قصة تحلية المياه في السعودية.. من زمن «الكنداسة» إلى تجربة دولية رائدة خلال قرن

جدة عرفت أول وحدة تحلية تنشأ على اليابسة.. والوجه وضبا شهدتا عصر الماء العذب المحلى * تقطير مياه البحر.. خيار استراتيجي وأنموذج عالمي يحتذى * الملك المؤسس أعاد قبل 84 عاما تجربة الكنداسة من خلال وحدتي تكثيف في ظروف عالمية صعبة

محطات تحلية المياه في السعودية خيار استراتيجي وتجربة عالمية لافتة («الشرق الاوسط»)
TT

عرفت السعودية تحلية المياه المالحة قبل أكثر من قرن، بل أن أول وحدة تحلية تنشأ على اليابسة لدعم مصادر المياه العذبة تم تطبيقها في السعودية وبالتحديد في مدينة جدة من خلال وحدة تكثيف لتقطير مياه البحر انتزعت من إحدى البوارج الغارقة قبالة سواحلها ونصبت بمينائها عام 1905م عرفت باسم «الكنداسة»، ورغم أن هذه التجربة تعد تقنية لافتة في ذلك الزمن وتستخدم فقط في السفن التجارية والعسكرية التي تبحر أياما وأسابيع دون توقف للتزود بالماء، فإنها لم تحقق النجاح المتوقع في تزويد المدينة بالمياه العذبة نظرا لاعتمادها على الفحم الحجري لتشغيلها وهو وقود لم يتوفر في البلاد، كما لم يتوفر مصدر بديل للطاقة فلم تعش تلك المحاولة سوى أيام معدودة لتتوقف بعدها.

وأعاد الملك المؤسس عبد العزيز قبل 84 عاما التجربة حين أمر بإنشاء وحدتي تكثيف لتقطير مياه البحر بنفس التقنية مكونة أساس صناعة تحلية مياه البحر التي انطلقت إلى آفاق أرحب وانتهت إلى إنشاء المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة واستثمار المليارات لإقامة عشرات من محطات التحلية على البحر الأحمر والخليج العربي وتمديد شبكات من أنابيب نقل المياه المحلاة إلى المدن والمحافظات في مختلف مناطق السعودية عبر الصحاري والسلاسل الجبلية الوعرة.

وأنجزت المؤسسة كتابا يحكي قصة التحلية في السعودية التي تحولت إلى خيار استراتيجي وتجربة عالمية يحتذى بها كما عبر عن ذلك محافظ المؤسسة فهيد بن فهد الشريف الذي شدد على أن التجربة السعودية في هذا المجال كانت ثرية بنجاحاتها وإنجازاتها، وقد مرت دون توثيق ورصد لمراحلها، وقدمت المؤسسة هذا الكتاب التوثيقي اعتمادا على مصادر مختلفة، وقد كانت ذاكرة الأشخاص أحد أهم مصادر المعلومات.

ومن جانبه اعتبر خالد بن محمد المنيفي مدير إدارة العلاقات العامة والصناعية بالمؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة أن الكتاب التوثيقي الذي يرصد مسيرة تحلية المياه المالحة في السعودية هو محاولة جادة لبلورة ثقافة التدوين والتوثيق في عمل متكامل يجمع شتات المعلومات ويرصد المسيرة بشكل متدرج ومتسلسل يلاحق كل الحقب التي مرت بها التجربة الرائدة لصناعة تحلية المياه في بلاد تعد من أكثر دول العالم شحا في المياه وندرتها هذه تم تبني هذه التقنية كخيار استراتيجي لمعاضدة مياه الشرب، ومع كل ذلك أصبحت السعودية تنتج اليوم أكثر من 20 في المائة من إنتاج العالم من مياه البحر المحلاة وما نسبته 42 في المائة من إجمالي إنتاج دول مجلس التعاون الخليجي على الرغم من ارتفاع تكلفة ذلك.

ولعل توفير مياه الشرب لسكان مدينة جدة كان الهم الشاغل لحكامها وسكانها على مدار تاريخها الطويل، حيث نشأت المدينة على شاطئ البحر الأحمر خالية لا نقول من العيون المتدفقة والأنهار الجارية بل من أبسط وأقل مصدر مياه عذبة، فسطح أرضها مشبع بالأملاح ودرجات حرارتها مرتفعة وأمطارها قليلة وغير منتظمة.

فبالكاد يجد ساكن جدة ماء ليروي ظمأه، أما الاحتياجات الأخرى كالوضوء أو الاغتسال أو ترطيب الأجسام خاصة خلال فترات ارتفاع الحرارة والرطوبة، وما أطولها في جدة كل عام، فأهل جدة يرونها من رغد العيش الذي تنعم به النخبة فقط، وهذا بالضرورة دفع أهلها للبحث عن أي مصدر للمياه لسد احتياجاتهم الضرورية، وكانوا يلجأون إلى حفظ مياه الأمطار بطريقة تجميعها من أسطح المنازل عبر مخارج أنبوبية تتدفق إلى خزانات أرضية بنيت لغرض تخزينها وهذه الطريقة كانت معروفة قبل مئات السنين عند أهل الشام، خاصة في فلسطين. إلا أن هذه الوسيلة كانت قاصرة عن حد الاكتفاء الأدنى. ويقومون بجلب المياه من الآبار البعيدة جنوبا عن جدة وبمسيرة يوم كامل. ويتم تخزينها في صهاريج داخل منازلهم. وقد اعتاد الحجاج أن يطلبوا الماء من أصحاب البيوت في جدة وأصحاب البيوت يرون أن تقديمه للحاج حق «للسائل والمحروم» فيؤثرونهم على أنفسهم بقليله على حاجتهم وإن كان فاقد الشيء لا يعطيه.

ويذكر بعض المؤرخين أن الصهاريج استخدمت في جدة قبل ظهور الإسلام وبعده، ويؤكد بعضهم أن جدة كانت محاطة بأعداد كثيرة من الصهاريج من داخلها ومن خارجها بمختلف المقاسات، خوفا من ضياع الماء، وظل استعمال الصهاريج أهم مصادر مياه الشرب في جدة، وكانت الصهاريج خارج أحيائها لحفظ المياه على شكل برك كبيرة وعميقة تمتلئ بالمياه عند هطول أمطار غزيرة. أما الصهاريج داخل المدينة فكانت لغرض الاستعمال المباشر، ويذكر المؤرخون أنها كانت أكبر حجما وأكثر اتساعا في عهد المماليك.

وفي بداية القرن العاشر الهجري اهتم قانصوه الغوري - آخر سلاطين المماليك - بمعالجة أزمة ندرة المياه في مدينة جدة، وقرر أن يجلب لها عينا جارية، فوفر مالا كثيرا، وأجرى دراسات مستفيضة، حتى تمكن من جلب مياه عين وادي قوص الواقع شمال الدغامة شرق مدينة جدة. وهي عين جارية تقع تحت جبل هناك.

