السعودية.. التحول من صناعة الأقوال إلى صناعة الأفعال

الملك عبد الله يضع استراتيجية جديدة لمفهوم التنمية في بلاده تتجاوز تحقيق الغنى إلى آفاق رحبة * رحلة الثراء الإنساني والإبداع ودعم الذاتية الحضارية للمجتمع * وزير سعودي سابق يطرح رؤى متوازنة للتنمية المنشودة جوهرها إرادة وإدارة التغيير

الملك عبد الله وضع استراتيجية جديدة لمفهوم التنمية المنشودة في بلاده
TT

قاد الملك عبد الله بن عبد العزيز بلاده إلى آفاق رحبة، وخلال السنوات الست الماضية التي تسلم فيها مقاليد السلطة في بلاده، حققت السعودية نجاحات لافتة في مجالات مختلفة؛ حيث وضع الملك عبد الله تنمية الإنسان في قائمة الأولويات وأقر الملك مجموعة من القرارات التي تخدم الإنسان وتجعله محورا للتنمية، وجاءت القرارات الملكية الأخيرة لتؤكد عزم الدولة على تحقيق مفهوم التنمية الشاملة وفق استراتيجيات جديدة تتجاوز تحقيق الغنى مع وجود القصور والتخلف، إلى مفهوم يحقق التغيير الحضاري ويدعم الذاتية الحضارية للمجتمع.

وفي ظل هذا التوجه الجاد من قبل القيادة السعودية للوصول إلى التنمية المبتغاة، طرح الدكتور محمد بن أحمد الرشيد وزير التربية والتعليم السابق وأحد التربويين، الذي اختار التربية تخصصا علميا وممارسة عملية طوال سنوات حياته، ولا تزال هي الشاغل له وجل اهتمامه، رؤى حول التنمية التي ننشدها والتربية التي تحققها من خلال تناوله موضوع التنمية المنشودة، حيث مر مفهوم التنمية بزمن نظر إليه من مدخل اقتصادي بحت، فكان معيار نجاح التنمية مرتبطا بمؤشرات ارتفاع مستوى الدخل، وتوافر السلع والخدمات في المجتمع.

وأوضح الرشيد خلال محاضرة ألقاها في جامعة أم القرى بمكة المكرمة مؤخرا عن «التنمية التي ننشدها والتربية التي تحققها»، أنه يتحدث بوصفه «أحد المهتمين بالتنمية المبتغاة لوطننا؛ لتنطلق جهود شبابنا حين نعدهم إعدادا جيدا من هذه الأرض المباركة، بحركة التجديد والبناء، التي تعيد إلى الدنيا مرة أخرى حضارة الإسلام العظيم، التي أشرق فيها العقل، وازدهر العلم، والبحث والتطوير، واستوعبت القلوب والعقول في سماحة ويسر، في إطار الوحدة، والاجتهاد في الرأي، وقبول الاختلاف في وجهات النظر، في وسطية تنبذ الغلو، وترفض التفريط، وتقوم على الالتزام، وتستجيب بالبحث والتجريب إلى دعوة الرحمن للتأمل في الكون وإحكام صنعه، والسعي في دأب وتواصل لاكتشاف القوانين والنواميس والنظم التي تحكم حركته وانتظامه، وكان ثمرة ذلك كله ظهور العالم المسلم الذي سعى إلى رصد جزئيات حركة الواقع الطبيعي والاجتماعي في عملية مقننة ومتقنة، تنتقل من الأجزاء إلى علائقها ودلالاتها الكلية، والعمل على صياغتها في قوانين علمية، استوعبت الموروث الإنساني العلمي، وأضافت إليه وأثْرته، وكان ثمرة ذلك كله ما أهديناه للإنسانية من بدايات وأساسيات انطلقت منها حركة العلم في عصر النهضة، وشملت إلى جوار العلوم الإنسانية علوم الطب، والهندسة، والبصريات، والرياضيات، والمنطق والفلك، وغيرها من العلوم، وليس في تمجيدنا للماضي إلا أخذ العبرة بأننا قادرون على صنع مستقبل زاهر كماضينا».

في البداية، يتوقف الدكتور محمد الرشيد أمام قضيتين مترابطتين؛ أولاهما: التنمية المنشودة، وثانيهما: التربية التي بها تتحقق التنمية، موضحا أن «تحقيق تقدم في الجانب الاقتصادي ركن أساسي في إنجاز أهداف التنمية، بمعنى أن تتوافر للمواطن الحياة الكريمة، من خلال من دخل مناسب نتيجة عمل مثمر للقادر، وضمان اجتماعي لمن يحتاج لذلك، فلا عوز ولا ضيق عند أحد، ومسكن مناسب، مجهز بمتطلبات المسكن المريح، وخدمات صحية شاملة، وخدمات اجتماعية متنوعة، تحقق للمواطن يسر العيش وراحة البال»، مشددا بالقول: «ولكن ذلك يقينا ليس الهدف الأوحد للتنمية، وقد تجاوزت التجربة التنموية هذا المدخل الأحادي لها، فقد يوجد الغنى مع التخلف، ومن هنا، فإن المفهوم الشامل اليوم للتنمية يركز على دورها في تحقيق تغيير حضاري اجتماعي يدعم الذاتية الحضارية للمجتمع بكل جوانبه.

