أخذ طريق حاج الكوفة المسمى «درب زبيدة» طريق «مثقب»، أما طريق حاج البصرة فكان يأخذ طريق «المنكدر»، حتى تم العدول عنه، وذلك لقلة موارد المياه عليه، فاستعاضوا عنه بالطريق المسمى «طريق حاج البصرة» الذي يسلك بطن فلج مارا بالقصيم ووسط عالية نجد إلى أن يلتقي طريق «درب زبيدة» في متعشى «أوطاس» بالقرب من ميقات «ذات عرق». كما أخذ أهل الشام ومصر مسالك الطرق القديمة، وانشغلوا بوصف هذه الطرق، وعزفوا عن وصف الطرق التجارية المسلوكة في الجاهلية، إلا ما كتبوه لنا عن بعضها بنصوص متفرقة هنا وهناك، وهذا العزوف هو ما جعل مسارات الطرق يكتنفها الغموض.

وبذلت الهيئة العامة للسياحة والآثار في السعودية، ولا تزال، جهودا علمية لسبر أغوار آثار البلاد من خلال الاكتشافات الأثرية والحفريات، كما أيقنت دارة الملك عبد العزيز بأهمية الكنوز التاريخية التي تحتضنها أرض السعودية ودراسة الظواهر الأثرية، ومنها الشواهد والأعلام الدالة على مسارات طرق القوافل القديمة، فكونت بتوجيه ودعم من الأمير سلمان بن عبد العزيز رئيس مجلس إدارة الدارة، لجنة علمية تدرس هذه الظواهر الأثرية، والتعرف على الغرض الذي أنشئت من أجله، وإجراء الدراسات على نماذج منها، وتحقيق هذه المعالم الأثرية، من طرق ومنازل وموارد ومياه معمورة أو مغمورة، والوقوف على دلالة هذه البقايا التاريخية الثمينة.

وقدمت الدارة كتابا عن بعض مسارات طرق القوافل القديمة في الجزيرة العربية، موضحة فيه ما توصل إليه الباحث والآثاري عبد الله بن محمد الشايع من نتائج ورؤى في هذه المسارات، ويعرض آراء متخصصي الآثار في الركامات الحجرية وأنماطها، وأقوال علماء اللغة فيها، ووصف الشعراء لما هو موجود منها، وعدد الباحث أنماط الشواهد الأثرية التي تتنوع ما بين الصوى والمذيلات والدوائر والمسننات، والحبال الموجودة على الجبال، أو على السطوح الحجرية المستوية، والأحجار المنصوبة في البراري، والمربعات المستطيلة، والأشكال ذات التركيب المعقد، والعقبات والمنقيات.

واعتبر الباحث الشايع أن الظواهر الأثرية التي تناولها في كتابه الذي عنونه بـ«أطلس الشواهد الأثرية على مسارات طرق القوافل القديمة في شبه الجزيرة العربية» حيرت الباحثين، وما زالت محل إشكال حتى في الدول الغربية مع ما لديهم من الإمكانات المتطورة، إذ يوجد هناك أنماط شبيهة بتلك التي تنتشر بكثافة في جزيرتنا العربية، وقد تعددت الآراء عندهم بشأنها.

بداية يورد المؤلف رأي متخصصي الآثار بشأن الركامات الحجرية وأنماطها، حيث أورد ما جاء في دورية «أطلال: حولية الآثار العربية السعودية» التي تم فيها نشر المسوحات الأثرية التي قام بها المتخصصون في الآثار، واستعرض المؤلف ما ورد في هذه الحولية للوقوف على ما قيل في هذا الجانب وهو الركامات الحجرية من صوى ومذيلات ودوائر، وأورد ما قاله متخصصو الآثار:

القول الأول: ورد في حولية أطلال لعام 1977م ضمن التقرير المبدئي عن الاستكشاف الأثري للمملكة العربية السعودية لعام 1396هـ (1976م) إعداد: روبرت أدامز وآخرين ما نصه: «في أم وعال تم الكشف عن موقع.. على الجانب الغربي من خبرا على بعد 35 كم جنوب غربي طريف حيث توجد مجموعة من الدوائر بعضها بسيط، وبعضها الآخر معقد التركيب، وتختلف في أحجامها بين 10 و25 مترا في القطر، وتمتد غالبا مسافة كيلومتر على امتداد منحدرات المصاطب التي ترتفع 5 أمتار فوق أرض الحوض. وقد أوضحت رسوم مشاريع التخطيط لوحة رقم 6 وجود مجموعات من الدوائر المسورة وبارتفاع لا يزيد على نصف متر ومجاري مياه تابعة لها يبدو أنها لم تتغير منذ أن أقيمت تلك الدوائر.

ومثل هذه المجموعات من الدوائر الحجرية الملحقة أحيانا بأخرى أكثر إيهاما وغموضا، وكذلك الصفوف من الجدران السائدة في المنطقة، تبدو متوافرة في جنوب المنطقة، وتوجد منها مجموعة مهمة بوادي ميشارا على بعد 10 كم إلى الشمال من كاف.

وعلى الرغم من كثرة تلك الدوائر، فإنه يبدو من قبيل التسرع، ونحن في المرحلة الأولى من البحث، أن نرجعها كلها إلى مرحلة زمنية واحدة.. ومن الضروري أن ننبه هنا إلى حقيقتين مهمتين:

الأولى: لم تمدنا كل الدوائر الحجرية - إن لم يكن حتى أي موقع منها - بأدوات من حجر الصوان، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنه تم العثور على نظائرها في مواقع منها - على سبيل المثال - أم وعال، وذلك على مسافة قريبة من الأولى تشير بدورها إلى منشآت وأدوات من حجر الصوان نفسه عثر عليها بطريق المصادفة.

