500 مخطوط نادر ونفيس تعود للحياة في الرياض بعد قرون على نسخها

مركز البابطين للتراث ينجزها بنفس وضع مصنفيها الأوائل * عشاق التراث يطلعون على نوادر المخطوطات بعد نجاتها من الإعياء وأمارات المرض * إجراء عمليات جراحية دقيقة لإعادتها الى الحياة لأن النار تحرقها والماء يغرقها والفار يخرقها واللص يسرقها

TT

ترك أعلام المسلمين عدداً هائلاً من الآثار في شتى أعلام المعرفة وبما يمثل رصيداً قيماً تفخر به الحضارة الإسلامية وتسعد به، وبذل مؤلفو الكتب جهوداً عظيمة في صناعة هذه التآليف التي تزخر بالعديد من خزائن الكتب، وقد وصلت إلينا في شكل مخطوطات عبر رحلة زمنية طويلة تعرضت فيها لمخاطر الفناء وأسباب الضياع والتلف فضاع منها ما ضاع وبقيت لنا رسومه في كتب الآخرين ونجا منها عدد كثير لا يستهان به، غير أن ما وصلنا منه وصل جريحاً عليه علامات الإعياء وأمارات المرض، ومؤشرات النقص، ونحوها من آثار قد لا تعطينا تصوراً دقيقاً عن الشكل الاول الذي وضع مؤلفو الكتب كتبهم عليه.

ومن هنا تعظم مسؤولية الأسرة التراثية في خدمة كتب أعلمنا خدمة تليق أولاً بمقامهم العلمي، وتتناسب ثانياً مع الجهد الذي بذلوه، في صناعة هذه الكتب صناعة كانت لها آثار واضحة في دفع مسار الحضارة الإسلامية إلى التقدم والإزدهار، ولذا كان ضعف إخراج النصوص التراثية وعدم الدقة والإتقان في التعامل معها له آثار سلبية موجعة من أبرزها عزوف القارئ عن قراءة الكتاب والاستفادة منه.

وتوجهت عدة جهات رسمية وأهلية ضمن الأسرة التراثية للبحث عن المخطوطات وطباعتها بعد إجراء عمليات جراحية قيصرية دقيقة يتولاها الأطباء وهم خبراء المخطوطات لبعثها إلى الحياة من جديد.

ونجح مركز سعود البابطين الخيري للتراث والثقافة في تقديم مجموعة من المخطوطات النادرة والمهمة، حيث أنجز قسم الدراسات والبحوث والنشر في المركز مجلدين تضمنا 500 مخطوطة مختلفة الموضوعات والأزمنة، وحرص فيه معد الكتاب الدكتور جمال عزون على ذكر اسم المخطوط واسم مؤلفه وتاريخ وفاته، وعدد ورقات المخطوط، ومقاسه وعدد أسطره، وتاريخ نسخه، ورقم حفظه في خزانة المركز، مع وصف عام للمخطوط وبيان كمال النسخة أو نقصانها، ومدادها، وورقها وزخارفها وتذهيباتها، وبدايتها ونهايتها، مع مصادر توثيقية في آخر الفهرسة، وأرفق مع نهاية كل وصف لمخطوط صورة واحدة منتقاة منه.

واختصر المركز الحديث عن أهمية المخطوطات ونسخها وأهمية الفهرسة الدقيقة للكتاب المخطوط ودور المفهرس في إعطاء تصور واضح لعشاق التراث، وكيف كان يمثل نسخ الكتب وإحيائها من مكانة بإيراد كلمة لعالم نسخ كتاباً بعد أن كاد يبلي من القدم، وفيه تتجلى عاطفة العالم الصادق الذي يهدف من إعادة نسخ الكتب إحياءها نظراً لقيمتها العلمية، وفيه درس لمن استسهلوا إعادة طباعة الكتب ـ ولو نشرت من قبل ـ وهمهم الوحيد الجشع المادي فقط.