فالتنمية نهضة مجتمعية شاملة، هدفها، ومدارها، وصانعها هو الإنسان الذي تتحمل مؤسسة التربية مهمة رئيسية في توجيه الجهود وتهيئة وسائل اكتسابه لهذه التغيرات، التي تمكنه من القيام بمهمته التنموية، فالإنسان هو موطن هذه التفاعلات، ونقطة الانطلاق، لكل إصلاح، ولكل تغيير ونهضة، ففي عقله ووجدانه تشرق النهضة، وفي إرادته يتولد صادق العزم، وفي تواصله وتفاعله مع الآخرين تبدأ رحلة الثراء الإنساني والإبداع»، لافتا إلى أن خير تعبير يلفت النظر إلى العنصر الإنساني في التنمية هو ما استهل به تقرير لجنة الثقافة والتنمية التي شكلت بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة، ومنظمة اليونسكو عام 1995م برئاسة دي كويلار الأمين العام السابق للأمم المتحدة؛ إذ أكد تقرير هذه اللجنة الذي نشر وأعيد نشره مرارا أن «التنمية إذا انفصلت عن سياقها الإنساني والثقافي فإنها تصبح نموا بلا روح». ويلخص التقرير حصاد ما توصلت إليه اللجنة من أن التنمية لا تقف عند حدود توفير السلع والخدمات لأفراد المجتمع - مع أهمية ذلك - بل تعني أيضا توافر مناخ للحرية المنضبطة، كما تعني أيضا توفير الفرص التي تتيح لأفراد المجتمع على السواء أن يختاروا بوعي وتفهم نوعية حياة أفضل، تحقق لهم ما يتطلعون إليه من تكامل، وإشباع روحي، ورضا يثري وجودهم، ويحقق إنسانيتهم بكل مناحيها دون هضم لها ولا تفريق بين الناس فيها. ولا تزال هذه الأفكار - مع تقادم كتابتها - هي المعيار الحقيقي للتنمية في كل أنحاء المعمورة.

عوامل تحقيق التنمية المنشودة

* ويقرر الرشيد: «لتحقيق هذه التنمية المنشودة مطلوب توافر عدة عوامل ضرورية من أهمها:

- تحقيق الوحدة الوطنية من خلال تنوع أفكار الناس حول مفاهيم ومكونات هذه الوحدة. وهذا يعني أنه مهما اختلفت الأساليب وتنوعت الرؤى، فإنها لا تختلف على وحدة البلاد والنظر إليها نظرة شاملة غير مجزأة، ودون ميل لجزء من الوطن دون الآخر، مع عدم التفرقة بين المواطنين على أي أساس مناطقي، أو اجتماعي، أو غير ذلك.

- عدم التعصب للرأي، والاعتقاد بأنه الأصوب؛ بل مجموع الآراء هو المكون الشامل، والحوار حولها هو الموصل لتحقيق أنسبها والجامع بينها.

- التقليل من السلطة المركزية، وإعطاء كل جزء من الوطن حق تحديد متطلبات التنمية المناسبة له. وبصورة أوضح؛ فإن أولويات المشروعات التنموية المطلوبة لجزء قد تختلف عما هي مطلوبة للجزء الآخر من الوطن؛ فجزء تناسبه تنمية زراعية، وآخر تلزمه تنمية صناعية، وثالث تلزمه تنمية خدمية، وغير ذلك طبقا لنوع الحياة فيه.

- وجود جهاز متابعة للتنفيذ والمراقبة، مما يعزز التمسك بالقيم الأخلاقية وعدم الإخلال بسلامة الذمم.

- توفر مجالس الشورى على المستوى المحلي، والوطني من أناس هم محل الثقة والنزاهة والحكمة والروية حتى لا تنحرف مسيرة التنمية عما هي موضوعة له مع إعطاء هذه المجالس صلاحية المراقبة والمحاسبة، وقبل ذلك إعطاء هذه المجالس إقرار الخطط وتحديد الموازنات اللازمة لهذه الخطط التنموية مع مراعاة تامة للإمكانات المادية للدولة.

- وأخيرا.. فإن تكافؤ الفرص بين المواطنين، وتحقيق العدالة، والتكافل الاجتماعي كلها مجتمعة أمور جوهرية ضرورية لن يتحقق استقرار، وأمن، ورخاء، ونماء، دون وجودها جميعا».

ويتناول الدكتور الرشيد ثاني القضيتين المترابطتين لتحقيق التنمية وهي: التربية، موضحا أن «نظرتنا في السعودية إلى دور التربية بمؤسساتها المختلفة في كل مراحلها، وعلاقاتها بالتنمية، أمر محسوم، فشعارنا الذي طرحناه منذ أكثر من عقدين من الزمن، وأرجو أن نستمر على العمل في ضوئه، هو: (وراء كل أمة عظيمة تربية عظيمة)، يقينا بأن التربية هي العامل الحاسم في النماء والتنمية، ولذا، فإن ما تنفقه دولتنا على التربية من ميزانيتها السنوية يمثل نسبة مئوية كبيرة، لا أعرف أن دولا في مثل ظروفنا تنفق مثل ذلك القدر، وخطط التنمية في المملكة تركز على الإنسان بوصفه غاية التنمية، وفي الوقت نفسه هو وسيلة تحقيقها؛ بل إن الأمر يتعدى ذلك كله، فالإنسان كما جاء في نصوص القرآن الكريم هو المستخلف في الأرض، والأمة المسلمة من خلال مؤسساتها وفي كل مراحل التعليم فيها، تعمل عندنا لتهيئة هذا الإنسان؛ ليكون كفئا لما أراده الله له أن يكون خليفته في الأرض، عضوا فاعلا في الأمة التي هي خير أمة أخرجت الناس، يعمر ولا يدمر، ويستعمل عقله مسهما فيما يحقق الخير للبشرية». ويلفت الرشيد إلى أنه «مما سبق عن الرؤية المتوازنة للتنمية باعتبارها عملية حضارية شاملة لمختلف أوجه النشاط في المجتمع بما يحقق رفاه الإنسان وكرامته، تنطلق رسالة التربية وجهودها في بناء الإنسان وتحريره، وتطوير كفاءاته، وإطلاق قدراته، للعمل المثمر البناء، وتمكينه من المعرفة والمهارة اللازمتين لاكتشاف موارد المجتمع وتنميتها من أجل بناء الطاقة الإنتاجية القادرة على العطاء المستمر؛ فالتنمية في جوهرها إرادة تغيير، وإدارة تغيير معا، تنصهر فيها تطلعات الإنسان، وتتبلور إرادته، وتنطلق جهوده، وتستثمر طاقاته من أجل تحقيق الحياة الكريمة الفاضلة للإنسان في الحاضر والمستقبل».