الثانية: أن عددا من الدوائر الحجرية يضم كسرا متناثرة من الفخاريات حولها، وقد يكون ذلك أيضا من قبيل المصادفة، إلا أنه من غير الحكمة - في الوقت الحاضر على الأقل - أن تؤرخ تلك الدوائر.. إذ إن الأمر يتطلب مزيدا من العمل الميداني المتقدم والمدعم بتقويم زمني لتلك الدوائر يتم إعداده بعناية.

وهناك نوع آخر من المنشآت الحجرية تتشابه في كثير من النواحي مع الدوائر المشار إليها، كما تتساوى في مشكلاتها، حيث يوجد نوع من دوائر أوسع تشكل ملحقات ومداخل منخفضة عن الدوائر المرتفعة ذاتها، وهذه جميعها عرفت في الأردن وجنوب فلسطين.. وقد قامت مناقشات حول الأغراض التي من أجلها أنشئت هذه الدوائر، ونرى أنها مختلفة: فمنها ما هو للاستيطان، ومنها ما هو لصيد الحيوانات الوحشية لا سيما ما كان منها محميا بتل أو جبل.

والحقيقة أن أنماط المواقع الأثرية بالمملكة العربية السعودية تدعم ذلك الرأي.

وكل من هذين النوعين من الدوائر يمثل مشكلة كبرى بالنسبة إلى البحث الأثري الذي يتطلب دراسة شاملة، والمطلوب أولا هو الرسم الدقيق لعينات كثيرة من كل منها بحيث لا يقتصر الرسم على ترتيبات فردية بالطبع، كما يؤخذ في الحسبان علاقة كل دائرة بجارتها جغرافيا وطبوغرافيا، ولا يتم هذا طبعا إلا بمساعدة التصوير الجوي الذي لا يعوزه تمييز تلك الدوائر المندسة في أثناء المناطق الصخرية والحرار البركانية..».

القول الثاني: كما ورد في حولية أطلال لعام 1978م ضمن التقرير المبدئي عن المرحلة «الثانية» لمسح المنطقة الشمالية عام 1977م إعداد: د. بيتر بار وجوريس زارينس وغيرهما، ما نصه:

«الدوائر الحجرية، يغطي هذا العنصر مواقع مختلفة عبارة عن دوائر منفصلة أو في شكل مجموعات صغيرة، يحتمل أن تكون على شكل زرائب للحيوانات، وربما كانت تجمع بقايا القرى والحصون أو تضمها لتشكل مجموعات عنقودية تضم دوائر أصغر. وقد تبين أن هذه الدوائر تغطي مساحات شاسعة من الأقاليم، كما تعكس نطاقا واسعا من أساليب التشييد.

وقد تسفر التحليلات الدقيقة مستقبلا عن مؤشرات تعطي تفسيرا مناسبا لظاهرة الدوائر الحجرية، وتقود إلى تصور تاريخها، وهناك نقطة مهمة تتعلق بتوزيع انتشارها، ففي مرحلة المسح لعام 1976م تبين أن هذه المواقع تمتد من شمال وادي السرحان حتى منطقة حائل. وفي عام 77م اتضح امتداد هذه المنطقة جنوبا حتى ضاحية (الكهيفية)، ولم يعثر على مواقع من هذا النوع في مناطق بريدة أو عنيزة أو المجمعة على الرغم من حقيقة أنه لا يوجد نقص في موارد الصخور الملائمة المستخدمة في أغراض البناء بهذه المناطق الأخيرة.

المدافن: لم يخل بالفعل مواقع واحد، تمت زيارته في أثناء المسح من مدافن أو نصب حجرية ذات نوع أو آخر، بما في ذلك منطقة المجمعة التي لحظ وجود الدوائر الحجرية بها. وهذه المدافن تقل غالبا في سلاسل التلال الرملية الكبرى والخطوط الجبلية الأفقية. ولعل الدراسة الطبوغرافية لهذه المنشآت تكشف عن سمات حضارية مهمة دون شك، إلا أنها يجب أن تنتظر إلى أن يتم الكشف عن عدد كاف منها حتى يمكن إزاحة الستار عن أصلها بصورة عامة، إذ لا يتعدى الشكل السطحي لها اليوم عن كونه أكواما من الحجارة وضعت في غير نظام، إلا أنه بفحص عاجل لها، أمكن التوصل إلى تمييز خمسة أنواع، هي مساحات بسيطة من حقول الأحجار المكدسة بشكل عشوائي.

- منشآت دائرية، شيدت بكثير من العناية أو قليل منها أحيانا على شكل أسوار، ومنشآت دائرية، تشبه النوع الثاني لكنها مصحوبة بملحقات مستطيلة الشكل، فضلا عن منشآت دائرية، تشبه النوع الثاني مع وجود أذيال لها من أكوام الحجارة - لا يزيد قطرها على متر واحد في العادة - تنحدر من المدفن أو النصب الركامي في خط مستقيم أو منحنى لمسافات مختلفة، ومنشآت مستطيلة الشكل، ذات أقسام داخلية غالبا..».

القول الثالث: ورد في حولية أطلال لعام 1979م. ضمن التقرير المبدئي لمسح المنطقة الوسطى، «الأشكال المدببة: لقد أسفر موسم هذا المسح عن اكتشاف نوع جديد تماما من الأشكال يبدو أنه يقتصر من ناحية التوزيع على منطقة نجد، حيث تم العثور عليه إلى الشمال من مدينة الرياض.. على سلسلة تلال تطل على وادي صلبوخ، وتمتد جنوبا إلى الخرج والأفلاج ووادي الدواسر والفاو.. وتأتي الصورة العامة لهذه الأشكال على هيئة وتد محدود.. وهو عبارة عن ذيل رفيع جدا يتسم تشييده عادة بوضع لوحين حجريين يبعد الواحد عن الآخر بمقدار 50 سم ثم ملئت المسافة بينهما بالدبش. وتبعا لطول الذيل يستمر الهيكل في التطاول، ويمتد في الحجم حتى يصل إلى أقصى درجة له في الاتساع عند نهاية الرأس.. إن كثيرا من هذه الأشكال قد تم تنقيبه دون التوصل إلى نتائج مثمرة، فقد تم عمل مجسات سريعة في الموقع بيد أنه لم يعثر على أية مواد مصنعة. وفي الخرج تم حفر شكل صغير مدبب موجود في أحد حقول القبور بغية التحقق من معاصرته للركامات الترابية الدائرية. وعلى النقيض من معظم هذه الأشكال التي كان يظن أنها تستخدم مقابر، فإن هذا الشكل قد برهن على أنه كان يستخدم لهذا الغرض.