وجاءت كلمة العالم كما يلي: «وقد وقفت على بعض عبارات من هذا الكتاب في حواشي جمع الجوامع، فإذا هي كالشهد المستطاب، ولهذا كانت أشواقي تهيج لرؤيته، ونواظري مترقبة لبهي طلعته، حتى عثرت عليه في المدرسة المتبولية، بدمياط المحمية، فأدركته وهو من الحياة على آخر رمق، تمزقت أوصاله، وكاد يموت في جلده هذا الورق، وجدته في المكتبة البدرية، وهو يئن ويصرخ لما حل به من الرزية، رأسه عند رجليه، ورجلاه عند عينيه، لأنه ليس معقباً ولا منمرا، بل مشتتا مبعثرا، فأخذته وأغثته وجعلته في حضانتي، ووضعته في كفالتي، وشرعت أعالجه، وباللطف أمازجه، متأنيا بلا ملل، حتى زال معظم الخطر والخلل، ووضعت كل عضو منه في موضعه، فاستراح نوما ولم يتجاف عن مضجعه، وأنفقت في إصلاحه سنتين، حتى صار قرين لعين، وعززت نسخته الأصلية، فنقلت منها بخطي نسخة ثانية سنية، وقلت للأصل: سنشد عضدك بأخيك، ومع بذلي المجهود في هذا المقصود، لم يعد جسم هذا الكتاب على مقدار أصله المستطاب، بل ضاعت منه أوراق لم تكن بها نلتقي، والحمد لله على هذا الذي بقي، فإني لم أجد له في القطر المصري أثرا ولا خبرا، لا في الديار ولا عند الاحبار.. جزى الله مؤلفه خير الجزاء، ووالى عليه سحائب رحمته الفيحاء آمين/ عبدالرحمن الخضري شيخ علماء دمياط».

وأكد المركز أن هذه إطلالة تبين لنا المراحل التي يسلكها الكتاب خلال رحلة زمنية مضنية، ومن خلالها ندرك اهمية الفهرسة الدقيقة للكتاب المخطوط ودور المفهرس في إعطاء تصور واضح لعشاق التراث، وقد سلكنا في فهرسنا هذا جملة خطوات نحسب أنها تؤدي الغرض الذي يطمح إليه الباحثون في مجال التراث، وركزنا فيه على: اسم المخطوط، واسم مؤلفه، وتاريخ وفاته، وعدد ورقات المخطوط، ومقاسه، وعدد أسطره، وتاريخ نسخه، ورقم حفظه في خزانة المركز تسهيلا لمن رام صورة عنه، مع وصف عام للمخطوط وبيان كمال النسخة أو نقصانه، ومدادها، وزخارفها، وتذهيباتها، وبدايتها ونهايتها، مع مصادر توثيقية في آخر الفهرسة، وأرفقنا مع نهاية كل وصف لمخطوط صورة واحدة منتقاة منه.

وأكدت مقدمة كتاب المخطوطات التي انجزها مركز سعود البابطين للتراث والثقافة إن أعلامنا الأخيار كانوا يتوخون هدفا نبيلا فيما يصنفون وهو ابتغاء الأجر والثواب من عند الله جل جلاله، لان كتبهم وآثارهم تعد أعمارا ثانية على حد قول الشاعر:

يموت أقوام فيحيي العلم ذكرهم والجهل يلحق أمواتا بأموات فكلما استفاد من كتابه من استفاد كان ذلك في ميزان حسنات هذا المؤلف، ولك أن تتخيل كتابا كجامع البيان في تأويل القرآن للإمام الطبري المتوفى سنة 310هـ، ومدى استفادة الناس منه استفادة واضحة نحسب أن ذلك كله بإخلاص مؤلفه الذي مضى على وفاته قرابة عمر نوح عليه السلام، أفلا يحق أن يقال: إن الطبري حي معنا قد كتب له حقا عمرا آخر، وقس عليه أمثاله من عباقرة التأليف الذين بقيت مؤلفاتهم تترى بين أيدي الناس رغم الأحقاب والأزمنة التي مرت، وهذا الإمام البيهقي يقول عنه عبدالغافر الفارسي في كتابه «السياق لتاريخ نيسابور» بعد أن ذكر جملة من تآليفه: « “وغير ذلك من التصانيف المتفرقة المفيدة جمع فيها بين علم الحديث وعلله، وبيان الصحيح والسقيم، وذكر وجوه الجمع بين الأحاديث، ثم بيان الفقه والأصول، وشرح ما يتعلق بالعربية، على وجه وقع من الأئمة كلهم موقع الرضا ونفع الله تعالى به المسترشدين والطالبين، ولعل آثاره تبقى إلى القيامه”.