وسميت هذه العين بالعين الغورية، وأحيانا تدعى بالعين القنصوية. نسبة إلى اسم السلطان المملوكي، وبذلك عرفت جدة مياه العيون. بدلا من صهاريج تجميع مياه الأمطار وتخزينها ومن ثم نقلها إلى خزانات داخل المنازل في المدينة. وقد استمر جريان العين الغورية حتى القرن الحادي عشر الهجري، ولكن بشكل متقطع، وعلى فترات من الإصلاح تطول في بعض الأحيان إلى حد العجز التام عن توفير حاجة الأهالي من المياه.

وفي نهاية العقد السابع من القرن الثالث عشر الهجري وبالتحديد في عام 1370هـ نهض تاجر من أهالي جدة اسمه «فرج يسر» وهو بالفعل اسم على مسمى فرج ويسر، وأخذ يجمع المزيد من التبرعات وذلك لغرض إصلاح العين «الغورية»، وإعادة جريانها، وقد تم له تحقيق ذلك، وجرت العين من جديد، واستقت جدة من المياه العذبة من هذه العين، واستمر جريانها إلى أن اعتراها الضعف وانقضى عمرها مع عمر من نهض بها - فرج يسر - يرحمه الله - وذلك في عام 1302هـ.

وفي نفس العام اهتمت حكومة السلطان العثماني عبد الحميد الثاني بمعالجة ندرة المياه في مدينة جدة، فقام الوالي التركي على جدة بجلب المياه من عين تبعد عشرة كيلومترات فقط من المدينة سميت بالعين الحميدية، وبطبيعة تكوين هذه العين ولقربها من جدة المدينة، فإن مياهها مالحة وتتأثر مباشرة بهطول الأمطار، فإذا أمطرت السماء عذبت مياه العين، وإذا قلت الأمطار زادت ملوحة العين، وأهالي جدة بين هاتين الحالتين تغمرهم الفرحة بوصول مياه العين الحميدية عذبة أحيانا، وتشتد بهم الأزمة معاناة من ملوحة العين الوزيرية، كما يدعونها أحيانا أخرى.

والجدير بالذكر أن العين الوزيرية أو الحميدية نسبة إلى اسم الوالي التركي على جدة، مرة، ونسبة إلى السلطان التركي مرة أخرى، وعند إيصال الماء منها إلى المدينة كان بأسلوب شبه حديث، حيث تمت عملية توزيع المياه في قنوات من أنابيب على جميع أحياء المدينة، ورغم كل السلبيات فإن أهالي مدينة جدة قد عمتهم الفرحة بوصول مياه هذه العين إليهم مباشرة.

تلك كانت حال جدة البوابة البحرية لمكة المكرمة حيث بعث المصطفى صلى الله عليه وسلم وحيث بيت الله الحرام والمشاعر المقدسة في عرفة ومنى ومزدلفة.

الكنداسة كانت البداية

* ومع مطلع القرن التاسع عشر الميلادي، عصر الآلة البخارية، تحركت القطارات على السكك الحديدية وأبحرت السفن عبر البحار والمحيطات في رحلات طويلة تدوم أسابيع بل أشهر دون توقف تدفعها طاقة البخار الناتج عن احتراق الفحم الحجري، وكانت السفن تزود بآلة لتقطير مياه البحر لغرض استخدامات بحارتها وملاحيها وحتى لا تضطر للتوقف في خطوط ملاحتها بالموانئ للتزود بالمياه العذبة، وآلة التقطير هذه عبارة عن ماكينة أو غلاية أو فرن تعمل بالفحم الحجري يغلي فيها ماء البحر لدرجة التبخر ومن ثم يتم تقطير البخار لينفصل الملح عن الماء وسماها أهل جدة «الكنداسة» اشتقاقا من اسمها اللاتيني «condenster» وتعني المكثف.

إبان تلك الفترة تحطمت إحدى سفن الدولة العثمانية قبالة شاطئ جدة بعد ارتطامها بشعبه المرجانية وكما قيل «مصائب قوم عند قوم فوائد» فقررت الدولة العثمانية انتشال آلة التقطير من حطامها ونصبها على شاطئ جدة دعما للعين الوزيرية أو الحميدية، في حالة انقطاع جريانها، خاصة أن مدينة جدة، أهم محطات الحجاج، وتضم مقار السفراء وقناصل الدول الأجنبية وحركة الاتصال عامرة منها وإليها، كان ذلك عام 1325هـ.

استبشر أهل جدة خيرا بعد أن عملت الكنداسة وتدفق ماؤها عذبا نقيا وأوجدت نوعا من الاطمئنان في الحصول على ماء شرب صالح للاستهلاك البشري، وخالٍ مما تتعرض له عادة مياه الصهاريج والعين الوزيرية من كدر وتلوث نتيجة طول فترة تخزينه أو المسافة التي ينتقل فيها من مصدره إلى جدة.

لقد كانت «الكنداسة» ذات إنتاج بسيط أقصاه 300 طن أو متر مكعب يوميا. وكان على كل شخص أن ينتظر طويلا ويبذل من الجهد والمشقة الشيء الكثير ليحصل على تنكة (صفيحة) أو تنكتين (زفة) حسب حجم العائلة - تكفي فقط للشرب والطعام وإعداد الشاي. وتدار «الكنداسة» بواسطة اثنين من الموظفين، رئيس ونائبه، ويساعدهما جهاز إداري صغير مهمته الإشراف على السقاة «ناقلي المياه من الكنداسة إلى المنازل».

لقد كان لهؤلاء السقاة رئيس «شيخ السقاية»، وكان قد وضع لهم نظاما دقيقا في ممارسة المهنة، خاصة من يعملون في حمل القربة ومن يعملون في حمل التنكة (الصفيحة)، ومن ضمن تلك الأنظمة الاجتماع اليومي. ويسمى نظام «البداية»، لأخذ التعليمات والالتزام بجدول كيفية نقل ماء الكنداسة إلى الناس. والظريف أن لهؤلاء السقاة رتبا فالسقاة الملتحقون حديثا بالمهنة يحملون الماء في صفيحة واحدة (تنكة) على رؤوسهم، ثم يرتقي ليصبح ساقي زفة، وهي عبارة عن صفيحتين متقابلتين معلقتين على حبلين مشدودين على عصا مرنة يحملها السقاء على كتفيه بعد أن يضع لبادة من القماش تعينه على تحمل ثقلها ونقلها بين السكك والطرقات إلى منازل طالبيها، والمرتبة الثالثة هم قدماء السقاة، وهم حاملو القرب، حيث تملأ القرب بما يعادل زفتين أي أربع صفائح (تنك) ويحملها السقاة على ظهورهم، وهؤلاء السقاة من أصحاب البنية الجسمانية الرياضية القوية، فوزن القربة بعد ملئها بالماء يتجاوز المائة كيلو. ثم تطورت وسيلة السقاة إلى نقل الماء بواسطة البراميل (الفناطيس) التي تجرها الحمير.