الدوائر الحجرية: إن الدوائر الحجرية سواء البسيطة في تصميمها أو المركبة أم التي تكون جزءا من قرية أو مسكن - قد تميزت بكونها أقل ما تم العثور عليه من آثار في هذا الموسم.. وقد يقال: إن المنطقة الحضارية التي تميزت بتركيبات الدوائر فيها لم تمتد إلى جنوب بريدة، حيث إن عددا قليلا جدا من الدوائر الحجرية هو الذي تم تسجيله سواء في منطقة القصيم أو في منطقة الرياض، كما كان لعدد من الدوائر أيضا جدران تطويق مقوسة، وهذا يتشابه أيضا مع الأشكال التي تم العثور عليها في المنطقة الشمالية، وقد بدا أن الدوائر تتشكل في ثلاث مجموعات مميزة، ومما يؤسف له أنه لا توجد أية مواد أثرية في هذه المواقع».

القول الرابع: ورد ضمن التقرير المبدئي عن مسح المنطقتين الوسطى والجنوبية والغربية لعام 1979م إعداد جوريس زارينس، وآخرين قولهم:

«أطلال المنشآت: لم يكن هذا النوع من الآثار شائعا جدا في مواسم المسح السابقة فحسب، بل في هذا الموسم أيضا، وتعد الصفة الغالبة على هذه المواقع أنها غير قابلة للتمييز الزمني وهي تضم: الوحدات المستدقة الطرف لها ما يشبه الذيل، والقبول الركامية، والدوائر الحجرية.

وتتميز هذه الوحدات عن غيرها بأن لها رؤوسا صغيرة جدا وذيولا ضيقة. وأن الرؤوس كانت في بعض الأحيان من الطرفين معا، كما أن هذه المنشآت لم تكن تستخدم بغرض الدفن طالما أنه لم يعثر بداخلها مطلقا على أية مواد أثرية أو عظام.

الدوائر الحجرية: على الرغم من ندرة هذه الدوائر فإنه يمكن تقسيمها إلى فئتين أو ثلاث فئات.. بالنسبة للمنطقة الشمالية.. والمنطقة الوسطى.

المجموعة الأولى منها يمكن القول: إنها منشآت سكنية.. وترتبط المجموعة الثانية ذات الدوائر الكبيرة بأغراض الدفن المتعلقة بالأشكال ذات الأطراف المدببة.. في حين تتمثل المجموعة الثالثة في عدد من الدوائر الكبيرة المنعزلة بعضها عن بعض.. ومع أنه من الصعوبة بمكان أن نحدد تاريخ هذه الأنواع الرئيسية الثلاثة من المنشآت، إلا أن جميع هذه الأمثلة في الواقع قد تنتمي إلى الطرق الرئيسية في تشييد القبول إبان المدة من الألف الخامس إلى الثالث قبل الميلاد».

القول الخامس: في العدد (5) من حولية «أطلال»، عام 1981م. وضمن التقرير المبدئي عن مسح المنطقة الغربية عام 1980م. بحث ليستر كيلك وآخرين.

تناول هذا التقرير من تكلموا عن مواقع الرجوم والمنشآت الحجرية في المنطقة الغربية، ومن بين ما تناوله «المذيلات الحجرية» وبعد وصفهم لها قالوا:

«الجدير بالذكر هنا أن المغزى من هذه الذيول - ومثيلاتها في مختلف أنحاء المملكة - لا يزال موضعا للنقاش».

وقالوا عن هذه الشواهد الأثرية من مذيلات ودوائر الموجودة في «أم وعال» (أم أوعال) أو بالقرب منها في المنطقة الشمالية: منها ما يكون للاستيطان، ومنها ما هو لصيد الحيوانات الوحشية. أما التقرير الثاني عن مسح المنطقة الشمالية أيضا فأشار إلى أنه:

يحتمل أن تكون على شكل زرائب للحيوانات، وربما كانت تجمع بقايا القرى والحصون، وأما رأيهم عن الدوائر الحجرية في منطقة المجمعة ففيه نوع من التحفظ حيث قالوا: يجب أن ننتظر أن يتم الكشف عن عدد كاف منها حتى يكون إزاحة الستار عن أصلها ككل، إذ لا يتعدى شكلها اليوم عن كونه أكواما من الحجارة وضعت في غير انتظام. ولكن نتيجة لفحص عاجل لكمية منها حصروا خمسة أنواع من حيث الشكل فقط. وبقيت قضية المدافن مسيطرة عليهم.

وفي التقرير الثالث الخاص بمسح المنطقة الوسطى، وعند الكلام عن الأشكال المدببة أي: ما يسمى بالمذيلات، قالوا: إن أول من لاحظ هذا النمط هو «فيلد» عام 1971م.

ويقول الباحث الشايع: هذه الجهود تذكر فتشكر لإدارة الآثار والتخصيص، وأشير إلى أنه لاحظها قبل فيلد فريق من الرحالين المتخصصين برئاسة «فيلبي» حيث وقفوا على هذه الأنماط في المنطقة نفسها، وذلك في عام 1951م، وقد وصفها هذا الفريق وصفا رائعا.