ومن هنا تتجلى مسؤولية المتعامل مع أمثال هذه النصوص التي يجب عليه شرعا أن يخرجها في ثوب علمي صحيح أقرب ما يكون إلى وضعها الأول الذي وضعه مصنفه، وواضح بعد هذا أن الإهمال في إخراج الكتاب هو اعتداء قبل كل شيء على مؤلفه الأول الذي يخشى أن يتناول من حسنات محققه يوم لا ينفع مال ولا بنون.

إن أي كتاب صنفه أحد الأعلام لا يخلو من المراحل الآتية التي سبقت ظهوره من خلال:

أولاً: أفكار وخواطر تتجمع في ذهن المؤلف حول موضوع الكتاب.

ثانياً: جمع مادته العلمية التي تكل حجر الأساس للكتاب.

ثالثا: نسخ الكتاب في شكل مسودة قابلة للإضافة.

رابعا: تبييض الكتاب في شكله النهائي.

خامساً: بداية انتشار الكتاب في شكل نسخ فرعية انتسخت عن أصل المؤلف الأول, وهذا يعني تعدد نسخ الكتاب الواحد، ولذلك أسباب من أهمها:

تعدد الرواة عن المؤلف:

فهذا ابن ماكولا كان يمتلك نسختين من كتاب تاريخ مصر لابن يونس إحداهما بخط الصوري والاخرى بخط ابن الثلاج.

كثرة إملاء المصنف لكتابه مرات عدة:

فكتاب الجمهرة لابن دريد له نسخ كثيرة أملاه مؤلفه بفارس وبغداد، وآخر ما صح من النسخ نسخة أبي الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي لأنه كتبها من عدة نسخ وقرأها عليه.

سادساً: بعد وفاة المؤلف يبدأ الكتاب في رحلة زمنية عبر التاريخ يدخل من خلالها في صراع البقاء او الفناء، وكلما ابتعد عصر المؤلف ازدادت فرص ضياع أصله الأول، ويمكن أن يصاحب ذلك فقدان الفروع التي انتسخت منه، كما يمكن أن يبقى الأصل دون الفرع دون الأصل أو يبقيان جميعاً وذلك من فضل الله على مؤلفه وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون.

سابعاً: محطة الوصول وهي رفوف الكتب وخزائنها التي تحتفظ في عصرنا الحاضر بهذا التراث الضخم الذي دخل من قرون غابرة في سباق زمني حتى وصل إلينا بهذا الشكل الذي يجعلنا حقاً نحن بشوق ولهف إلى الزمن الأول ومعرفة قصة كل كتاب تنهض أسرة التراث بعبء تحقيقه.

ثامناً: طباعة هذه المخطوطات بعد إجراء عمليات جراحية قيصرية دقيقة، يتوقف مدى نجاحها ـ بعد توفيق الله ـ على خبرة الأطباء المتخصصين في ميدان الجراحة، وهؤلاء الأطباء هم خبراء المخطوطات الذين رزقوا ذوقا رفيعا وعلما غزيرا، إذ التعامل مع المخطوطات فن دقيق تترتب عليه مسؤوليات تاريخية وعلمية، ولا شك أن الفشل سيصحب أي عملية يتولاها غير متخصص في فنه.