وكما تطورت وسيلة نقل المياه تنوعت استخدامات المياه أيضا، فماء الكنداسة للشرب والطعام وإعداد الشاي، بينما ظلت مياه الصهاريج التي أصبح اسمها بعد أن دخلت الكنداسة الخدمة مياه «الرديخ» تستخدم للاستخدام والتنظيف، ومياه الرديخ أي غير النقية، وهي مياه الصهاريج التي تجمع من الأمطار أو تستخرج من آبار محفورة داخل مدينة جدة.

ومن أشهرها: بئر المعمر وبئر مسجد المعمار وبئر أبو عنبة وبئر زاوية لؤلؤة وبئر زاوية أبو سيفين. علما أن الذين لا يستطيعون شراء ماء الكنداسة كان يستعملون مياه الصهاريج للشرب والغسيل. ورغم قلة مياه «الكنداسة» فإنها كانت تمثل المصدر الرئيسي لمياه الشرب بالطبع لمن يستطيع شراءه.

كما كانت جدة البوابة البحرية لمكة المكرمة كانت ينبع البحر فرضة (ميناء) المدينة المنورة وممر الحجاج القادمين لزيارة مسجد المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ينبع والمدينة المنورة ليستا في حال أفضل من جدة ومكة المكرمة في وفرة المياه، فندرة الماء النقي مشكلة عمت كل أرجاء الجزيرة العربية تقريبا، وإن كانت الحال في مناطق محدودة أفضل من غيرها فستظل محدودة وبكميات لا توصف بالوفرة، لكن وضع جدة وينبع يختلف لارتباطهما بمكة المكرمة والمدينة المنورة حيث أفئدة المسلمين تهفو إليهما في مواسم الحج والعمرة والزيارات الدينية.

ويرد اسم ينبع في كتب التاريخ بصور متعددة «ينبع» و«النبع» و«الينبوع»، والصواب ما اتفق عليه المؤرخون هو «ينبع»، والاسمان الآخران تحريف للأول، فالأول يكثر في مؤلفات أهل القرن الثامن عشر كالمقريزي والقطبي وابن إياس الحنفي والنابلسي، بل إن أكثر مؤلفات المؤرخين قبل القرن الثامن عشر يذكرون الاسم الأول «ينبع»، وينبع على إطلاقه في مؤلفاتهم يقصد بها ينبع النخل، وينبع اسم دال على وفرة عظيمة للمياه، وهو ما يفسر كثرة بساتين النخيل فيها. وينبع البحر هي الفرضة (الميناء) الذي يستقبل زوار المسجد النبوي الشريف في المدينة المنورة والقادمين بحرا، وعلى عكس ينبع النخل بوفرة مياهها كانت ينبع البحر تعاني الأمرين من ندرة المياه العذبة، وقد زارها الرحالة الشيخ عبد الغني النابلسي عام 1105هـ.

ومثل جدة كان أهل ينبع يعتمدون على صهاريج تجميع مياه الأمطار وبعض الآبار حولها يجلب منها الماء في الصفيح والقرب وعلى الدواب لتأمين احتياجاتهم الضرورية فقط، وكانت ينبع ليست استثناء من الحكم التركي للدول العربية في شخص الدولة العثمانية، هي ذات الصوت المرتفع للإغاثة من مخالب العطش المميت، خاصة ما حدث في موسم حج عام 1320هـ حيث قلت المياه وغلا ثمنها بل كان يرتفع كلما شاءت أهواء أصحاب البرك والصهاريج، الذين أغنوا أنفسهم من أموال المسلمين - فقراء ومساكين - وأصبحت ينبع، التي هي فرضة المدينة في أسوء حال، كما أن كثيرا من الحجاج قد نابهم من الشدة مثل نفس الحال، وكانت الحكومة المصرية تابعة للدولة التركية، وبحكم صلة القربى مع المصريين، عرقا ولغة ودينا، تقدم أهالي ينبع البحر في تاريخ 2 محرم 1321هـ بطلب إلى وزير الحج المصري اللواء إبراهيم رفعت باشا، يطلبون منه النظر في شكواهم من عدم توفر مياه الشرب، وكان الطلب إياه يتضمن اقتراحين: أحدهما إلغاء فكرة الاعتماد على جلب المياه من العيون، لما يسببه من تكاليف باهظة، وكونه مصدر استغلال لأصحاب البرك والصهاريج وعرضة للتلوث والاعتداء من قبل العابثين، والاقتراح الآخر: مدهم بآلة بخارية تخرج لهم من بحرهم ماء صالحا للشرب، وتكون تحت إرادتهم وإدارتهم عن قرب.

وقد راق هذا الطلب الأخير للوزير اللواء إبراهيم رفعت باشا، وفعلا صدرت به الإدارة السنية بعمل «تصنيع» آلة لتقطير المياه من البحر لمدينة ينبع، وحدد لوصولها خمسة أشهر فقط، لكن مضت سنتان ولم تصل الآلة (الكنداسة) باللغة التركية، وطال الانتظار.

وعندما تحدث وزير الحج المصري مع ناظر الداخلية تقرر إرسال الباخرة المسماة «ينبع» إلى ينبع المدينة لتقيم على ثغرها لمدة ثلاثة أشهر في السنة من أجل مد أهلها والمقيمين بها بالماء المقطر العذب، لكنها كانت فرحة لم تكتمل، أو يبدو أن المكلفين بهذا الأمر لم يدركوا أهمية التوفيق الزمني لسد حاجة المدينة من الماء الصالح للشرب، فالباخرة لم تصل ينبع إلا في 8 محرم 1322هـ أي بعد نهاية موسم حج عام 1321هـ بنحو شهر كامل.

وفي آخر عهد الولاية التركية للحكم البلاد، أمكن جلب آلة (كنداسة) مقيمة على مرفأ ينبع لتقطير مياه البحر وإمداده عذبا للأهالي والمقيمين.

وإذا ما حضر الحجيج في موسمه ضاقت مدينة ينبع ذرعا بحالها من نقص في الخزانات لحفظ الماء ونقص آخر في جهاز الآلة الإداري لتوزيع الماء، وبهذا كانت الجدوى من وجود آلة التقطير (الكنداسة) ضعيفة، لأن قلة العالمين فيها وقلة الصهاريج بها أدت إلى شدة الزحام، فضاع حق الضعيف، وتلوث المياه واشتد الصراع بين الأقوياء، فلم يبلغ الشخص العادي غرضه منها، ولم تعد آلة التقطير (الكنداسة) مع ما تكلفه من نفقة كبيرة، تفي بحاجة المدينة من المياه.

وفي خضم الصراعات الإقليمية والدولية ونشوب الحرب العالمية الأولى خلال الربع الأول من القرن العشرين كانت النزاعات القبلية تعصف بالمنطقة العربية، حربا أهلية مدمرة تغذيها الفتن معقل الانقسامات، وكان (ابن سعود) عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود قد ظهر زعيما غيورا على وحدة البلاد بأكملها رافضا بشدة، وإن دعت الحاجة إلى محاربة من يدعو إلى خلاف الوحدة الوطنية للبلاد، لهذا المبدأ في شخص الملك عبد العزيز الذي كان دافعه صفاء العقيدة وقوة التوحيد هبت البلاد بقبائلها وكافة أطياف المجتمعات ولاء وطاعة، ولبت جميع الأقاليم دعوة هذا الرجل العظيم مدركين أهمية التآخي والتكاتف والتعاون متحدين تحت راية الزعيم القادم (ابن سعود) كما كان يسمى.