التربية تقود تطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية

* ويؤكد الرشيد على أن «التربية بكل صورها في كل مراحلها، في سعيها لتحقيق هذا التغير المنشود، في فكر الإنسان وقدراته وسلوكه، التي تمكنه من القيام بمهمته التنموية، لا تعمل في فراغ، فهي فرع من المنظومة الاجتماعية الاقتصادية التي تحتويها، والتي تؤثر فيها وتتأثر بها، في علاقة تفاعل واندماج، فالتربية مطالبة بأن تقود هي تطور الأوضاع الاقتصادية، والاجتماعية في وطنها، وأن تستجيب لحاجاته المتجددة، وهي مطالبة أيضا بأن تحقق دورا إيجابيا في توجيه هذا التغيير والتطوير، وأن تسهم في استدامة تصحيحه وتقويمه، وأن تبني في نفوس الناشئة والشباب وعقولهم الوعي العميق بجذورهم وحضارتهم، ليمتلكوا القدرة - في توازن واعتدال - على مواجهة التساؤلات التي تطرحها أزمنة المخاض والتغيير بإيمان راسخ، وعقل منفتح.

والشواهد في أيامنا الحالية تثبت أن المجتمعات عامة، والعربية منها خاصة، تتغير تغيرا جذريا، وما كان مقبولا عند جيل مضى، لا يصادف قبولا عند جيل الحاضر، وكل منا يشعر بذلك مع أبنائه والشباب من حوله، لذا نريد من التربية أن يكون لها الدور الرئيسي في توجه الناشئة توجها سليما يوازن بين الالتزام بالثوابت من القيم الإسلامية والمساهمة في التطور الحضاري العالمي الذي من أهم معالمه التقنية ووسائل الاتصال.

من هذا المنطلق تبدأ رحلتنا بحثا عن الصورة العامة لمخطط متكامل عن إعداد أجيال المستقبل في وطننا، والأولويات التي ينبغي التركيز عليها في هذا المخطط لتحقيق أكمل صور التنمية المنشودة والمستدامة.

ولتكن البداية في هذا هي مواجهة السلبيات التي تعوق عملية التربية المتكاملة للنهضة المجتمعية الشاملة، التي يتم في إطارها إعداد الأجيال، وذلك بالتصدي لهذه السلبيات، وأن تحشد في مواجهتها كل الإمكانات بما يكفل تجاوزها.

وفي مقدمة هذه السلبيات، ذلك التضاد أو التباعد بين مجموعة من الاتجاهات الاجتماعية وبين احتياجات التنمية وأولوياتها في مجتمعنا. وتأتي قضية النظرة إلى العمل بمفهومه العام، واليدوي منه خاصة، في مقدمة هذه الفرقة الواضحة بين الاتجاهات؛ فقد كانت التربية عند نشأة المجتمع الإنساني مزاملة داخل الأسرة بين الراشد والناشئ، يصاحبه في رحلة حياته اليومية، يتعلم منه مهارات الصيد، والزرع، وسبل كسب العيش وخبراتها، ويكتسب الجلد والصبر، وآداب التعامل، والتعاون وقيمة الوقت، ويستقر في عقله ووجدانه يقين بأن العمل والجهد سبيل نجاح الفرد والمجتمع.

ثم تنوعت المهارات والخبرات، وتكاثرت وتراكمت المعرفة الإنسانية وتعاظمت، ولم تعد الأسرة قادرة على أن تقدم خبراتها ومهاراتها لأبنائها فأنشئت المدرسة، مؤسسة متخصصة لاكتساب الخبرة والمهارة في شتى فروع النشاط الإنساني على نحو منظم يشارك في تقديمه المختصون في تلك الفروع.

وسرعان ما أقامت المدرسة أسوارا حولها، وعكفت على مهمتها في استغراق ركز على المعلومة أكثر من تركيزه على تطبيقاتها، وعلى أوراق الكتب أكثر من كتاب الحياة وخبرة الواقع، وتزايدت بذلك العزلة بينها وبين الحركة الدافقة لبيئتها ومجتمعها، وحاجاته ومطالبه، وأصبحت الوسيلة بذلك غاية، وغدا استظهار المعرفة وترديدها - لا تطبيقها - نهجا غالبا، ويصل الأمر إلى حد أن بعض المعارف التي نلزم الشباب بتعلمها هي غير ذات شأن عندهم، ولا علاقة لها بمستقبلهم مما يدعوهم للتبرم منها.

وتتواصل سنوات الدراسة، وتستغرق حياة الناشئ وجهده، وتنقطع الصلة بينه وبين عالم العمل طوال مدة الدراسة؛ ليخرج بعد انتهائها مفتقدا مهارات وخبرات أساسية تطبيقية لا تقوم التنمية إلا بها.

وهنا تبرز القضية الأولى في دفع عجلة التنمية، وتهيئة مواردها البشرية، وهي تحقيق المصالحة بين التعليم والعمل، ليعود العمل إلى التعليم ركنا أساسيا من مقوماته وممارساته، بدءا من رياض الأطفال، رعاية لنبتة، أو تربية لداجن، أو مشاركة في أداء خدمة، أو مهمة في التربية المدرسية، واستمرارا إلى سائر المراحل الدراسية، في إثراء وتنوع لخبرة العمل لدى المتعلم، واتساع في مجالات ممارستها في المدرسة والمجتمع المحلي؛ لتكون في نهاية المرحلة الثانوية واحدا من متطلبات التخرج.

وقد تنبهت النظم التربوية في البلدان التي حققت نجاحا في رحلة التنمية إلى هذا الطالب - في المرحلة الثانوية خاصة - بأن ألزمته بالالتحاق بمؤسسة صناعية أو تقنية، أو تجارية، أو زراعية، أو مرفق من مرافق الخدمات في مجتمعه في أوقات لا تتعارض مع ساعات المدرسة ليكتسب بذلك خبرة العمل، وتدعم هذا الجانب وتثريه برامج الدراسات العملية، ما يطلق عليه (الفنون الصناعية والتقنية) التي تم إدخالها في المناهج؛ لتتيح للطالب التعرف على بنية المهن، ومؤسسات سوق العمل في مجتمعه، كما توفر له اكتساب المهارات التقنية اللازمة للتعامل مع أدوات التكنولوجيا التي يستعملها في حياته اليومية بكفاءة ووعي، كما تمكنه من القيام بالإصلاحات المطلوبة في منزله، وتتكامل هذه الخبرات في استثارة دوافع المتعلم، وإعداده لعالم العمل، وتوعيته بمجالاته، وتزويده بالمهارات التي يتطلع إليها سوق العمل من المرونة، والجدية، والوعي بقيمة الوقت، وحسن استثماره، والإبداع والقدرة على مواجهة المشكلات، ولا تتحقق كل تلك التطلعات إلا إذا صاحب إدخال خبرة العمل في التعليم إجراءات وتغييرات في محتوى مناهج المواد الأخرى لتعنى بإبراز التطبيقات التي تؤازر خبرة العمل، وتثريها بالمعرفة اللازمة في مجالها.