إن هذه المرحلة ـ وهي السابعة هنا في هذا الترتيب ـ تعد بعثاً جديداً للمخطوطات وأحياء له في شكل آخر لم يعهد عند الاولين الذين عرفوا الكتاب في أوضاع خطية لا تتجاوز نسخه شيئاً كثيراً، بخلاف عصر الطباعة فإن الكتاب الواحد يطبع منه الألوف من النسخ، وهذا شيء جديد لم يعرف في الزمن الغابر، ومن هنا تعظم المسؤولية على محقق الكتاب فأدنى إهمال أو تقصير في إحياء الكتاب سيكون صداه واسعاً في أسرة التراث المنتشرة في بقاع الأرض.

إن المرحلة السابعة وهي انتشار الكتاب بعد طباعته تشبه الى حد ما المرحلة الخامسة السابقة وهي بداية انتشار الكتاب في شكل نسخ فرعية انتسخت عن أصل المؤلف، ووجه الشبه بينهما أن الذي كان يتولى انتساخ فروع عن أصل المؤلف أو أصل قريب من عهده نساخ علماء، أو وراقون متخصصون، أو وراقون تجار همهم الأكبر سرعة انتساخ الكتاب دون مراعاة عنصر المقابلة والتصحيح، ويقابل هذا تمام ما نلحظه من تفاوت مراتب المتعاملين مع نصوص التراث في عصرنا الحاضر، فمنهم جهبذ ذو قدم راسخة في العلم والمعرفة يحسن جداً فن التعامل مع المخطوطات ويخرجها في شكل يفرح له عشاق التراث، وآخرون دونهم في العلم لكن لهم ذوق ومعرفة ودربة أهلتهم لإخراج نصوص تليق بمؤلفيها، وآخرون خلطوا عملا صالحا وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم، ودونهم معضلة هذا العصر وهم المتطفلون الذين مسخوا التراث مسخا لم يعهد له مثيل، وشوهوا جمال نصوص أعلامنا تشويها بليغا.

لقد مرت مرحلة زاهية في مسيرة الأسرة التراثية حين كان ينزل الكتاب إلى عالم الطباعة ويتصدى له أكثر من علم تحديداً لإيجابياته وسلبياته، وأدى ذلك الفحص الدقيق الى ظهور نصوص رائعة تولى تحقيقها فطاحلة هذا العلم وتلامذتهم النجباء، بل كان أحدهم يطلب بنفسه من علم آخر أن يتولى نقد تحقيقه في تواضع جم وأدب علمي، رفيع، فكانت مبادلات علمية ونقاشات هادفة أثرت والحق يقال مكتبتنا التراثية، وما زالت تلك المطارحات بين الأديب الكبير شيخ المحققين عبدالسلام هارون وانستاس الكرملي تتجلى في ذاكرة الواحد منا، لما تميزت به من نقود بارعة وإبداء قراءات أخرى لكلمات الشكل والمعنى.

وشدد مركز سعود البابطين الخيري للتراث على أنه يجب ان ندرك أن المخطوط أشبه بالكائن الحي، فيعتريه ما يعتري الكائنات من حرق وغرق وتآكل وانطماس وفقدان وشيخوخة ومرض وغير ذلك من عوامل لا تخفي، وقد قال أبو سعد ابن دست رحمه الله في ذلك شعراً:

عليك بالحفظ دون الجمع في كتب فإن للكتب آفات تفرقها النار تحرقها والماء يغرقها والفأر يخرقها واللص يسرقها لذا كان إصلاح ما وهى منه عمل شريف له قواعده وضوابطه، وقد كان مؤلفو هذه الكتب يهدفون إلى تخليد ذكراهم للاجيال القادمة، ويأملون ثواب رب العالمين، ويبذلون قصارى جهدهم لتجاوز ما قد يعيقهم عن تحقيق أملهم في ذلك فهذا أبو عبدالله الحسين بن أحمد البيهقي (ت 536 هـ) ، يذكر السمعاني في كتابه التحبير أنه لحقته علة الدم فقطعت أصابعه العشر ولم يبق له إلا الكفان فحسب، ومع هذا كان يأخذ القلم بكفيه ويضع الكاغد على الأرض ويمسكه برجل ويكتب بكفيه خطا حسنا مقروءاً مبينان وقد وصلتنا هذه المخطوطات من أعماق زمنية سحيقة تطول وتقصر، وقد تلقيناها في حاضرنا باعتبارين:

الأول: كونها نصاً معرفيا كتبه مؤلف هو الآن في عداد الموتى، وللموتى حقوق في الإسلام، فلنعتبر أثر هذا العالم وإخراجه بوجه يليق بمقامه العلمي حقا من حقوقه علينا.