ويذكر التاريخ أنه دخل المسجد الحرام عام 1342هـ فوجد أن الصلاة فيه تقام على انفراد لكل مذهب على حدة، أو ما يعرف بـ«المقامات»، فأمر بوحدة العقيدة، وأن يكتفى بإمام واحد أيا كان مذهبه من المذاهب الأربعة، ليؤم المصلين جميعا، فكانت الإمامة على المذهب الشافعي آنذاك.. لقد كانت الوحدة هاجس الزعيم القادم وإيحاء همته في قيادة بلده.

ولطبيعة الحروب صفة أن تكون الشدة قاسية ومستعصية خاصة في تقديم الخدمات وخدمات إمدادات مياه الشرب بالذات، فالكنداسة لم تعد ذات شأن في سد الاحتياج، إذ لم يكن إنتاجه وفيرا وكافيا لسقيا أهل جدة، ناهيك عن الوافدين إليها، وربما يصيبك الفزع وأنت تشاهد الأطفال والنساء يتسابقون وراء براميل المياه التي تجرها الحمير أملا في الحصول على بعض منه، هذا بالإضافة إلى كون الكنداسة يعتريها العطل بين الفينة والأخرى، مما كان يعرضها للتوقف، ذلك لعدم وجود وقت لإجراء عمليات الصيانة المنتظمة من شدة الطلب المستمر والمتزايد على مياهها.

فقد كان الناس يريدون الماء ويريدونه الآن، حياة عويصة مزرية وحالة صعبة معقدة، أصبح الوضع متأزما لدرجة أن الموظف الذي كان يتولى إدارة الكنداسة لم تعجبه حال نفسه ولا أحوال الناس ممن حوله فشعر بالضجر والامتعاض أمام ضغط الأهالي من السكان وهم يتزاحمون صباح مساء بحثا عن شربة ماء فأصيب الرجل بالإرهاق والإحباط فالانهيار، ومن المضحك المبكي أن القائم على الكنداسة قرر ومن حيث لا يشعر أن يبيعها، ظنا منه أن من يشتريها يستطيع أن يحل معضلة توفير الماء الكافي منها، ناسيا أنه لا يملكها أصلا.

ويبدو أن مشكلة مياه الكنداسة لا تقف عند حد العجز عن توفير مياه الشرب، وإنما هو سعر ماء الكنداسة الذي لم يكن في متناول الفقير والعاجز والضعيف، فماؤها لميسوري الحال من أهالي جدة والأقوياء ومن لهم سلطة الجاه في الحصول على المياه، وكانت قريحة الشاعر والأديب محمد سعيد العتيبي قد جاءت بقصيدة تعبيرا صادقا لصورة الواقع المؤلم من حال الكنداسة فيقول:

يا ذوي الرأي والحجى والكياسة خلصونا من دوشة الكنداسة كلكم تأخذون بالدس ماء ويجينا البلاء من أجل كاسه لو عطشتم كما عطشنا زعقتم وهجرتم بشدة وحماسة رحمة بالفقير فهو ضعيف بهدل الفقر عقله وحواسه يشتري شربة بريال بعد أن باع قشه ونحاسه لقد كانت مفردات القصيدة بحق انعكاسا واضحا لمشاعر الغلابة من الأهالي والمقيمين، وخص منهم العطشى فقراء ومساكين، وزاد من كربة هؤلاء وأولئك أن الكنداسة أخذت تتوقف بشكل متكرر، بسبب العجز في تلبية الطلب المتزايد، فعاد مركز ثقل الشرب والاستعمال إلى ماء العين الوزيرية والصهاريج والآبار مرة أخرى.

الملك المؤسس يضع حلولا عاجلة لتأمين المياه

* وزاد الحال سوءا عندما اشتدت آثار الحرب الإقليمية دوليا ومحليا، كانت أهمية الكنداسة قصوى، وتم إصلاحها، وعادت للإنتاج، ثم استمرت تعمل ولكن بتقطع، وفجأة توقف إمداد الطاقة لتشغيل الكنداسة ولم يعد ما يكفي من وقود الفحم الحجري لتحريك الآلة، وفشلت كل محاولات الإصلاح، مما اضطر القائمين على إدارة الكنداسة إلى استخدام وقود الحطب الذي عجل بخرابها النهائي عام 1344هـ.

في هذه الفترة الحرجة من حدة الصراعات الدولية على مناطق النفوذ في العالم كان الملك عبد العزيز قد وطد حكمه، وأرسى قواعده، وعمم الاستقرار والأمان، فزاد نمو المدينة، وارتفع معدل زيادة السكان فيها، وزادت حركة التجارة وتوسعت علاقة مدينة جدة مع الخارج، كل هذا قد فاق ما كان يتصوره لسد حاجة المياه العذبة، وأدرك أن الحاجة ماسة، وأن لا مجال لضياع الوقت، حتى تأتي بدائل الحلول، واستعجل أمره باستيراد آلتين كبيرتين عام 1346هـ، قامتا بمهمة تقطير الماء من البحر، إلا أن السباق في توفير مياه الشرب كان في صالح ضغط الطلب المتزايد والمستمر، وأصبح الجور في تشغيل المحطة فوق طاقتها الفنية سببا في توقف إحدى الآلتين المجلوبتين حديثا.

ومع نهاية الحرب العالمية الأولى وبداية حركة الانتعاش والتوسع في العمران بشكل خاص، أدى شح المياه النقية وندرتها في المدينة إلى أن الناس كانوا يتعاملون معها بكثير من العناية والاهتمام، وكان الماء النقي والصالح للشرب مثل الذهب أو أكثر قيمة، فتنوعوا في كيفية الاستعمال، وأصبح الذين يستطيعون شراء ماء الكنداسة يستعملونه فقط للشرب والشاي والطعام، كما تعودوا على استعمال مياه الصهاريج ومياه «الرديخ» للاستحمام والتنظيف.

وسارت الأمور على هذا المنوال بين الخوف والرجاء في حياة الكنداسة، إلا أن شبح الحرب العالمية الثانية قد لاح، وكانت أكثر شراسة عن ذي قبل، استخدمت فيها أحدث أنواع الدمار آنذاك من أساطيل الجو والبحر ومن قاطرات البر المدججة بالأفراد والعتاد. فكانت السماء دخانا والأرض دماء، وحالة مدينة جدة ثغر البحر الأحمر تستغيث من شح المياه النقية وندرتها.