وهكذا يعود العمل إلى التعليم؛ ليرسي في عقول وقلوب الأبناء إيمانا راسخا بكرامة العمل، واحتراما بكل ممارسيه، على مستويات المهن كافة، وليكتشف المتعلم من خلال ممارسته للعمل إمكاناته وقدراته التقنية، والمهن الملائمة لاستثمار مواهبه، وليكتسب في النهاية القدرة على التفكير الذهني ومعه العمل اليدوي حين تتمكن أصابعه من الخبرة وتتقنها، لنضيف إلى قدرتنا المشهورة في صناعة الكلمة قدرة يتطلبها العصر في صناعة الأشياء.

وتأتي القضية الثانية من قضايا تطوير العمل التربوي، وزيادة قدرته على تحقيق التنمية المنشودة واستمرارها، ألا وهي العمل على تحقيق التلاحم بين إدارة التربية ومؤسسات سوق العمل.

والتلاحم الذي ندعو إليه في هذا المجال هو بناء شراكة حقيقة في تخطيط برامجه، وبناء مناهجه، وتقويم مخرجاته، وتوفير مبانيه وأدواته، خاصة في المرحلة الثانوية، ويمكن أن نضرب المثل بما تشير إليه الأبحاث والدراسات من الحاجة الواضحة لمستوى الفنيين من العمالة الفنية الوسطى، الذين يتولون الجوانب التنفيذية، كمساعدي المهندسين، وفنيي المختبرات، والفنيين في قطاعات المال والاقتصاد والبنوك وغيرها من مهن القطاع الوسيط، خاصة في بلادنا التي تفرض ظروفها أن تتبنى نمطا اقتصاديا يقوم على الاستخدام الكثيف لرأس المال الذي يستخدم التقنيات الآلية المتقدمة التي تستخدم أقل عمالة ممكنة، خلافا لبلاد كالهند التي تفرض طبيعتها السكانية تبني نمطا اقتصاديا كثيف العمالة، وأؤكد أن هذا لن يزيد حجم البطالة عندنا؛ إذ إن ما يقرب من ثمانية ملايين وافد يعملون في المملكة وكل الأعمال التي يقوم بها هؤلاء الوافدون متاحة للمواطنين حين نعدهم إعدادا متوازنا، وندربهم ليملأوا كل فراغ وظيفي مهما كانت مرتبته.

وإعداد هذا المستوى من العمالة على نحو يستجيب لحاجات وأولويات سوق العمل لا يمكن أن يتم على نحو فعال ناجح إلا بشراكة حقيقية بين المؤسسة التربوية وممثلي سوق العمل وقطاعات الاقتصاد كافة، لتحديد أولويات البرامج، ونوعية المعاهد والمؤسسات التي يتم فيها الإعداد، وتحديد مواصفات الخريج وكفاياته التي يتم في ضوئها بناء المناهج على أساس الكفايات التي تكفل تخريج فنيين بالأعداد ومستوى الكفاية التي تتطلبها أنشطة سوق العمل، ونوعية تقنياته المستخدمة، والتي تكفل في الوقت ذاته الحفاظ على التوازن والتكامل بين الجوانب الثقافية، والفكرية، والفنية، والتطبيقية في انسجام وفاعلية.

وتكفل هذه الشراكة والتعاون في تدريب الفنيين في مؤسسات سوق العمل جزءا من برامج الإعداد لمعاونة المتعلمين على أن يستوعبوا تقنياته المتقدمة، كما تكفل مشاركة فعاليات سوق العمل ومتخصصيه في تقويم أداء هؤلاء المتدربين، وهكذا تكتمل الدورة بين الإعداد والعمل، واستمرار صقلها وتجددها بالتدريب، وتشجيع الاتجاه الحديث إلى الأخذ بمبدأ التناوب بين التعليم والعمل والتدريب؛ حتى لا يصبح التعليم رحلة محدودة المدة، تبدأ وتنتهي، بل نظام مرن يسمح للفرد بأن يتعلم ويتوجه إلى العمل، ثم يعود للتعلم والعمل والتدريب، على مدى رحلة حياته المهنية، وسوف يتطلب ذلك تطويرا وإعادة نظر في كثير من لوائحنا ونظمنا في التعليم والعمل ومؤسساته، لتتوافر الحوافز والمرونة التي تسمح بهذا التوجه.

ولا شك أن هذا التلاحم والتعاون بين مؤسسات سوق العمل سوف يوفر الرعاية والإمكانات لبرامج إعداد الفنيين والارتفاع بكفايتها في إعداد الموارد الوطنية البشرية.

أما القضية الثالثة التي يتوقف عليها نجاح جهود مؤسسات التربية - على اختلاف مراحلها - في تهيئة وإعداد من يحقق لنا التنمية المنشودة على نحو يواكب عصرها، ويلتحم في استيعاب وفاعلية بمنجزات العصر وإمكاناته، فهي العمل على الانتقال بعملية التربية من منظورها وممارستها الحالية تربية مدرسية، موطنها مبنى المدرسة أو الجامعة، وسنوات العمر التي يقضيها الفرد في مراحل التعليم إلى تربية مجتمعية كافة، تناسب جهودها المجتمع بكل تنظيماته وفئاته، وتصاحب الفرد على مدى رحلة حياته.