الثاني: كونها أثراً مادياً قطع رحلة زمنية طويلة عبر الزمن، ومن حقه علينا ترميمه وصيانته ليعيش عمراً آخر، ويخلد اسم مؤلفه.

وذكر عبداللطيف بن سعود الباطين نجل من حمل المركز أسمه في حديثه عن فكرة هذه المخطوطات بأنه: قبل نصف قرن مضى أو يزيد وتحديداً في عام ثلاثة وسبعين بعد الثلاثمائة وألف من هجرة من له العز والشرف وقعت في يدي مخطوطتان قيمتان هما كتاب السنن للحافظ أبي داود سليمان ابن الأشعث السجستاني المتوفى عام 275هـ، وغالية المواعظ وقبس الواعظ لعلامة العراق نعمان بن محمود الآلوسي المتوفي عام 1317هـ، فأقبلت على قراءة المخطوطتين وأستأنست بما في الاولى من أحاديث نبوية شريفة، وبما في الثانية من مواعظ وحكم وشدني الأسلوب السهل الذي انتهجه العلامة الآلوسي في كتابه القيم، فازدادت محبتي للمخطوطتين خاصة بعدما حثني والدي ـ يرحمه الله ـ على مواصلة القراءة فيهما بل وحرص على أن يسمع بنفسه قراءتي منهما، بعد ذلك ترسخت من حينها علاقتي بهما وبما ضمته مكتبة صغيرة في منزلنا آنذاك من كتب أدبية وتاريخية ومع توالي السنين وتعاقب الأيام بدأت هذه المكتبة تكبر وتتزود بنوادر المطبوعات وفاخر كتب التراث ثم تاقت نفسي للعودة الى المخطوطات وعزمت قدماً للبحث عن نفائسها ونوادرها فسرحت في هذا الكون للبحث والتنقيب ويسر الله لي زيارة دول شتى ومدن وقرى فيها بيوتات أهل علم وتقى فأقتنيت منهم عدداً كبيراً من نوادر هذه المخطوطات وحضرت مزادات في تلك الدول وبمساعدة بعض الأخوان كانت الحصيلة رصيداً وافراً من هذا التراث واشتمل على مصاحف كريمة بما فيها الرقوق والمخطوطات في علوم القرآن والتجويد والتفسير والحديث والسير واللغة والنحو والشعر والأدب والفقه والأصول والطب والصيدلة والفلك والرياضيات وآلات الأصطرلاب وعلوم البحار والجغرافيا والتاريخ والتراجم وسير العلماء والملوك والسلاطين وشهيرات النساء العالمات وغيرها من العلوم المتنوعة.

وبعد كل ما تقدم فإنه بكل فخر واعتزاز فإن مركز والدنا سعود البابطين الخيري للتراث والثقافة في الرياض يسعده أن يقدم للأسرة التراثية هذين المجلدين القيمين في ثوب قشيب وحلة بديعة وفيهما قبس من مخطوطاتنا النفيسة ريثما يصدر الفهرس الشامل لمخطوطات المركز في عدة مجلدات.

500 مخطوط نفيس

* ونظرا لكثرة المخطوطات وتنوعها التي ضمها مجلدان فسنكتفي بايراد بعضا منها ، فهذه مخطوطة الأحكام الكبرى «المجلد الخامس» لضياء الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي وهي بتاريخ 640 هـ ووصفت بانها نسخة نفيسة تمثل المجلد الخامس من كتاب الحافظ الضياء المقدسي «الأحكام الكبرى»، كتبت بالمداد البني، على كاغد مشرقي قديم صقيل شامي الصنع، وزينت الدفتان بإطار منقوش برسوم زهرية، وبداخله دوائر مضغوطة بها نقوش أيضا ونجمة ثمانية، وتجليده من الورق المقوى المغلف بالجلد البني الداكن.