وفي الفترة الزمنية نفسها حصل عطل مفاجئ في الكنداسة، وحدث معه فزع كبير بين الناس، وخاف بعضهم من الموت عطشا، وهو ما جعل مهندسي الكنداسة يواصلون الليل بالنهار لإصلاحها، لدرجة أنهم صنعوا قطع غيار محليا بواسطة المخرطة، حيث كانت الاستحالة باستيراد قطع الغيار بسبب تأثير الحرب الدائرة رحاها على أوجه الحياة في العالم، وبعد ثلاثة أيام فقط عادت المياه الحلوة تتدفق من الكنداسة من جديد، لكن الخوف ظل سائدا بين الناس من احتمال تعطلها مرة أخرى، وقد تزامن مع ذلك أن اقترح بعض أهالي جدة التبرع لجلب الماء من عيون وادي فاطمة، وحاول رئيس الكنداسة محمد السليمان التركي ومساعده عبد الله الحسون - رحمهما الله - إقناع الأهالي بالتعامل مع الكنداسة لتكون أحد روافد المياه العذبة لمدينة جدة، ولكنهم من شدة معاناتهم الطويلة مع الكنداسة رفضوها، ورفضوا حتى ذكرها، وفي حينه أمر الملك عبد العزيز آل سعود بتشكيل لجنة برئاسة وزير المالية للنظر في حقيقة وضع الكنداسة ولمعرفة الأسباب التي أدت إلى خرابها، وجاء قرار اللجنة من كلمتين مضمونهما، كلمة واحدة من ثلاثة أحرف: عمرها «غلق»، أي مدة صلاحيتها قد انتهت.

كان الملك عبد العزيز حاد الذكاء فطرة، وكان دائما يرغب في الاستشارة، ولكن بطرق غير مباشرة، بل كان يرى في الإعلام أفضل وسيلة لجس نبض المجتمع حول فكرة إنشاء جديد أو فكرة تغيير ما هو قديم، فهو ليس فردي النزعة، كما أن قراراته ليست خاطرة في يوم أو ليلة، بمعنى أنه يفضل الإيعاز للإعلام بطرح القضية أو الفكرة وتركها للتداول بأقلام المهتمين بها، حتى يتم استعراض الحلول وجميع البدائل، ومن ثم يأخذ بأحسنها.

كانت وسائل الإعلام آنذاك محدودة إلا من مجالس الأهالي خاصة التجار فكان يوعز لمن يراه منهم أن يثير مسألة إمكانية إيجاد بدائل من حلول لتوفير المياه العذبة لكل من مدينتي ينبع وجدة، وكان حدسه صائبا، فكانت مجالس الوجهاء والتجار عامرة بالحديث عن أهمية إيجاد حل دائم لوضع الماء في المدينتين، وكانت وسيلة إعلام ناجحة استطاع الملك أن يستشف منها رؤية المجتمع في أحواله ومشكلاته، وكان - يرحمه الله - جم التواضع، لين الجانب، كريم السجايا، واسع البال، يسمع التفكير وله القرار الأخير، وجاء التفكير من مجالس الأهالي أن يتبرعوا لجلب المياه من وادي فاطمة، وما إن علم الملك عبد العزيز بما في إعلام مجالس التجار حتى قاد الفكرة بنفسه، فأحبوه ونصروه ودعموه بالمال، فأعاد التبرعات لأصحابها، وأمر بتنفيذ جلب المياه بأنابيب من وادي فاطمة إلى مدينة جدة على حسابه الخاص.

ولأن ينبع ينبعان، أحد الاسمين لينبع النخل والآخر لينبع البحر، فإن الفكرة قد لحقت بهما أيضا، وتم اعتماد خط أنابيب من ينبع النخل إلى ينبع البحر، لإيصال المياه العذبة إلى ينبع البحر، حيث شدة ندرة المياه الصالحة للشرب، خاصة في موسم الحج والزيارة، لأن ينبع البحر فرضة المدينة المنورة، كما تعتبر جدة ميناء الحجيج إلى مكة المكرمة ولأن هاتين المدينتين قد عانتا الشيء الكثير في سبيل الحصول على مياه الشرب، فقد حظيتا بتوفيره عبر الأنابيب مباشرة من العيون إلى المدينة في كل من ينبع وجدة، ولما كانت الفكرة جديرة بالاهتمام، وهي بالفعل عين الصواب لحل مشكلة نقص المياه في ذاك الوقت، فإن تنفيذها يحتاج إلى فطنة وكياسة ودراية ولباقة في سياسة أمور الدولة.

هنا يكون الملك عبد العزيز بهذه الصفات قد أخذ العزم والتصميم على تنفيذ المشروع، لكنه لم يدع ملاك العيون إلى قصره، ويهدد ويزبد ويرعد، ولم يرسل جنودا وحرسا إلى وادي فاطمة لإجبار أصحاب العيون على الطاعة، وأخذ عيون مزارعهم بالقوة، بل كان حكيما، فأمر بإرسال حكم من أهل العيون هو الشريف عبد الله جساس مندوبا من الأهالي، وحكم آخر من إدارة حكومته ممثلا لوزارة المالية، هو الشيخ صالح قزاز، وكانت توجيهاته مكتوبة لوزير ماليته عبد الله السليمان بالموافقة على اعتماد أي مبلغ يرضونه عوضا عن سحب المياه من عيون مزارعهم بالوادي.

وفي صبيحة اليوم الثاني من شهر محرم 1364هـ، اجتمعت الهيئة المكلفة مع ملاك عيون مياه وادي فاطمة، وعددها 8 هي: عين أبي شعيب، وعين الروضة، وعين الجموم، وعين الحسنية، وعين أبي عروة، وعين الهنية، وعين الخيف، وعين البرقة، وكان مقر الاجتماع في مخيم الخيف بوادي فاطمة.

وجاء في بنود الاتفاق، الالتزام بإصلاح العيون وتعميرها، وتكون تكلفة ذلك مناصفة بين الملك عبد العزيز وملاك العيون، باستثناء عين البرقة، فتكون نفقة إصلاحها وتعميرها كلها على نفقة الملك عبد العزيز الخاصة، ومن البنود أيضا جاء الاتفاق على أن يؤخذ من كل عين ثمن كمية الماء الموجودة فيها، على أن يدفع الملك عبد العزيز، طبعا من جيبه الخاص، مبلغ 45 ألف ريال عن كل عين ماء في وادي فاطمة، وتم تكليف مؤسسة محمد بن لادن بتنفيذ مشروع العين العزيزية، نسبة إلى مؤسسها الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - وكان ذلك في منتصف عام 1365هـ، ولقد أنجزت مؤسسة محمد بن لادن عملها كاملا في الوقت المحدد وبكفاءة، أي بعد عام ونصف العام من بدء التنفيذ.