وهكذا مضى قرابة ثلاثين عاما، ولا يزال النقاش العلمي دائرا بشأنها وأصلها. وورد في «سلسلة آثار المملكة العربية السعودية» التي أصدرتها وكالة الآثار والمتاحف بوزارة المعارف (وزارة التربية والتعليم حاليا) مؤخرا في سنة 1423هـ، في صفحة 68 من القسم الخاص بـ«آثار منطقة القصيم» وهو الجزء الرابع تحت عنوان: «المنطقة في عصور ما قبل التاريخ» ما نصه: «.. أما عن وظائف هذه المنشآت الحجرية، فعلى الرغم من أن ثمة اتفاقا بين الدارسين بأنها تعود إلى العصور الحجرية، فإن تفسير وظائفها الاجتماعية لا يزال محط نقاش واسع، فالبعض يرى أنها استخدمت للسكن، وبعضهم الآخر يعتقد أنها مدافن جنائزية، ومنهم من يرجح أنها ذات علاقة بالطقوس الدينية». انتهى.

واعتبر الباحث الشايع أن ما أورده في هذا الأطلس من أقوال علماء اللغة والبلدانيين، وكذا أبيات الشعر التي ورد فيها ذكر لطرق القوافل، ووصف ما عليها من صوى وآرام، وكذا صور بعض الأنماط التي شاهدتها على جواد الطرق يهدف إلى استنهاض همم شبابنا المتخصص في علم الآثار ليشمروا عن سواعدهم، ويدرسوا هذه الشواهد الأثرية المحيرة التي تزخر بها بلادنا، والتي ما زالت محل نقاش بين الباحثين. وإني متفائل من أن شبابنا بعد نيلهم الشهادات العليا في هذا المجال لجديرون بفك رموز تلك الشواهد والتوصل إلى حقائق الأمور على أسس علمية سليمة تقطع دابر الشكوك والأقوال التي لا تتعدى الظن والتخمين.

والحجة قائمة على الجميع، ولا سيما في زمننا هذا حيث توافرت وسائل النقل، وعبدت الطرق، وتوافرت وسائل البحث الحديثة. ويزداد تفاؤلي أكثر بالتنظيم الجديد للآثار حيث تم دمجه مع الهيئة العليا للسياحة لتصبح الهيئة العامة للسياحة والآثار بقيادة ربانها الماهر والفعال الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز الذي وجه بتنظيم برامج الآثار العلمية، وتنشيط البعثات الأثرية، ودعم الباحثين الآثاريين.

وأورد الشايع عددا من أقوال علماء اللغة، ووصف الشعراء لما هو موجود على جواد الطرق، موضحا أن علماء اللغة وأصحاب معاجم البلدان تكلموا عن دلالات الطرق، وهي ركامات حجرية سموها بعدة أسماء كما هو واضح من أقوالهم، وفيما يأتي بعض ما قالوه:

قال ابن منظور في «لسان العرب المحيط» مادة «علم»: «.. يقال لما يبنى في جواد الطريق من المنازل يستدل بها على الطريق: أعلام، واحدها علم. والمعلم: ما جعل علامة وعلما للطرق والحدود مثل أعلام الحرم ومعالمه المضروبة عليه. والعلم: المنار. قال ابن سيده: والعلامة والعلم: شيء ينصب في الفلوات تهتدي به الضالة».

وكما تسمى الركامات الحجرية الموضوعة على جواد الطرق أعلاما تسمى «المنار»، قال ياقوت الحموي في رسم «العلم»: «ويقال لما يبنى على جواد الطرق من المنار ومما يستدل به على الطرق أعلام».

ويقول ابن دريد في كتابه «الاشتقاق».

«أبرهة ذو المنار تبع. وأبرهة: اسم حبشي. ذو المنار هو أول من بنى الأميال على الطرق، فسمي ذا المنار».

وقال ابن منظور:

«ذو المنار: ملك من ملوك اليمن واسمه أبرهة بن الحارث الرايش، وإنما قيل له ذو المنار، لأنه أول من ضرب المنار على طريقه في مغازيه ليهتدي بها إذا رجع».

وهناك طريق يخرج من «حجر اليمامة» (الرياض حاليا) يسمى طريق المنار، ولا شك أن العرب يفرقون بين هذه الشواهد الأثرية فيعطون لكل نوع منها اسما حسب حجمه وارتفاعه، ومن ضمن هذه الأسماء الصوى، وقد أورد ابن منظور من أقوالهم:

«الصوى والأصواء الأعلام المنصوبة المرتفعة في غلظٍ».

أما عن تسميتها بالآرام، فقال ياقوت الحموي: «إرم بالكسر ثم الفتح، والإرم في أصل اللغة حجارة تنصب في المفازة علما، والجمع آرام وأروم مثل ضلع وأضلاع وضلوع».

هذه مقتطفات من تعريفات علماء اللغة لهذه الشواهد الأثرية الموضوعة على جواد الطرق، ومما يدل على أن بعض هذه الطرق التجارية القديمة كانت تسلك قبل الإسلام وبعده ما ذكره شعراء العرب من وصف لها ولأعلامها الموضوعة على جوادها، وهو وصف يدل على تعدد أشكال هذه الأعلام وأنماطها والدلالات الموضوعة على جواد الطرق. وإليك بعض أقوالهم:

قال أبو الهذلي:

* على طرق كنحور الركا - بتحسب آرامهن الصروحا

* بهن نعام بناها الرجا - لتبقي النفائض فيها السريح.

وقال ذو الرمة:

* وأرض تسحل الريح متنها - كساها سواد الليل أردية خضرا

* طوتها بنا الصهب المهاري فأصبحت - تناصيب أمثال الرماح بها غبرا

* من البعد خلف الركب يلوون نحوها - لأعناقهم كم دونها نظرا شزرا.