وقد استعمل الناسخ نظام التعقيبة، في وصل ورقات النسخة، كما استعمل نظام تجزئة الملازم، وكل ملزمة تحوي 10 ورقات وتوجد على حواشي النسخة تصحيحات، مما يزيد من نفاسة هذه النسخة.

يوجد من هذا الكتاب المجلد الأول والثاني في دار الكتب المصرية بالقاهرة مع ملاحظة انه ورد في الفهرس «أحكام الصبا» وهو تصحيف.

وقد ذكر كتاب الضياء المقدسي «الأحكام الكبرى» جمع من أهل العلم منهم الحافظ الذهبي حيث قال: «ومن تصانيفه المشهورة... كتاب الأحكام ولم يتم في ثلاث مجلدات».

وقال ابن رجب: «كتاب الأحكام يعوز قليلا في نحو عشرين جزءا في ثلاث مجلدات».

كما نقل عنه ابن حجر في كتابه فتح الباري.

وقد أتمه ابن أخيه محمد بن عبد الرحيم المقدسي 607 ـ 699هـ قال الذهبي في تاريخ الإسلام ت وفيات 688 هـ «تمم تصنيف الأحكام الذي جمعه عمه الضياء».

وقال ابن رجب في الذيل «لازم عمه الحافظ الضياء وتخرج به.. وتمم تصنيف الأحكام الذي جمعه عمه الحافظ ضياء الدين».

ولابن عبد الهادي محمد بن أحمد المقدسي 704 ـ 744 هـ «الأحكام الكبرى المرتبة على أحكام الحافظ الضياء كمل منها سبع مجلدات» كما في ذيل ابن رجب.

ويمثل هذا الكتاب نموذجا من كتب أحاديث الأحكام التي جمع فيها مؤلفوها أشهر الأحاديث النبوية المتضمنة لأحكام الشريعة الإسلامية، وكتابنا هذا من أوائل ما ألف في هذا الباب.

كما قدم المركز مخطوط (المصباح المضئ في كتاب النبي الأمي ورسله إلى ملوك الأرض من عربي وعجمي) ، تأليف: أبي عبد الله محمد بن علي بن أحمد الأنصاري المشهور بابن حديدة الأنصاري وهي نسخة تامة جاء في آخرها أن المؤلف فرغ من تأليف الكتاب سنة 779 هـ، كتب فيها النص بالمداد الأسود واستعمل الناسخ المداد الأحمر في كتابه العنوان، والدوائر الفاصلة بين الفقرات أحيانا طبع الكتاب في الهند عام 1396هـ ـ 1976م اعتمادا على ثلاث نسخ خطية.

وجاء في بداية النسخة: الحمد لله الذي قهر الجبابرة، وكسر الأكاسرة، فهو رب الدنيا والآخرة، سبحانه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر... أما بعد: فهذا كتاب نفيس يشتمل على شمائل المصطفى وأصحابه الخلفاء، ورسله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك ككسرى وقيصر وغيرهم من الملوك.

وفي نهاية النسخة: وهذا ما تيسر مما وقع إلى إسناده من الكتب التي استخرجت منها ما في جمعيه في كتابي هذا وما تحققت إسناده وكان مثبتا عندي، وأضربت عما لم أتحققه من ذلك ولله الحمد والمنة، وصلى الله على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد نبي الرحمة، وشفيع الأمة وآله وصحبه الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وأن ينفعنا بمحبتهم أجمعين.

القانون الذي استهوى الأفرنج

* وتضمن المجلدان كتاب «القانون في الطب» من تأليف أبي علي الحسين بن عبد الله بن الحسن ابن علي بن سينا البلخي ويلقب بالشيخ الرئيس وهي: نسخة تامة، كتبت بخط تعليق، بمداد أسود واستعمل الناسخ المداد الأحمر لكتابة عناوين الفصول وخطوط التنبيه، على كاغد مشرقي سوى الأوراق الأخيرة فقد رممت ورقتان بكاغد أوربي، أما الثالثة والرابعة فأوربيتان خالصتان تظهر فيهما الخطوط المائية المتوازية والعلامة المائية التجارية، وفي أول النسخة خمس تقاييد تملك معها أختامها، واستعمل الناسخ نظام التعقيبة في وصل الأوراق بعضها ببعض، وتجليد النسخة من الورق المقوى السميك الجرم. والمغلف بالجلد الأسود، وكعبها من الجلد البني الداكن.