ورغم أن تاريخ هذه الفترة يتزامن في وقته مع توقف الحرب العالمية الثانية واستمرار آثار الدمار لسنوات لاحقة، فإنه تم القيام بالكشف على مجاري العيون وترميمها وإصلاح قنواتها وتنظيمها ومن بعد مد أنابيب مصنوعة من الأسبستوس والإسمنت التي تتناسب مواصفاتها مع نوعية التربة المحلية في المنطقة، وبقطر يتراوح في حدود 300 ملم، كما تم إنشاء خزان كبير لتجميع المياه في طريق مكة الكيلو 14، وقد استمر العمل بكل جهد واجتهاد في الحفريات وعمليات نقل المواسير مع عدم توفر معدات وآليات للحفر، كما أن كفاءة الخبرة في مثل هذه المشاريع كانت محدودة أيضا بسبب ظروف آثار الحرب، ومع هذا أمكن جلب خبراء للمشروع من مصر وبريطانيا، يتمثلون في شركة «هنكي» البريطانية، التي قامت بتأمين الأنابيب وعمل التوصيلات اللازمة وإيصال الماء من عيون وادي فاطمة إلى مدينة جدة بمسافة 65 كيلومترا من عين أبي شعيب بالوادي.

باشرت العين العزيزية إدارتها بخمسة أو ستة موظفين، كما أنيطت رئاسة إدارة هذه العين لأول مرة بالشيخ عثمان بن علي باعثمان - رحمه الله - الذي بقي في رئاسة إدارتها عشرين عاما حتى وفاته، وجاء خليفته من بعده ابن أخته الشيخ حسين محمد الصافي، وكانت ميزانية إدارة العين آنذاك ثلاثة آلاف ريال فقط، ولعل صغر حجم إدارة العين ومحدودية النفقة عليها يعكس حدود مدينة جدة وتقدير حاجتها بحدود سور المدينة، لدرجة أنه نظرا لبعد المسافة بين خزان تجميع المياه والمدينة قامت إدارة العين العزيزية بمد أنابيب أخرى من الخزان إلى أماكن معينة داخل مدينة جدة على شكل بازانات لتوزيع المياه منها لمن يحتاج، وكان من أهم نقاط توزيع المياه هذه: بازانات القشلة والهنداوية والرويس والنزلة والشرفية وكيلو 4 والتكارنة والسبيل والبخارية والثعالبة والقريات والمحجر، وتفتح هذه البازانات من بعد صلاة الفجر وحتى الساعة الثانية ظهرا، وتتم سقيا المنازل من هذه البازانات بواسطة براميل تجرها الحمير وبعضهم كان يجلب الماء من البازانات على ظهره، والبعض الآخر يحمل الماء من البازانات على رأسه، وكان السكان يدفعون للسقائين مقابل نقل المياه من البازانات إلى بيوتهم، حيث لم تكن هناك توصيلات منزلية.

يمكن اعتبار يوم الجمعة غرة شهر المحرم 1367هـ، يوما تاريخيا في حياة مدينة جدة، حيث استبشر الناس خيرا وكسا التفاؤل قلوبهم، واطمأنت نفوسهم، ففيه تدفقت المياه عذبة غزيرة من عيون وادي فاطمة إلى مدينتهم، لدرجة أن كميات المياه العذبة المسحوبة من عيون وادي فاطمة كانت تفوق بكثير حاجة سكان مدينة جدة، وكان العاملون في خزان تجميع المياه يضطرون إلى تفريغ المياه العذبة الفائضة في الأرض ساعات طويلة، تمتد أحيانا من بعد الساعة الثانية ظهرا حتى فجر اليوم التالي، تخفيفا من احتمال أن تنفجر المواسير الحاملة للمياه من عيون وادي فاطمة، ومما يثبت واقع هذه الحقيقة ظهور مزرعة كبيرة سميت بمزرعة كيلو 10 قرب خزان تجميع المياه، وأصبحت من أكبر المزارع حول المدينة.

وفي الخامس من الشهر نفسه من العام نفسه أقيم احتفال شعبي كبير في الضاحية الشمالية من جدة بهذه المناسبة، شرفه ولي العهد آنذاك الأمير سعود بن عبد العزيز آل سعود، وتبادل الناس فيه التهاني بهذا المشروع الخيري العظيم والدعاء لصاحب اليد الطولى في إنشائه وتوزيعه على حسابه الخاص مجانا، والابتهال إلى الله له بالثواب، لقاء معروفه الشامل والدائم، الملك عبد العزيز آل سعود.

وما إن أمّن الناس مصدر حياتهم من المياه عذبا واطمأنوا باستمراره فوق الكفاية، حتى تمادوا في الاستهلاك دون وعي بالعاقبة، وتطاولوا في رفع حواجب أعينهم إلى ما وراء سور مدينة جدة، فكان أن تم هدم السور، وتكونت أحياء سكنية جديدة تتطلب بالضرورة مدها بالمياه العذبة، وكان لا بد من إنشاء شبكة مياه لأول مرة في مدينة جدة. وبدأت إدارة العين العزيزية بتوصيل مواسير المياه مباشرة إلى المنازل، وهذا بدوره أدى إلى جعل المياه متاحة للجميع ومن دون مقابل تقريبا، 15 هللة من كل مستهلك عن كل طن أو متر مكعب واحد، مقابل صيانة شبكة توزيع المياه، فزاد استهلاك المدينة 3 أضعاف ما قد تم تقديره، ولم تعد المياه التي تصل من عيون وادي فاطمة كافية لسد احتياجات سكان مدينة جدة ليتساوى على الأقل مع معدل النمو السكاني والتوسع العمراني فيها وكان لزاما على إدارة العين العزيزية أن تبحث عن مصدر آخر للماء، وكان لا مناص من الاتجاه نحو وادي خليص وإلى مسافة تبعد 150 كيلومترا عبر أراض وعرة صلبة وصخور جامدة جدا صلدة وقاسية وبالفعل تم جلب المياه العذبة من وادي خليص في شهر ذي القعدة عام 1378هـ.

وكان معلوما أن أعمال عين العزيزية الخيرية لا تقتصر على مدينة جدة وأهلها، وإنما المبدأ الأساسي من إنشاء العين وجعلها وقفا خيريا هو لخدمة حجاج بيت الله الحرام، الذي سعى الملك عبد العزيز آل سعود - يرحمه الله - إلى تحقيقه بأي ثمن، وبناء عليه قامت إدارة العين العزيزية بالدفع بالماء العذب، ومد شبكاته إلى مسافة بطول 450 كيلومترا من خطوط أنابيب عبر مكة - جدة، كما تم عمل «كباسات» نقاط توزيع يتوفر منها الماء العذب وعلى مسافات متقاربة فأصبح بالإمكان لأهل مكة وللحاج والزائر والمعتمر أن ينعموا بالأمان والاطمئنان وراحة البال وأن يسدوا حاجتهم من الماء العذب في الشرب والوضوء والاغتسال وسائر الأحوال بسهولة ويسر.. لقد كان عملا خيريا عظيما خدم الإسلام والمسلمين - رحم الله الملك عبد العزيز.

الحقيقة أن الأعمال الخيرية التي تقوم بها العين العزيزية لم تقتصر على إيصال الماء العذب، وإنما قامت بعدد من المشاريع الوقفية: أهمها بناء مسجد كبير بمدينة حجاج البحر، تصل مساحته إلى نحو 1500 متر مربع، وبه ملحق لقسم النساء مساحته 500 متر مربع كما أقامت خزان مياه خاصا لحجاج البحر وقت وصولهم سعته 2.600 متر مكعب إضافة إلى أعمال الترميم المستمرة في مدينة الحجاج.