فنحن نعيش اليوم عالم تفجر المعرفة، وتسارع معدلات ترجمتها إلى إنجازات تكنولوجية، تخدم تيسير المعرفة المتراكمة واسترجاعها، وتمكن الإنسان من أن يختزل عمليات معرفية كانت تتطلب مجموعات بشرية ومددا زمنية كبيرة، حتى إن المرء يستطيع اليوم في قرص واحد أن يحمل في جيبه دوائر معارف متكاملة تنقل إليه خبرة البشرية وحصاد جهود آلاف المتخصصين، يسترجعها على الحاسب الآلي في لحظات، ويكفي أن نعلم أن قراءة المعلومات على القرص الواحد الذي يتسع لما يعادل ثلاثمائة وخمسين ألف صفحة مطبوعة سوف يستغرق نحو تسعة أشهر إذا ما افترضنا أن معدل القراءة سيكون صفحة في الدقيقة ولمدة 12 ساعة يوميا! إن عالما رحبا من المعرفة اليوم أصبح عند أطراف أصابعنا، فنحن نعيش الموجة الثالثة المتقدمة لرحلة التقدم الإنساني التي ربطت العالم في أولاها بأسلاك الكهرباء وفي ثانيتها بأسلاك الهاتف، وهي اليوم تربطه بالطريق السريع إلى المعلومات من خلال شبكة (الإنترنت). وتشير دراسة حديثة جدا عن المعلومات إلى أن مستخدمي الإنترنت يبلغون حاليا قرابة أربعة بلايين حول العالم، وكل واحد من هؤلاء فرد في أسرة أو منظومة أو مؤسسة عمل، تنتفع بما يحصل عليه من معرفة، والعدد في ازدياد مستمر بتفاوت بين الدول. ففي أميركا الشمالية أكثر من 77% من تعداد سكانها يستعملون بكثافة الإنترنت في تعاملاتهم اليومية.

وفي السعودية وصلت نسبة مستخدمي النت 40% من عدد السكان والمقيمين؛ أي أكثر من عشرة ملايين مستخدم.

أما «فيس بوك» الوسيلة الحديثة، فقد وصل عدد مستعمليها في بلادنا السعودية إلى قرابة ثلاثة ملايين، وهم في ازدياد مستمر، ثم هناك «يوتيوب»، و«تويتر»، وما في الطريق من اختراعات قادمة.

ولست في حاجة إلى ذكر أن العالم كله أصبح اليوم مرتبطا بشبكة ألياف ضوئية مدت تحت الماء واليابسة؛ تكلفت عشرات الميارات من الدولارات.

أما (غوغل) فأمره عجيب غريب - وهو يعني رقما صحيحا بعده مائة صفر - مما يعني قدرته فوق اللامحدودة، وبه يحصل الإنسان على أية معلومة يريدها مهما كانت غريبة وبعيدة وصارت كلمة (غوغل) كلمة عالمية الدلالة والاستعمال.

لن أستغرق في ذكر الاكتشافات الإلكترونية المتسارعة فأشرح عن عجائب استعمالات (آي فون، آي باد، والكندل، وبلاك بيري وغيرها) فكلها اختراعات تحير العقول، وتسلب الألباب. إن هذه الحقائق عن عالم الاتصالات المبهر وتمتع الشباب بها، وتمكنه من استخدامها، والتواصل الذي لا حدود له من خلالها في ما بينهم، يجعلها كلها أمورا يجب الأخذ بها، وإعداد الناشئة على الإفادة منها؛ تمهيدا للإفادة من إمكاناتهم التي تنمو معهم يوما بيوم.

كما تعني هذه المعلومات أن الفرد لن يختم المعرفة كما كان في السابق بإنهاء مراحل التعليم الجامعية أو ما بعدها، بل كل ما يمكن أن يقدمه له التعليم هو إرساء أساسيات تمكنه من إتقان كفايات تتيح له التعلم الذاتي على مدى رحلة حياته، وتسمح له بملاحقة حركة المعرفة في عالمه، كما تعني - أيضا - أن مسؤولية المؤسسة التربوية عن إعداد الموارد البشرية لا بد أن تلاحق الفرد على مدى رحلة حياته، وفي كل موقع يعمل به، وفقا لظروفه واحتياجاته؛ لتسهل له التواصل مع المعرفة التي تمكنه من الملاحقة، والتجدد، والمواكبة، والمنافسة، فتتوافر بذلك شبكة من البرامج التربوية والتعليمية مبثوثة في أرجاء المجتمع، تقدم هذه البرامج التعليمية، والتدريبية المتطورة ما يثري حياة الأفراد، إلى حد أن تعين الأم على مواجهة مسؤوليات ومشكلات الأمومة والطفولة، أو تقدم للمواطن الخبرة التي يحتاجها حين يشرع في بناء بيت، أو إقامة مشروع، أو حتى تنسيق حديقة بيته، فهي برامج تستجيب لتنوع حاجاته وتطورها، لتستثمر قدراته، وتنمي مواهبه، إيمانا بأن أي موارد بشرية لا يتوافر لها سبيل التعلم الدائم سوف تنضم إلى قوافل التخلف، وتنقطع عن المتابعة واللحاق بحركة عالمها. أعان الله مؤسسات التربية والتعليم على كل هذا العبء المطلوب منها».

ويشدد الرشيد بالقول على أن «ثروة الأمة الحقيقية هم أبناؤها، وهم مواردها التي تصنع التنمية المنشودة والتقدم المزدهر، وأن استثمار هذه الثروة لا يكون إلا بتوفير إمكانات تجددها ومواكبتها لمستحدثات عصرها، وذلك يعني أن توفير التعليم المستمر أصبح اليوم لمجتمعنا مطلب حياة لا مفر من تحقيقه.

أما القضية الرابعة التي يتوقف عليها نجاح جهود المؤسسة التربوية في إعداد أجيال المستقبل، وزيادة كفايتها في حركة التنمية بمجتمعنا، فهي تنمية الجهود الأهلية للمشاركة في دعم وتمويل عمليات التعليم، والتدريب، والتعليم المستمر، فإذا كانت التنمية كما ذكرنا عملية نهضة شاملة، قوامها وقلبها البشر الأكفاء، وسبيلها الاستثمار في إعدادهم المستمر، فإن ذلك لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تضافرت على تحقيقه جهود المجتمع بمؤسساتها مجتمعة، ولقد كان هذا الفهم العميق لمسؤولية المسلم عن نشر التعليم واستمراره وراء هذه الأوقاف التي خصصها المسلمون لإقامة المدارس، وتوفير التعليم عبر القرون.