ويعد كتاب «القانون في الطب» من أشهر مؤلفات ابن سينا، ويسميه علماء الإفرنج «canonmedicina» بقي معولا عليه في علم الطب وعمله ستة قرون، وترجمه الفرنج إلى لغاتهم، وكانوا يتعلمونه في مدارسهم، وطبعوه بالعربية في روما عاصمة ايطاليا عام 1476م في أربع مجلدات بعد اختراع آلة الطباعة بنحو ثلاثين عاما، وهم يسمون ابن سينا «Avicenne»، وله عندهم مكانة رفيعة أفاده الزركلي رحمه الله تعالى، ونسخة مركز سعود البابطين منسوخة عام 1066هـ ـ 1656م فهي متأخرة عن أول طبعة للكتاب في روما بـ 180 عاما.

وهناك مخطوط المدد في معرفة العدد من تأليف: أبي إسحاق إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الجعبري ، وهي نسخة تامة، على بعض حواشيها تصحيحات، كتب فيها النص بالمداد الأسود، على كاغد مشرقي، وتجليدها من الورق المقوى المغلف بجلد أحمر، وزينت الدفتان بإطارين منقوشين متصل بهما دوائر مضغوطة منقوشة.

ذكر هذا الكتاب الجعبري نفسه في رسالته: «الهبات الهنيات» كما في حاشية «رسوخ الأحبار» وسماه: «حسن المدد في فن العدد»، وله نسخة خطية بالمكتبة الأحمدية بحلب ناقصة بخط المؤلف، ونسخة أخرى في مكتبة عبد العزيز قاري الخاصة بالمدينة النبوية، أما نسخة مركز سعود البابطين فمنسوخة عام 700 هـ ولا شك في قيمتها.

وجاءت بداية النسخة : الحمد لله الذي أنزل القرآن مفصلا سورا وآيات ومركبة من كلمات ومتنوعات مؤلفة من حروف متناسبات. أما نهاية النسخة فجاءت: واجتهدت فيه على تحرير ألفاظه وتقرير معانيه، إسعافاً مني لمعانيه، وتذكرة أرجع إليها، وتبصرة يعول عليها لئلا ينقطع العمل بانقضاء الأمل.

وضمن المخطوطات كتاب مجموع في علم الرصد والأرباع والمقنطرات من تأليف: تقي الدين محمد بن معروف الراصد الدمشقي الأسدي ويمثل نسخة تامة، كتبت بخط التعليق، ودبجت باللغة العربية مع شروح بالفارسية، وكتب فيها النص بالمداد الأسود، على كاغد أورويي تظهر فيه الخطوط المتوازية والعلامة المائية، وتجليدها من الورق المقوى المغلف بجلد بني داكن، وزينت الدفتان بإطار داخله بميدالية مضغوطة ذات امتدادين علوي وسفلي مضغوطة.

وجاء في بداية النسخة: طريق وضع الدقائق في قوس الارتفاع: اعلم أنك إذا أردت أن تضع الدقائق النجومية في الربع تحت قوس الارتفاع فطول خط المشرع...

ونهاية النسخة: ونصف قطره بعد مركز فيه مساو وتضمن المجدلان كتاب دائرة استخراج الضمير ، لمجهول ويعد نسخة تامة لم يذكر فيها المؤلف، وموضوعها دعوى استخراج أمور غيبية عن طريق حروف خاصة، وذلك تنجيم وخرافة وهذيان إذ الغيب محجوب عن الخلق قال تعالى: «قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله».