ولما كان الملك فيصل بن عبد العزيز - يرحمه الله - نائبا لوالده على الحجاز أضفى على مشروع العين العزيزية الخيرية قسطا وافرا من اهتماماته، منها الدعم المالي اللامحدود، والمتمثل في مشاريعها الاستثمارية في مجال العقار، وعلى أراض تم منحها للعين بأمر منه لدعم إدارة العين العزيزية الفنية والإدارية المتزايدة عاما بعد عام، وحتى يضمن لها نوعا من التمويل الذاتي المستمر، حرصا منه - يرحمه الله - على توفير المياه العذبة لما يستجد من أحياء حديثة في مدينة جدة، وبالفعل فقد استجد ما لم يكن في الحسبان.

فالإنجازات السابقة على قدر ما بذل فيها من جهد ومال لم تعد تكفي، لأن مصادرها محدودة، إنما هو البحر الذي مياهه لا تنفد ما دام هناك حياة، ولأنه الأكبر مصدرا للمياه، والأقدر على مواجهة الطلب المتزايد على المياه العذبة، فكانت مشاريع التحلية.

ولعل من الأقدار السعيدة في ذلك الوقت من عام 1367هـ أن الملك عبد العزيز آل سعود - رحمه الله - استقدم خبرات أجنبية للبحث عن منابع للمياه في السعودية فكان أن وجدوا البترول والغاز وليس الماء! الأمير محمد الفيصل أوجد حلولا لمشكلة المياه

* ورغم الأهمية الكبرى لهذا الاكتشاف فإن الحاجة القصوى للمياه العذبة تبقى ضرورة ملحة في هذه البلاد، الأمر الذي دعا إلى استعراض كل ما يمكن بما فيه المستحيل، لمعرفة العوائق والصعوبات التي تكتنف جميع خيارات توفير المياه من تلقيح للسحب إذا ما وجدت (المطر الصناعي) أو جلب المياه من بلاد قريبة مثل السند وتركيا ومن نهر النيل في مصر رغم أن المصريين يستسقون طلبا للغيث ومزيد من الأمطار على دول منبع نهر النيل، خاصة على أراضي أوغندا، حيث تقع بحيرة فيكتوريا، المصدر الرئيسي لتدفق نهر النيل، وكيف بنا إذن أن نفكر في بلاد السند وتركيا أو حتى التفكير في جلب الماء العذب بالسفن، ونحن لا نضمن نقل البترول للأسواق العالمية حال حدوث صراع دولي مفاجئ في هذه المنطقة الحساسة من العالم! نقص الماء العذب أحد أهم عناصر حياة الإنسان أصبح معضلة الوجود الإنساني على كوكبنا (الأرض) فلا حياة من دونه متوفرا وبكميات كافية، هذا الشعور بالصعوبة في الحصول على الماء العذب في السعودية جعلها مشكلة، ومشكلة تبدو مستعصية، هذا الشعور دفع بالكثير من مفكري ما بعد العقدين السابع والثامن من القرن العشرين أن يجنحوا طويلا نحو التفكير فيما وراء الواقع والممكن، واستحداث ما يشبه المستحيل أو هو أقرب، مثل إحداث تفجير هائل في منطقة الربع الخالي، أو جلب جبال الثلج، أو إغلاق مضيق هرمز، حتى تصبح مياه الخليج عذبة من مصدره الرئيسي شط العرب، وإذا ما أطلق العنان لمزيد من الخيال فقد تم استعراض فكرة شق القناة العربية لربط الخليج العربي شرقا بالبحر الأحمر غربا رغم أن هضبة نجد ترتفع 630 قدما عن سطح البحر.

وإذا ما استمر الحديث عن عالم الخيال والإبداع من أجل البحث عن بدائل الخيارات لحل مشكلات أو معوقات التنمية في السعودية، فإن الأمير محمد الفيصل - الابن الثاني للملك فيصل يرحمه الله - يقف وراء معظم هذه الأفكار، خاصة حثه المتواصل من أجل إيجاد حل جذري لكل مشكلة دون نهاية، إنه في شخصه فلك من المعطيات لكنه يدور في مساره خارج نطاق الممكن، لأن الرجل لا يكتفي بالحلول النسبية، إنه يطمع في حل المشكلة جذريا وبما يرضاه هو لوطنه، لكنها المعاناة الأبدية لمن يقتحمون مجال الأبحاث لحل مشكلات أوطانهم، إن الأبحاث في الدول النامية ومنها السعودية تفتقر إلى البناء النظري (وجود نظرية) فترى الأمير منذ شبابه وهو مغرم بحب الخوض في كل بحث له علاقة بشأن بلده وتعد محاولاته البدائية وتجاربه دليلا واضحا على اهتماماته وجديته في الإسهام لحل كل مشكلة تعترض طريق النمو في بلده.

ولنأخذ مثالا آخر في حياة هذا الأمير غير المياه العذبة، فمبادرته الأولى في إنشاء البنوك الإسلامية (بنك فيصل الإسلامي)، واستقراء البديل لسعر الفائدة من الكتاب والسنة إلا أن تلك الجهود اقتصرت على المضاربة الإسلامية وهي - أي المضاربة - كانت منهجا تجاريا محضا في عصر ما قبل الإسلام، ثنائي الغرض لا تأثير لها على المتغيرات الاقتصادية، ولهذا تتعثر البنوك الإسلامية في قيامها كنظام اقتصادي عام، ذلك بسبب غياب البناء النظري في مقوماتها.. وهكذا فالفكرة وحدها لا تكفي كما أن التطبيق وحده لا يفيد لكنها الفعالية.

نعود إلى البحث عن حل مشكلة نقص المياه العذبة في السعودية فإن اسم الأمير محمد الفيصل يكون موثقا أبدا محفوظا في سجل تلك المحاولات، التي أدت إلى نتيجة قرار اللجنة التي قام بتكوينها والد الأمير الملك فيصل - يرحمه الله - وكان من نتائجها إقرار مشروع التحلية لمياه البحر، بناء على زيارة قام بها الأمير لبعض محطات التحلية الصغيرة الحجم، لغرض محدود جدا كالفنادق والبواخر والقصور مع إمكانية التوسع في القدرة الإنتاجية لهذه المحطات، حسب ما هو مطلوب حجما وإنتاجا.

وبالفعل تم إنشاء إدارة لتحلية مياه البحر في وزارة الزراعة والمياه، وأسندت مهمة هذه الإدارة للأمير محمد الفيصل بعد نقل وظيفته من مؤسسة النقد العربي السعودي حيث كان يعمل آنذاك، وفي العام نفسه 1385هـ أخذت الإدارة العامة لتحلية المياه المالحة في وزارة الزراعة برئاسة الأمير تتهيأ للبدء في الخطوات الأولية من دراسة للجدوى وإعداد للبحوث والدراسات في مجال التحلية خصوصا، والمياه عموما.