وما أحوجنا اليوم ونحن نبذل كل الجهود لتضييق الهوة التي تفصل بيننا وبين من امتلكوا المعرفة ووسائل تنميتها في عالمنا، وأقاموا في بلادهم المجتمع دائم التعلم، وامتلكوا بذلك القوة، والقدرة، والسلطة، والمنعة.. ما أحوجنا أن نعيد إلى أوطاننا نهج حضارتنا في نشر العلم، وتيسيره، فينهض كل قادر وكل مؤسسة تتوافر لها الموارد في مجتمعنا طلبا للثواب، وسعيا لنهضة الأمة للإسهام بالرأي، والعون، والدعم، والمال، ليتوافر لنا بذلك كل ما يحتاجه مشروع المجتمع دائم التعلم من مبان وإمكانات أنشئت وفق تصاميم تستجيب لمتطلبات التكنولوجيا المتطورة واحتياجاتها، لتحل محل كثير من المباني التي لم تعد كذلك.

ولتكون هذه المشاركة تعبيرا عمليا يجسد مسارعة المجتمع بأفراده كافة، ومؤسساته، وإمكاناته، لتحمل مسؤولية أداء أجيال وطلائع نهضته لنرفع شعار: (معا جميعا بما منحنا الله نبني المجتمع دائم التعلم)».

عناصر التعليم الفاعل للوصول للتنمية المنشودة

* ويؤكد الدكتور الرشيد على أن «هذا يعني أن التعليم القادر على الإسهام إسهاما فعالا في إعداد جيل المستقبل للتنمية المنشودة هو التعليم الذي تتوافر فيه العناصر الآتية:

- تعليم مفتوح القنوات، موجه للمواطنين كافة، دون تمييز يمكن المتعلمين - وفق استعداداتهم وإمكاناتهم - من خلال صيغه وأشكاله المتعددة من التهيؤ للالتحاق بعالم العمل والمهنة، أو مواصلة الدراسة لمراحل تالية إذا رغبوا، ويعدهم أيضا للمشاركة في أوجه نشاط مجتمعهم ومسؤولياته.

- تعليم يستقي أهدافه، ومضمونه، وهياكله، وطرائقه من مجموعة الحاجات الإنسانية التعليمية الأساسية اللازمة للفرد؛ بما يكفل تفتح شخصيته وتنمية طاقاته وإمكاناته، واكتسابه الكفايات اللازمة لمواصلة تعلمه الذاتي، والإسهام الإيجابي الفعال في الأنشطة الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية في مجتمعه؛ وهو بذلك برنامج تعليمي متكامل في حد ذاته، وليس مجرد حلقة تعليمية تستقي أهدافها من متطلبات حلقات تعليمية تليها.

- تعليم مفتوح على مبدأ التربية المستديمة، ويسعي لتنمية المجتمع الدائم التعليم؛ فهو يرسي البدايات الأساسية لتعليم يمتد مدى حياة الفرد، وينسق لهذا الغرض جهوده مع الأنشطة التعليمية النظامية وغير النظامية في مجتمعه، سعيا وراء إيجاد فرص اكتساب القدر الأساسي من التعليم الذي يلبي الحاجات الإنسانية التعليمية الأساسية اللازمة للفرد على النحو الذي مكنه من الانتفاع بها، وذلك في إطار شبكة متكاملة تنتظم هذه الجهود والبرامج، بحيث تسمح بالتعليم والعمل المتناوب، أو التعليم المعاود (لمن تركوا التعليم ويودون العودة إليه)، واستخدام إمكانات المجتمع ومؤسساته في التعليم والتدريب وجعلها أجنحة ممتدة للتعليم بكل مراحله، مع تحقيق القنوات والتشريعات والنظم التي تكفل ذلك وتيسره.

- تعليم وظيفي منفتح على بيئته أخذا وعطاء، يوثق العلاقة بين ما يدرسه الطالب وما يحيط به في بيئته؛ لتكون البيئة - بمصادر إنتاجها وثرواتها وأساليب حفظها، وحمايتها، وما يتوافر فيها من خبرات وأنشطة - مصدرا أساسيا للمعرفة ومجال البحث والدرس، والعمل والتطبيق المكمل والمترابط مع مؤسسات التربية والتعليم باعتبارها النظام الفرعي لهذه البيئة.

- تعليم يؤكد في مناهجه، وطرائقه أهمية الجوانب العملية، ويعنى بالتطبيق، ويسعى - ما استطاع من خلال الخبرة المباشرة والتفاعل مع الواقع - لتكون الأسس النظرية والمبادئ العامة مرتبطة في خبرة المتعلم بجزئياتها وتطبيقاتها، وليست مجرد صيغ تردد، أو مقولات تحفظ، وهو بذلك يشجع على التجريب، ويمنح الأولوية للعمل والممارسة.

- تعليم قد خططت هياكله، ووضعت نظمه، بحيث تكون العبرة في التقويم النهائي لجهود الدارسين فيه بما تعلموه بالفعل، وما اكتسبوه من مفاهيم وأتقنوه من مهارات، وبما وضح في سلوكهم من اتجاهات، مهما تعددت القنوات والأساليب التي تم ذلك كله من خلالها في التعليم الأساسي سواء أكانت تقليدية أم غير تقليدية، نظامية أم غير نظامية، دون تمييز أو تفرقة في ما يتعلق بالشهادات التي تمنح، أو فرص الالتحاق بمراحل تعليمية تالية بين تلك التي تصدر عن التعليم الأساسي وتلك التي تصدر عن مراحل معادلة لها.

- تعليم يؤكد في أهدافه، وأوجه نشاطه، وأساليبه دعم الاتجاهات الإيجابية التي تحاصر معوقات التنمية في المجتمع؛ فهو يؤكد أمر الربط بين التعليم والعمل المنتج، وينمي القدرة على اتخاذ القرار وتحمل مسؤولياته والتحلي بروح المبادرة، والاستعداد لبذل الجهد، والإصرار على الإتقان، وتوجيه المجتمع المدرسي بما ينمي اتجاهات الشورى ومهارات العمل الجماعي، ويوجد المناخ الذي يترجم العلم إلى نهج فكري في ممارسات الحياة اليومية، ومواجهة المشكلات والتخطيط للتغلب عليها.