كتب فيها النص بمداد أسود، واستعمل الناسخ ألوانا أخرى لصناعة الجداول والدوائر، والنص كله داخل جداول حمراء، واستعمل الناسخ نظام التعقيبة، على كاغد أوربي تظهر فيه الخطوط المائية المتوازية، وقد اشترى هذه النسخة المستشرق دلفان «Delphin» عام 1888م كما في أول ورقة بخطه، ثم آلت إلى خزانة مركز سعود البابطين.وهناك كتاب الدستور البيمارستاني «طب»: لسديد الدين أبي الفضل داود بن أبي البيان الإسرائيلي «ت 642هـ» وهو نسخة تامة كتب فيها النص بمداد أسود سوى أسماء الأدوية والعلاجات فبالأحمر، على كاغد أوروبي تظهر فيه الخطوط المائية المتوازية.

وبداية النسخة: الدستور البيمارستاني الذي يستعمل على نبات الأدوية المركبة المستعملة في أكثر الأمراض ويقتصر عليها في البيمارستانات التي اعتمد أكثر الأطباء استعمالها فعرف نفعها واشتهر ذكرها.

ونهاية النسخة: ويوضع في الآلة التي يسميها أصحاب الكيمياء «الأتال» وهي قدر.. ويطين ويوقد تحته حتى يتصعد ويؤخذ ما يسقط منه أي يقطر فيرفع في قارورة ويستعمل فيما ذكرناه فانه نافع إن شاء الله تعالى.

وتضمن المجلدان قصيدة حملت عنوان ورقة الأنس وهي “قصيدة رائية فيها مواعظ وحكم” (حكم، أدب): لأبي محمد القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل الحسني. المدني المشهور بالرسي «ت 296هـ» ووصفت بانها قصيدة طنانة في ذكر الموت مع حكم ومواعظ بليغة، أول القصيدة «هذه ورقة الأنس قيل: إنها للإمام القاسم الرسي...» ففيه إشارة إلى شك في نسبة القصيدة إليه، والمؤلف ليس له ديوان مطبوع، وقد ذكره المرزياني في الشعراء وأورد له شعرا جيدا ليس منه قصيدتنا هذه. وهي نسخة يمنية تامة بعدها أبيات شعرية مختلفة الأغراض أهمها قصيدة إسماعيل المقرئ التي تقرأ طردا مدحا، وعكسا ذما وأولها:

طلبوا الذي نالوا فما منعوا رفعت فما حطت لهم ريب فإذا قرئ البيت معكوسا صار ذما ولا مدحا وهو:

ريب لهم خطت فما رفعت منعوا فما نالوا الذي طلبوا وموعظة في الموت وأهواله وكانت بداية النسخة:

أصبحت يا مولاي جارك في الثرى متوسدا جنب اليمين كما ترى مستسلما للأمر مالي حيلة متقطع الاسنان منحل العرى أما نهاية النسخة فجاءت:

والصيد إن أعتقته ورحمته فالصيد كل الصيد في جوف الفرا ثم الصلاة على النبي وآله والآل والأصحاب ما برق سرى وضمت المخطوطات كتاب “الوساطة بين المتنبي وخصومه ومن رد شيئا من شعره في ألفاظه ومعانيه” «أدب» ، لأبي الحسن علي بن عبد العزيز بن الحسن الجرجاني «ت 392هـ» وهي نسخة ضمت المجلد الأول فقط من كتاب مشهور في الوساطة بين المتنبي وخصومه الذين اتهموه بسرقة الأشعار، فرغ من كتابتها آخر شهر صفر عام 936 هـ، بخط نسخ معتاد، ومداد أسود وأحمر، على كاغد أوروبي.

وبداية النسخة: التفاضل أطال الله بقاءك داعية التنافس، والتنافس سبب التحاسد، وأهل النقص رجلان رجل أتاه التقصير من قبله وقعد به عن الكمال اختياره فهو يساهم الفضلاء بطبعه.

نهاية النسخة:

أبو الطيب أبعد ناي المليحة البخل في البعد ما تكلف الإبل فاستوفى المعنى وأكده في مصراع واحد.