وقال الأعشى:

* وبيداء تحسب آرامها - رجال إياد بأجلادها يقول الدليل بها للصحا - ب لا تخطئوا بعض أرصادها.

وقال جرير في قصيدته التي يهجو فيها الشاعر ابن لجأ:

* خل الطريق لمن يبني المنار به - وأبرز ببرزة حيث اضطرك القدر.

فقال ابن لجأ يرد عليه ضمن قصيدة طويلة:

* ابنوا المنار فإن العبد ينضده - فوق الصوى وعلى خرطومه المدر.

ومن أشعارهم التي يصفون فيها أعلام الطرق ودلالاتها على الجواد ما قاله الجليح بن شديد، وهو في سفر، وكان من ضمن مرافقيه في هذه الرحلة الشاعر الشماخ. وعندما طالت بهم الطرق ليلا اقترح الشماخ أن يرتجزوا بأهازيج تذهب عنهم الملل والسأم. فقال الجليح:

والرحب فوق لاحب ملس الحصى - أبلق لا يقضي به القوم الكرى - معبد يهدي إلى ماء صرى - طامي الجمام لم تكدره الدلا - بجانبيه زقيات للصدى - يهدي الضلول ينتحي حيث انتحى - له علامات على حد الصوى.

ومن أقوال علماء البلدان وعلماء اللغة، ومن أبيات الشعر المتقدم ذكرها أصبح هناك قناعة بأن ما يشاهد على الطرق التي تتبع الباحث مساراتها ما هي إلا أعلام ودلالات لاتجاهات الطرق وأماكن موارد المياه فيها.

* أنماط الشواهد الأثرية

* وأورد الباحث أنماطا لتلك الشواهد الأثرية الواقعة على جواد الطرق القديمة، موضحا أن الأنماط الأثرية يقصد بها تلك الركامات الحجرية المنتشرة في الجزيرة العربية بكثافة فوق الجبال والحرار والقفاف، والحزون، حتى في السهول.

وقد وقف المستشرفون خلال رحلاتهم على بعض تلك الأنماط، واختلفوا في تفسيراتهم للغرض الذي وضعت من أجله تلك الركامات الهائلة، كما اختلفت تفسيرات من جاء بعدهم، من متخصصي الآثار، حيث قالوا عنها:

إنها قد تكون مساكن، أو مدافن جنائزية، أو لها علاقة بأمور تعبدية.

وهذه الأنماط تتمثل بالصوى، والمذيلات، والدوائر الحجرية، والمسننات، والحبال الحجرية على متون الجبال، والحجارة المنصوبة، والمستطيلات، والأشكال المعقدة التركيب.

وعندما نقرأ لبعض الرحالة نجد أنهم يشعرون بحسرة، لأنهم غادروا تلك الظواهر الأثرية التي وقفوا عليها دون أن يعرفوا الغرض الذي استخدمت من أجله.

وقال الباحث في أثناء رحلاتي الميدانية في مختلف المناطق حصرت الآلاف من تلك الشواهد، وقمت بتصويرها وتحديد أماكنها حسب دوائر العرض وخطوط الطول.

فالنمط الأول - الصوى وهو جمع صوة، وهي ركم من الحجارة توضع على جواد الطريق ليهتدي بها المسافرون.

قال ابن منظور عن الصوى:

«الصوة: حجر يكون علامة في الطريق، والجمع صوى، وأصواء جمع الجمع.. وقيل: الصوى والأصواء الأعلام المنصوبة المرتفعة في غلظ، وفي حديث أبي هريرة: «إن للإسلام صوى ومنارا كمنار الطريق، ومنه قيل للقبور أصواء.

قال أبو عمرو: الصوى أعلام من حجارة منصوبة في الفيافي والمفازة المجهولة يستدل بها على الطريق وعلى طرفيها، أراد أن للإسلام طرائق وأعلاما يهتدى بها.

قال يعقوب: والعلم ما نصب من الحجارة ليستدل به على الطريق، والعلم الجبل.

وفي حديث لقيط: «فيخرجون من الأصواء، فينظرون إليه ساعة»، قال القتيبي يعني بالأصواء القبور، وأصلها الأعلام، شبه القبور بها، وهي أيضا الصوى، وهي الآرام».

ويقول الباحث ما أقرب الشبه بين الصوى التي توضع على جواد الطريق ليهتدي بها والقبور الجاهلية القديمة، ولهذا السبب التبس الأمر على الرحالة المستشرقين، وعلى من أخذ بقولهم من أن تلك الصوى المنتشرة في البراري والقفاز ما هي إلا مدافن للموتى، ولم يرد أصلا في أذهانهم أن هناك علامات للطرق يستدل بها.

والفرق واضح بين صوى الطريق وصوى المقابر القديمة، ففي الغالب يكون القبر على شكل خيمة صغيرة يوضع الميت فيه ثم يغطى أعلاه المستدق بحجر وتوضع فوقه الحصباء، وربما بنيت غرفة صغيرة يوضع الميت فيها وتحاط بالحجارة، وتدفن بالأتربة، وهذه ما تسمى عند الآثاريين بالمدافن.

أما النمط الثاني: المذيلات الحجرية فيه من الشواهد الأثرية التي حيرت الرحالة وعلماء الآثار، وهي منتشرة بكثرة في مناطق متعددة.

والمذيلات ذات أشكال وأنماط مختلفة، منها ما ينطلق من ركم كبير مصمت أو دائرة، ومنها ما ينطلق من ركم دائري الشكل فارغ الوسط، وهذا النوع سماه ليبتز في كتابه «رحلة استكشافية في وسط الجزيرة العربية» الذي أصدرته دارة الملك عبد العزيز عام 1999 بالمغارف تشبيها للواحد منها بمغرفة الأكل، وقد أصاب في وصفه هذا لهذا النوع من المذيلات.