ورغم إنشاء إدارة عامة لتحلية المياه المالحة، التي تحولت إلى وكالة في عام 1392هـ ثم إلى مؤسسة عامة في عام 1394هـ، استقلت في مبنيين متجاورين عن مبنى الوزارة يقعان بشارع خزام في جدة (طريق مكة المكرمة)، ومنها بدأت الخطوات الأولى لإنشاء محطات لتحلية المياه المالحة، فإن الرؤية لم تكن قد تبلورت بعد، خاصة في قناعة المسؤولين في الجهات العليا بكون التحلية هي الحل الأمثل والأخير، فما زال بصيص من أمل في بديل أرقى مثالية وأنقى شفافية لحل جذري لمشكلة نقص المياه العذبة في السعودية، وظل البحث في جولة أخرى للحصول على البدائل.

وفي هذا الشأن كلفت حكومة السعودية سبع شركات عالمية بعمل دراسات طبوغرافية على سبع مناطق في السعودية هي: الشمالية والشرقية والوسطى والغربية والجنوبية والغربية الشمالية والجنوبية، وتم تكليف الأمير محمد الفيصل مدير عام إدارة تحلية المياه المالحة بأن يكون ضابط الاتصال مع الشركة الإيطالية المكلفة بدراسة منطقة الربع الخالي، وفي وقتها تم اكتشاف أن المياه الجوفية تناقصت بمقدار ثلاثين مترا على طول الطبقة الممتدة من تبوك إلى البحرين، وهو ما يعني فاقدا هائلا من المياه يصل إلى بلايين الأطنان، وعليه تم منع شركة التنقيب عن البترول «أرامكو» من استخدام المياه الجوفية في رفع ضغط آبار البترول، كما تم البدء في ترشيد استخدام المياه للزراعة عموما.

ويمكن القول في هذا الصدد بأن مصادر المياه الجوفية كانت أقل المصادر، التي تم التفكير في الاعتماد عليها لسبب رئيسي: أنها عرضة للنضوب، خاصة إذا ما فاق السحب للتعويض بمراحل، كما أن في نضوبها خطرا كبيرا، إذ إن الفراغ الذي تتركه المياه المسحوبة يمكن أن يسبب عدم الاستقرار للقشرة الأرضية وقد تتسبب في انهيارات وزلازل أرضية قد تمتد آثارها إلى مسافات بعيدة عن الموقع الأساسي، وهي - أي المياه الجوفية - مخزون غير مضمون التجدد، ويجب المحافظة عليه كاحتياطي واستراتيجي لتنمية القطاع الزراعي، الذي تتعاظم الحاجة إلى تطويره والاعتناء به في ظل ما يسود العالم من مجاعات واختلال في الأمن الغذائي.

ولأن الأمير محمد الفيصل كثير الاجتماع مع والده الملك فيصل - يرحمه الله - فتهيأت له الفرص في تجاذب أطراف الأحاديث وطرح الأفكار حول الممكن والمستحيل في بدائل الحلول المتاحة لحل مشكلة المياه في السعودية، والحديث في هذا الموضوع يكون ذا شجون، خاصة أن هذا الموضوع من المواضيع الشائكة والعويصة والمتشعبة والمعقدة، وقد يستعصي الكثير من البدائل له.

ولعل أكثر البدائل توسعا في الطموح والخيال هو دراسة قد تمت لنقل المياه العذبة من جزيرة «ري فيوي» الواقعة قرب جزيرة مدغشقر. ومن العوامل التي شجعت على ذلك أن هذه الجزيرة تحتوي على نهر ليس بطويل، لكن كمية المياه المتدفقة منه هائلة ومهدرة في البحر، بينما الجزيرة نفسها مهجورة وشبه خالية من السكان.

وبعد الانتهاء من كل الدراسات عن مصادر المياه العذبة في السعودية وفي المناطق المحيطة بها، ومقارنة البدائل، خاصة الخارجية منها، وجد أن التكلفة المالية باهظة، ناهيك عن التكلفة السياسية التي تتمثل في الاعتماد في هذا الأمر الحيوي على دول أخرى، وتم الانتهاء أخيرا إلى أن تحلية مياه البحر أحد الحلول الأكثر جاذبية، ولا ننسى أنها حصيلة كل هذه الدراسات واستعراض تلك البدائل المتعددة فكان من نتائجها إقرار بناء محطات تحلية مياه البحر، كان هذا الحل الممكن والبديل الأفضل لتوفير المياه العذبة لسكان السعودية، ويرجع ذلك بعد توفيق الله لجهود وفكر الأمير محمد بن فيصل بن عبد العزيز آل سعود الذي لم يكن يألو جهدا في استقصاء جميع الخيارات، محليا وإقليميا ودوليا.

ولو استشعرنا مرئيات الأمير وهو خارج مسؤولية الإدارة الآن عن مستقبل التحلية لكان رأيه مزيدا من الأبحاث لربط مياه البحر التي لا تنفد بالطاقة الشمسية التي لا تنفد، وبهما تستطيع السعودية إنتاج الماء والكهرباء بأقل تكلفة من أي بلد في العالم، على امتداد أطول عمر لأي محطة، وعليها تزدهر البلاد وينعم العباد بقوة الاقتصاد، ويأخذ النمو في معدلاته العالية مستمرا ومستقرا، وربما يزيد الأمير أن نبدأ بتشغيل المحطات الصغيرة باستخدام الطاقة الشمسية وعلى محطة «الوجه» بالذات كما بدأناها أول محطة لتحلية مياه البحر المالحة في السعودية.

الوجه وضبا بداية الانطلاقة

* ودخلت السعودية بعد ذلك عصر الماء العذب المحلى من مياه البحر، حيث بعد عصر الكنداسة لم تعرف مدينة جدة تحلية مياه البحر، وكانت محطات التحلية في السعودية قد اقتصرت على مدينتين ساحليتين صغيرتين هما الوجه وضبا اللتان ارتوتا بأولى قطرات الماء العذب المحلى من مياه البحر في البلاد وقد بدأت أعمال الإنشاء لهاتين المحطتين في عام 1387هـ، وبدأ التشغيل والإنتاج بعد ذلك بعامين، وكانت المحطتان أحاديتي الغرض وتعملان بطريقة التبخير الوميضي، ولكل منهما طاقة تصدرية بمقدار 198 مترا مكعبا من المياه المحلاة يوميا لتتوالى مشاريع التحلية وتعم كل المناطق وتسقي أعالي الجبال ومدن السواحل والصحاري وحققت السعودية الريادة في ذلك، كما تم إنشاء معهد لأبحاث تحلية المياه المالحة، قام خلال ربع قرن هو عمره بإجراء دراسات بحثية مختلفة في مجال تحلية المياه المالحة بأسلوب تجاري، ويقع المعهد بجانب محطات التحلية والقوى الكهربائية بالجبيل على الساحل الشرقي من السعودية، وحقق المعهد إنجازات عالمية وبراءات اختراع، وجوائز محلية ودولية، ومع كل ذلك أصبحت السعودية من الدول الرائدة في تقنية تحلية المياه المالحة وتوفير الماء العذب المحلى إلى السكان في جميع مناطق البلاد.