- تعليم يركز على اللغة العربية - أداة الوحدة للعرب والمسلمين ولسان حضارتهم - بحيث لا تنتهي مرحلة التعليم الأساسي إلا ويكون الطالب قادرا على أن يعبر في عفوية وسلامة وصحة ويسر باللغة العربية الفصحى بصفتها أداة الاتصال الفعالة في أمور حياته، وجسرا يعبره إلى تراث أمته وحضارتها.

- تعليم يرسي - من خلال أسلوب بناء مناهجه والمسلك والقدوة التي يمثلها معلموه وأساتذته والمناخ العام الذي يوجه كل النشاط والعلاقات في مؤسساته - ذلك الاتجاه المتوازن الذي يعمق لدى الطلاب الثقة والتفهم، والتسامح، وقبول الرأي الآخر، والأخذ بمبدأ الحوار بديلا عن عنف المواجهة، والإيمان العميق بالذاتية الثقافية لأمتهم في قيمها وحضارتها الإسلامية العربية، والإصرار في الوقت نفسه على إعمال الفكر، وبذل الجهد، واكتساب المهارات اللازمة لمتابعة التقدم التقني المذهل (التكنولوجي) القائم من حولهم والمشاركة في صنعه.

- تعليم يشارك المستفيدون منه والمعنيون به في التقويم المستمر لبرامجه، لضمان تجدده المستمر في تلبية حاجاتهم واهتمامهم، ومتابعة مطالب سوق العمل وأولوياته.

إن تربية هذا شأنها قادرة - بإذن الله - على إعداد رجال ونساء التنمية المنشودة.

أما الجامعات، فإنها بحكم تركز القيادات الفكرية فيها، فلا يقتصر نظر علمائها وسعيهم على إعطاء مفاتيح لأكبر قدر معرفي؛ بل لهم أيضا نظرة بصيرة تقويمية غير ناسين المواءمة بين مخرجات التعليم الجامعي ومطالب التنمية، وهذا يقتضي أن تكون لديهم صورة صحيحة للمجتمع السليم؛ فهذه الصورة تقدم معايير للتقويم وإعمال البصيرة، وأوضح ما تكون هذه الخاطرة عندما تخرج الجامعة أعدادا كبيرة في مجالات أدبية ونظرية مع أن تنمية المجتمع تطلب مزيدا من خريجي مجالات العلوم الكونية وفي ميدان الطب، والفنون التطبيقية والتقنية».

ويضيف الرشيد أن «مجتمعنا فيه جوانب قوة عديدة تبشر بالخير إذا أحكمنا التخطيط ثم دقة التنفيذ، ومن جوانب القوة في هذا المجتمع الفتي ازدياد السكان فيه بنسبة طيبة، ومعدل الإنجاب فيه (5) أفراد، وأن شبابه من هم في عمر الخامسة والعشرين فأقل يمثلون النسبة العظمى منه 60%، وهو مجتمع متماسك بحكم العمل بشريعة الإسلام وأحكامها وآدابها، كما أن دأبنا هو أن نستفيد مما لدى الآخرين من خبرات وتجارب، ولكن عن طريق الاستنارة لا الأخذ الآلي الذي هو التقليد مع إغفال خصائصنا ومقوماتنا، وإذا كان البارز في أوجه التنمية من قبل هو ما كان يطلبه جهاز الحكومة وينجزه، فإن التنمية الآن تتطلب كفاية تسد حاجة القطاع الخاص الذي يتوسع باستمرار؛ لذا يجب أن نحقق لأنفسنا الاكتفاء الذاتي أولا، ثم نتطلع بعد تحقيق الكفاية من أبناء السعودية إلى أن تكون منجزات التأهيل والإعداد كيفا وكما مساعدة على مشاركة المجتمع السعودي في سد حاجات غيره من المجتمعات، خاصة المجتمعات العربية المجاورة، وهذا يقتضي حتما الإتقان والتفوق في إعداد الكفايات والمهارات».

خطة إعداد الأطر البشرية

* ويرى الدكتور الرشيد أنه وفي ضوء المتغيرات العالمية والمحلية الحالية التي سوف تمتد آثارها لتشكل المستقبل القريب والبعيد، فإن خطة (استراتيجية) لمؤسسات التعليم العالي في إعداد الأطر البشرية القادرة على تحقيق التنمية المنشودة ينبغي أن تتضمن:

- مراجعة دورية للتخصصات التي تقدمها سائر مؤسسات التعليم العالي في ضوء رؤية مستقبلية للحاجات التنموية وسوق العمل وما تتطلبه من تخصصات جديدة.

- مواكبة الاكتشافات الكبرى والاختراعات التي تتم في مجال العلم والتقنية، واتخاذ الأسباب الفاعلة للمشاركة الجادة في الاكتشاف والاختراع.

- الاهتمام بتعليم الأساسيات في المرحلة الأولى من التعليم العالي، لا سيما ترسيخ اللغة العربية في نفوس أبنائها، والتأكد من إتقانهم لها، وكذا الرياضيات والفيزياء، والحاسب الآلي، والأكثر شيوعا من اللغات الأجنبية، مع استمرار العمل لرفع مستوى أبنائنا - طلاب الجامعات والمعاهد العليا - في مهارات التفكير والاستنتاج.

- الأخذ بمفهوم الاختصاص المتعدد الوجوه، والدراسات المشتركة بين أكثر من اختصاص، تحقيقا لمبدأ المرونة في مواجهة تقلب فرص العمل وتبدلها. ولعل من الحكمة أن يوزع إعداد الطالب الجامعي بين اختصاصين لأحدهما ثلثا الخطة وللآخر الثلث.

- ترشيد مكافآت الطلاب وقصرها على التخصصات المطلوبة في سوق العمل، وتخصيص جوائز للمتفوقين في سلوكهم المهني والمبدعين في إنجازاتهم.

- مضاعفة مشروعات التدريب المشتركة بين الجامعات والمؤسسات الاقتصادية وتكثيف جودتها.

- تطوير طرائق التعليم في الجامعات والاتجاه بها إلى كسب المهارات وإتقان المنجزات، واستخدام أفضل لتقنيات التعليم بما يجاري أو يسبق كل اكتشاف جديد حولنا.