ويقول الباحث: وقد ميزت ما وقفت عليه من المذيلات المتشابهة لها - بمذكراتي الخاصة - بكلمة «مغرفة ليبتز» تمييزا لها عن الأذيال الأخرى، ومنها ما ينطلق من رأس مثلث فارغ.

ويراوح علو الأذيال بين 80 سنتيمترا و100 سنتيمتر، وقد يزيد علوها في بعض الأماكن، وقد يقل في أماكن أخرى.

ويبدو لي أن الاختلاف في ارتفاعاتها خاضع لتوافر الحجارة، ولأسباب أخرى قدرها من قام بتنفيذها.وكما اختلفت ارتفاعاتها اختلفت أطوالها، فقد يبلغ طول الذيل نصف كيلومتر، وفي بعض الأماكن قد يصل امتدادها إلى كيلومترين اثنين.

أما إذا ألحقنا بها تلك الحجارة المثبتة في الأرض وفوق المرتفعات فلا حد لطولها، حيث يسير الماشي بمحاذاتها عدة كيلومترات.

وبخصوص النمط الثالث - الدوائر الحجرية فهي تكثر على مسارات الطرق التجارية القديمة، وكما تحير الرحالة والباحثون الآثاريون في أمر المذيلات كانت حيرتهم في الدوائر الحجرية أكثر، من يقف على تلك الدوائر ويتفحصها يتحير بل يصاب بالدهشة والانبهار مما يشاهد، لكونها دوائر كبيرة الحجم بحيث يصل قطر بعضها إلى 50 أو 60 مترا، أما ارتفاع محيطها فأغلبها لا يزيد ارتفاعه على 80 سنتيمترا وقد يقل عن هذا، وبعضها، وبخاصة ما كان على المرتفعات، يرتفع جدارها الخارجي قدر قامة الرجل.

يصاحب هذه الدوائر بعض الإشارات والرموز بداخلها أو خارجها، وبخاصة الصوى، فقد تكون الصوة وسط الدائرة، وقد تكون بداخلها جهة المحيط، وأحيانا تكون على المحيط نفسه.

وبعض الدوائر تكون خالية تماما والأرض داخلها على طبيعتها التي خلقها الله عليها، وقد ينطلق من بعض الدوائر ذيل طويل، وقد قيل عن هذه الدوائر: إنها قد تكون مساكن أو مدافن، أو لأمور تعبدية، أما بالنسبة إلي فمن كثرة تتبعي لمسارات الطرق القديمة، وحصر ما عليها من دوائر ومذيلات وصوى فلدي اقتناع بأن أغلبها دلالات على هذه الطرق.

ويتساءل الباحث الشايع: لماذا هذا الإسراف الزائد على الحاجة، ثم لأي شيء بنيت، ومن بناها، ولماذا لم يرد عنها كلام في كتب التراث؟!! إنها أسئلة تصعب الإجابة عنها، وكان جوابي - مع أني لا أملك الجواب المقنع عن هذه الأسئلة - أن هذه الشواهد الأثرية المحيرة في بلادنا فرضت نفسها علينا، ويبدو لي أنها موغلة في القدم، وقد هجر الاستدلال بها منذ مئات السنين، وهي أعمال جبارة تدل على أن من قام بإنشائها دولة قوية. وفيما يتعلق بالنمط الرابع من الشواهد الأثرية، وهي المسننات، يوضح الباحث أن المسننات، ركامات حجرية موضوعة على حواف أعالي الجبال والحرار والصفاري يراها السائر من بعد كأسنان المشط، وهذا النوع من الشواهد يستمر لمسافة طويلة قد تصل إلى كيلومتر واحد أو تزيد، والمسننات التي شاهدتها ووقفت عليها ثلاثة أنواع:

النوع الأول: ركامات دائرية الشكل تبنى كالأبراج الصغيرة تبدأ كبيرة ثم تصغر تدريجيا، وتستمر متفرقة ومتقاربة، وقد يبلغ ارتفاع أكبرها أطول من قامة الرجل.

النوع الثاني: على شكل دوائر صغيرة تستمر متفرقة بعضها بجوار بعض.

النوع الثالث: على شكل مثلثات محكمة التنفيذ أخذ بعضها برقاب بعض.والمسننات ترى من مسافات بعيدة، ولعل بعضها نمط من أنماط العلامات الموضوعة على مسارات طرق القوافل التجارية القديمة، وقد وصف الشاعر ابن لجأ تلك الآرام حين قال:

* ودون مزاركم لسرى المطايا - من الأعلام أشباه وبيد

* كان أرومها والآل طاف - على أرجائها نبط قعود.

فهذا وصف رائع لتلك المسننات، فالناظر إلى بعضها من بعد يراها كرجال جالسين في صف وهم قعود.

وتكثر المسننات على الحرار: وذلك لتوافر الحجارة، وهي منفذة بإسراف أقرب ما يقال عنه: إنه عبث، لكونها تزيد على الغرض الذي نفذت من أجله، وهي تتكثف بشكل لافت للنظر على حرة «نواصف» الواقعة جنوب مدينتي الخرمة ورنية، وحرة «كشب» وكذا حرة «رهاط» وما أشمل منها من الحرار.

أما النمط الخامس من الشواهد الأثرية فهي الحبال الحجرية على متون الجبال، وهي عبارة عن خط من الحجارة مرصوف من قمة الجبل إلى السفح يرى من بعد كالحبل الممدود على صفحة الجبل، وترى هذه الحبال من مسافة بعيدة، وتزداد وضوحا كلما ابتعد الناظر عنها.

ويبدو للباحث أن هذه التسمية محلية، وقد ورد في الخرائط الجغرافية اسم «جبال أم حبل» أو جبل «أبو حبال».

ويضيف: كان أول حبل رأيته على صفحة جبل مما يلي مورد ماء «المحدث» يراه السائر على الطريق السريع بين الرياض والطائف، وذلك بعد اجتياز بلدة «الخاصرة» ونفود الثمامية، أي في الطرف الغربي من الجبال المسماة في وقتنا الحاضر «جبال رغبا» وعندما رأيته أول مرة حسبته من طبيعة الجبل، ولكن بعد الوقوف عليه اتضح أنه من صنع الإنسان.وقد حصرت عددا من هذه الحبال في مناطق مختلفة، ولعل أكثر وجود لها على جبال «الريانية» وجبال «الحمرانية» الواقعة شمال غربي وادي الدواسر.

وبخصوص النمط السادس، الحبال الممتدة على السطوح الحجرية المستوية، فهي مشابهة للحبال الموضوعة على متون الجبال التي تنحدر من قممها إلى السفوح، إلا أن تلك الحبال الموجودة فوق السطوح المستوية تكون أقل عرضا وأطول امتدادا، بحيث يصل امتدادها على الأرض أحيانا إلى بضعة كيلومترات، وهي حجارة مغروسة في الأرض قد يبلغ علوها في بعض الأماكن خمسين سنتيمترا أو تزيد، وذلك حسب نوع الحجارة المتوافرة.

* أعمدة الرجاجيل

* ويشير الباحث إلى النمط السابع من أنماط الشواهد الأثرية المتمثل في الحجارة المنصوبة في البراري التي حيرت من وقفوا عليها، مثل تلك الأعمدة الحجرية المنصوبة في منطقة الجوف قرب سكاكا، وقد أطلق عليها اسم «أعمدة الرجاجيل»، لأن من يقبل عليها من بعيد يتصورها رجالا واقفين، وقد تناولها علماء الآثار بالدراسة والوصف، إلا أنهم لم يتوصلوا إلى معرفة الغرض الذي نصبت من أجله على هذا الشكل اللافت للنظر.

وقد تم رصد موقعين آخرين يوجد فيهما جارة منصوبة، أحدهما قرب المزاحمية، جنوب غربي مدينة الرياض، والآخر شرق مدينة الشماسية بمنطقة القصيم.

وفي أثناء رحلات الباحث الميدانية وقف على أعمدة حجرية منصوبة في أماكن متباعدة، ولعل أبرز تلك الحجارة المنصوبة التي تعرف أماكنها بالإضافة إلى ما مر ذكرها، هي:

أعمدة منصوبة قرب ماء «الهبالة» شمال وادي الدواسر، وأعمدة منصوبة قرب وادي الشوكي شمال مدينة الرياض، وأعمدة منصوبة شرق مدينة حائل، وأعمدة منصوبة جوار بلدة صوير، شمال شرقي مدينة سكاكا.

وبما أن هذه الأعمدة الأخيرة قريبة من البلدة، فقد نقل الصالح منها، ودفنت الرمال بعضها، ولم يبق تماما منها سوى عمود واحد، حيث ما زال منتصبا كشاهد على مصرع إخوة له، ولولا أنه لم يكن معيبا لكان مصيره النقل من مكانه.

والأحجار المنصوبة في البراري لا تقل غرابة عن المذيلات والدوائر الحجرية، فهي ذات أنماط مختلفة باختلاف الغرض الذي وضعت من أجله، وقد تبين للباحث بعد الوقوف على بعض هذه الأنماط، سواء داخل المملكة أم خارجها، أن منها ما هو علامات للطرق، ومنها ما هو مقابر، والثالث له علاقة بالمساكن.

فالنمط الأول: تلك الحجارة المنصوبة التي وقف عليها الباحث في أماكن متفرقة من السعودية لا شك أنها من علامات ودلالات طرق القوافل القديمة، وقد وصفها شعراؤنا على جواد الطرق.

والنمط الثاني: المدافن، وهي حجارة ضخمة، الواحد منها يزن عدة أطنان، وهي مكونة من حجرين كبيرين عريضين متقابلين موضوع فوقهما حجر أكبر منهما كسقف لهما، وأما الجهتان الأخريان فتقفل إحداهما بحجر عريض، والأخرى بحجر آخر، لكن هذا الأخير منحوت فيه فتحة مثل النافذة تعد المدخل لهذا القبر الحجري، ويتم قفل الفتحة بحجر، هذا النوع من الحجارة يكاد الباحثون يتفقون على أنها مدافن للموتى.

وهناك الأشكال المستطيلة التي تعد من أنماط الشواهد الأثرية، حيث أوضح الباحث الشايع أنه من خلال اهتمامه بالطرق المختلفة لم يشاهد من بين علامات هذه الطرق نمطا غير مألوف، وفي رحلة قام بها إلى منطقة حائل قبل أربع سنوات في الأرض الواقعة جنوب جبلي «حبران» و«أم الأرسان» مر بشكل مستطيل أضلاعه الأربعة مبنية بالحجارة بارتفاع قرابة خمسين سنتيمترا، وليس له فتحات أبواب، يبلغ طوله 395 مترا، وعرضه 35 مترا، وأرضه من الداخل على طبيعتها مثل الأرض المجاورة له من الخارج ليس في داخله ما يدل على أنه كان سكنا، وقد استعصى على الباحث التوصل إلى معرفة الغرض الذي نفذ من أجله ويبدو أنه موغل في القدم.

وعندما تجولت في المكان الذي يوجد فيه هذا المستطيل المحير عثرت على عدد من المستطيلات، منها ما هو مشابه له في الطول والعرض، وما هو أصغر حجما، وهذه المستطيلات تمتد باتجاه واحد من جهة الجنوب إلى جهة الشمال، ومنها ما هو مزدوج الترتيب أي: مكون من مستطيلين متجاورين.

أما استطالتها فليس لها ضابط، فبعضها استطالته باتجاه الشمال، وبعضها الآخر باتجاه الغرب.وقد غادرت المكان.