- جذب النوابغ من أعضاء هيئة التدريس الجامعي في التخصصات كافة التي تقدمها الجامعة مهما كانت جنسياتهم. فبهم ينال طلابنا ما عندهم من تميز فيصبحوا مثلهم.

- إعطاء أولوية للبحوث التطبيقية التي تعالج مشكلات الإنتاج عندنا، مع عدم إغفال العناية بالمجالات الأساسية للبحث العلمي.

- الاستئناس أو الاستنارة بما لدى كبريات المؤسسات التقنية الصناعية والزراعية، والتجاريـة من مقترحات وآراء في إعداد العنصر البشري، لتسيير الأعمال، وكذلك الإفادة من مقترحات كبار رجالات الأعمال في المملكة؛ فقد يشيرون بافتتاح كليات وإنشاء تخصصات جديدة أو بإدخال تعديلات على الكليات والبرامج والتخصصات القائمة والمناهج المعمول بها.

وفي بلاد كثيرة يشترك رجال الأعمال في تطوير مناهج التعليم العالي والجامعي، بل إني أدعو إلى أن يكون رجال الأعمال ضمن أعضاء مجلس أمناء الجامعات.

وهذا يتفق تماما مع هدف المواءمـة بين (الجامعة) و(المجتمع)، وبين (مؤسسات التعليم العالي) و( ومتطلبات التنمية).

- تنمية القدرات الابتكارية لدى طلاب مؤسسات التعليم العالي في بلادنا؛ فإن الله لم يخص بها قوما دون قوم، ولكن هناك من يعنى بها فتزدهر وتعطي ثمارها، وهناك من يهملها فتذبل وتضمر وتموت.

- جعل الإبداع هدفا من أهداف التعليم العالي والجامعي بوجه خاص، وتطويع طرق التعليم لتخدم هذا الهدف، ومراعاة (الإنجاز الإبداعي) في طرائق التقويم إلى جانب كسب المعرفة وتحصيل المهارة.

- تعزيز الشعور بالانتماء الوطني الصادق إلى كياننا وحضارتنا؛ ليكون ذلك دعما للنجاح وللتفوق في السباق العالمي الراهن الذي نشهده بين الأمم والشعوب والأقطار.

- مراعاة أهلية المتقدمين للالتحاق بمؤسسات التعليم العالي في قدراتهم النوعية وفي مستواهم لدى القبول في التخصصات التي هم جديرون بها والتي هي مناسبة لهم.

- على أنه قد آن الأوان أن لا تحكم جامعاتنا لوائح موحدة، أو برامج متشابهة، بل يكون لكل جامعة ما تنفرد به، وتتخصص فيه من مقررات عملية تتبدل وتتطور طبقا لمتطلبات التنمية وحاجات المستقبل.

هذه هي أهم المرئيات التي يخرج بها المتأمل في موضوع (مؤسسات التعليم العالي والتنمية) من أجل الانتقال إلى الوضع الأفضل للتنمية المرموقة في بلادنا، وهي كلها من شأن التعليم العالي، ولكن ربما يتعذر على التعليم العالي أن يكون في خدمة التنمية والوفاء بحاجاتها بالكم والكيف المطلوبين ما لم تتآزر خطى التعليم العالي مع التعليم العام، وما لم يتعاون هذا وذاك مع النظام الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي من أجل معالجة النقائص العديدة التي يشكو منها واقع القوى البشرية في بلدنا كما وكيفا».

من صناعة الكلام إلى صناعة الإنسان

* ويؤكد الدكتور محمد الرشيد على أن «مؤسسات التربية والتعليم - على اختلاف مراحلها وتنوعها - إذا أخلص لها الكيان وإذا أخلصت هي لذلك الكيان على بصيرة، وهي إذا أوجدت قطاعا عاما وخاصا كفئا، ترتكز عليه مثلما تغذيه وتسنده، وإذا أجمع عليها، واجتمع لها العمل الوطني الجاد، وهي إذا استلهمت في نموها الذات الثقافية العربية الإسلامية، وتجسدت فيها الأصالة، ووعت احتياجاتها وآمالها بدلا من الانبهار بنماذج غربية أو شرقية، وهي إذا تحالفت مع وسائل الاتصال والإعلام من أجل بناء عزيز للوطن والمواطن، وهي إذا مدت بصرها واهتمامها إلى القطاع غير النظامي، وأعطت أهمية لتعليم كل من فاتتهم فرصة التعليم.. كل هذا مع مراجعة مدروسة لإدارتها وبناها، ومحتوياتها وأدواتها، وتشريعاتها، وعلاقاتها الداخلية والخارجية، خاصة بمواقع العمل في المجتمع، وبعزم من القائمين عليها على التحول من صناعة الكلام إلى صناعة الإنسان، ومع إعادة النظر في دور المعلم وعضو هيئة التدريس الجامعي وتكوينه ومركزه المادي والأدبي.. إن المؤسسات التربوية والتعليمية - على اختلاف مستوياتها ومراحلها - إذا تهيأ لها كل ذلك وأصابت هي كل ذلك، أمكنها أن تضاعف من قدراتها على التغيير، وأن تصحح مسارها، وتعوض ما فاتها أن تقدمه لمجتمعنا في عقود سابقة.

هذه أبرز المتطلبات التربوية لتحقيق التنمية المنشودة».

وبشر المحاضر بالتفاؤل، داعيا «كل من يعمل في حقل إعداد أجيال المستقبل أن يحاول تحقيق نجاحات صغيرة في موقعه الذي هو فيه؛ فأشد ما تحتاجه حياتنا في زمننا الحالي ليس التصويب إلى النجوم؛ بل قطع مسافات وإن كانت قصيرة في الرحلة على الأرض نحو الأهداف؛ فالنجاح يدفع إلى النجاح؛ ولنحاول أن نلتمس في الحاضر عناصر قوة فننميها؛ ومواطن نجاح فنشيد بها؛ وأخا يبذل ذوب النفس فنبارك خطاه ونسانده؛ وموقعا يمكن أن ينطلق ويتسارع بخبرة امتلكها فنسرع بالتطوع بها، ففي الأزمات يظهر الخلق الكريم أنجح المساهمات لانفراجها».