وهناك الأشكال المستطيلة التي تعد النمط التاسع من الشواهد الأثرية، وقد حير ذلك الباحثين كما أن هناك نمطا تاسعا، وهو الأشكال ذات التركيب المعقد، حيث أوضح الباحث الشايع أنه أثناء رحلاته التي كان يقف فيها على بعض الشواهد الأثرية التي يختلف تركيبها عن الدوائر والمذيلات الحجرية، حيث يتكون الواحد منها من ركم كبير أو دائرة، وينطلق من هذا الشكل ذيلان قد يطولان أو يقصران يشكلان زاوية، ومن قراءتي لما كتبه متخصصو الآثار، فإن هذه الأشكال هي ما يسمونه المصايد، أي أنها وضعت لصيد الوحوش النافرة. ومع أني لست معهم في هذا التعليل لوجودها، فقد تقرر عندي أنها نمط من أنماط دلالات الطرق، ومما زاد أمر هذه الظاهرة الأثرية تعقيدا ما رصدته في أثناء تجوالي في حرة الحرة الواقعة في منطقة الجوف حيث تم رصد عدد من الأشكال المعقدة التركيب، وهي على شكل دوائر صغيرة يربط بينها مثل الجدار ينتظم بعضها ببعض لتشكل فناء واسعا له فتحة واحدة، وينطلق من جانبي هذه الفتحة حبلان من الحجارة المغروسة في الأرض الصلبة، ويستمر كل واحد من هذين الحبلين يتعرج مع الحرة مسافة طويلة قد تصل إلى نصف كيلومتر أو أكثر، وقد ينطلق من بعض هذه الأشكال المعقدة التركيب أكثر من حبل أو جدار حجري، وهذه الحبال لا يزيد علوها في الأغلب على 80 سنتيمترا.

* العقبات طرق وعرة في الجبال

* ويختم الباحث دراسته بالحديث عن النمط العاشر من الشواهد الأثرية، وهو العقبات والمنقيات، موضحا أنه تعترض مسارات الطرق جبال عالية يصعب على الإبل المحملة اجتيازها إلا بعد تذليلها وتسهيل طريق يمكن الصعود أو النزول معه، وإن كان فيه مشقة، قال ابن منظور: «العقبة: واحدة عقبات الجبال، والعقبة: طريق في الجبل وعر والجمع عقب وعقاب. والعقبة: الجبل الطويل، يعرض للطريق فيأخذ فيه، وهو طويل صعب شديد، وإن كانت خرمت بعد أن تسند وتطول في السماء، في صعود وهبوط أطول من النقب، وأصعب مرتقى، وقد يكون طولها واحدا».

أما النقل فهي تنقية الجواد الصاعدة مع المرتفعات الجبلية، وقد تكون النقل في الأراضي الوعرة كالحرار والقفاف، حيث يتم نقل الحجارة عن جادة الطريق حتى يسهل سير الإبل معها.

وقد يسمى النقيل بـ«المنقي» لكونه نقيا من الحجارة الخشنة المؤذية لخفاف الإبل، وذلك بنقل الحجارة على جنبي الطريق، أو يعمدون إلى تجميعها على شكل أكوام تشبه «الصوى» فتسير المواشي بينها، وهناك عقبات اشتهرت في العصور المتقدمة والمتأخرة، وقد تكلم عنها، ومما يؤسف له أنه بعد مجيء وسائل النقل الحديثة نسي أمرها وأهملت فخربتها السيول.

ولعل أكبر مثال على هذا تلك العقبة القريبة من مدينة الرياض المسماة بـ«طلعة القدية» التي يتصور كثيرون أنها تلك الطلعة التي ينزل معها الطريق السريع مع حافة جبل، الغربية شمالا من قصور آل مقبل، وهذه الطلعة المعبدة سميت باسم الطلعة القديمة التي تصعد معها الإبل المحملة القادمة إلى اليمامة وحجر اليمامة على مر العصور.

وهي واقعة جهة الجنوب منها على بعد كيلومترين ونصف الكيلومتر، وهي عقبة كؤود منفذة تنفيذا محكما، ومن ينزل معها الآن على قدميه يعرف ما بذل فيها من جهد وروعة في التنفيذ، كما أنه يوجد شمالا من الطريق السريع أربع عقبات، ولكنها لا ترقى إلى مستوى عقبة القدية من حيث التنفيذ، وهذه العقبات موغلة في القدم، يدل على هذا تلك الدوائر والمذيلات فوق حافة طويق التي تقود إلى هذه العقبات، وقد وقف الباحث عليها عدة مرات، وتحدث عنها ضمن محاضرة بعنوان «حجر اليمامة وطرقها القديمة» ألقاها في قاعة المحاضرات في مكتبة الملك فهد الوطنية ضمن موسم دارة الملك عبد العزيز، كما قام الباحث بزيارة لحافة طويق من هذا الجانب، وذلك لتصوير أحد المشاهد الأثرية القريبة من إحدى هذه العقبات فلفت انتباهه وجود عدد من اللوحات مكتوب عليها «موقع مدينة الرياض السياحي» فاستبشر خيرا بأنه سيقام في هذا الحيز من حافة الجبل ذات المناظر الخلابة مكان للترفيه والسياحة، ولكن هذا الاستبشار شابه شيء من الخوف والقلق على تلك الشواهد الأثرية من دوائر ومذيلات حجرية وعقبات نفذت منذ عصور متقدمة، لكون منفذي المشاريع عندنا لا يلقون بالا للمواقع التاريخية، وكأني بسائقي الجرافات يتسلون بتدمير ما عمره الأسلاف سواء أكان ذلك بقصد أم عن غير قصد.

وأهاب الباحث بالمسؤولين عن تنفيذ المشاريع بالمحافظة على تلك الشواهد الأثرية وأمثالها التي تعاقبت عليها القرون، لكونها من عناصر السياحة في بلادنا.