فهد الماجد: اختيار كبار العلماء لا يخضع للمذهبية أو المناطقية.. وأعضاؤها من المذاهب الفقهية كلها

قال لـ «الشرق الأوسط» إن كبار العلماء يمثلون الصورة الفكرية الواضحة الصحيحة للشعب السعودي

الشيخ فهد الماجد («الشرق الأوسط»)
TT

كشف الشيخ فهد الماجد، أمين هيئة كبار العلماء، عن لجنة مكونة من وزارة الشؤون الإسلامية ووزارة العدل وهيئة الخبراء، تعمل على دراسة إنشاء المجمع الفقهي السعودي.

وقال، في حوار مع «الشرق الأوسط»: إن الاعتدال، فكرا ومنهجا وتطبيقات، هو السائد والعام في المملكة، وفيما يخص هيئة كبار العلماء فإن قراراتها وبياناتها تبرهن على ذلك، فقد درست في هذه القرارات جملة واسعة من شؤون الحياة، سواء ما يتعلق بجانب الفكر والعقيدة، أو جانب السلوك والأخلاق، أو جانب الأسرة وعلاقات المجتمع، أو الاقتصاد والطب، وغير ذلك، وهذه القرارات كلها يتبين فيها بجلاء التوسط والاعتدال بلا إفراط ولا تفريط.. إلى نص الحوار..

* كيف ترون أهمية التعاطي مع الإعلام، لا سيما أن للإعلام تطلعاته الخاصة في التعاطي مع هيئة مهمة مثل هيئة كبار العلماء؟

- التصوير الصحيح - في نظري - للتعاطي مع الإعلام ليس من كونه مستفهما أو سائلا والطرف الآخر هو المجيب، التصوير الصحيح هو أن الإعلام مكون أساسي من مكونات أي مجتمع، وبالتالي فالتواصل معه ومثاقفته ومحاورته تعتبر جزءا من التواصل بين مكونات المجتمع.

المجتمع لا يمكن أن يكون قويا متماسكا ما لم يكن متواصلا، بل هكذا طبيعة الحياة؛ فالحياة، كما قال الفيلسوف والشاعر الفرنسي جوييو: «مثل النار، لا تحافظ على نفسها إلا بالتواصل مع الغير»؛ لذلك ينبغي أن تكون كل مكونات المجتمع على تواصل وتثاقف، سواء الاجتماعية منها أو العلمية أو الثقافية أو الاقتصادية.. لكن أن يكون لكل سؤال للإعلام جواب ليس صحيحا، فقد يكون الجواب لم يتكون بعد، أو ليس من المصلحة أن يخرج عن حدود المؤسسة أو غير ذلك، ومن العوارض التي ينبغي للإعلام أن يقدر لها قدرها.

* تمر المنطقة العربية بأحداث كبرى وتغيرات عظيمة، فأين تقف هيئة كبار العلماء، وهي الهيئة العلمية الأولى في السعودية من ذلك كله؟

- نحن ندرك أن لكل بلد علماءه الأكْفاء الثقات، وهم الأقدر بما يعايشونه من واقع بلدانهم في إفتاء مواطنيهم وشعوبهم، وهذا مقرر في صفة الفتوى، حتى في المسائل الجزئية، فقد ذكر العلماء - مثلا - أنه لا يجوز للمفتي أن يفتي في مسائل «الإقرار والأيمان والوصايا ما لم يعرف عرف أهلها وما اعتادوا عليه وعرفوه». فإذا كان ذلك في المسائل الجزئية، فكيف يكون الكلام في القضايا العظيمة؟ لا سيما إذا كانت فتنا يكثر فيها الهرج والمرج. فإنه لمن المتعين أن يترك للثقات من علماء كل بلد، الكلمة في شؤونهم؛ لأنهم هم أعرف بواقعهم أولا، وبما يصلحهم ثانيا؛ لذلك كان من حنكة وحكمة العلماء في هيئة كبار العلماء، برئاسة المفتي العام رئيس الهيئة الشيخ الوالد عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، أنها لما أصدرت بيانها الأخير فيما تشهده المملكة من اجتماع الكلمة والتواصي بها، أنها حصرت بيانها وكلمتها في الداخل السعودي ولم تتعرض لما يجري في البلدان الأخرى.

* بعد الأزمات السياسية التي تشهدها المنطقة العربية، باتت الاتهامات صريحة للجماعات السلفية في تلك الدول بمحاولة تحقيق انتصارات على الساحة السياسية، واتهمت السلفية السعودية بمحاولة تصديرها إلى تلك الدول، فكيف تقرأ الوضع من منظورك الشخصي؟

- ما قيل في الجواب السابق يقال هنا، ويضاف أن الذي عرفناه من علمائنا درسا وفقها، وخبرناه تجربة ومعايشة، أنهم يدركون أن لكل بلد أوضاعه وتعقيداته، التي لو تدخل فيها من هو من خارج هذا البلد أو ذاك، فإن الأوضاع ستزداد تعقيدا، وستكون النتيجة عكسية لما يراد من الإصلاح، وهم يدركون أيضا أن كل بلد من بلدان العالم الإسلامي غني بعلمائه، وهم الأقدر على تحقيق المصلحة المنضبطة بضوابط الشرع؛ لأن العالم الذي يعيش في المكان نفسه هو الذي سيتصور الواقع كاملا، وسيدرك المصالح والمفاسد على وجه الإجمال والتفصيل، وسيعرف كيف يطبق بين الواقع والواجب، كما قال ابن القيم، يرحمه الله: «الواجب شيء والواقع شيء، والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب، وينفذ الواجب بحسب استطاعته، لا من يلقي العداوة بين الواجب والواقع، فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم».

* صدرت في الفترة الأخيرة الأوامر الملكية الكريمة التي استبشر بها الجميع، لكن بعض الناس قرأها على أنها دعم للجانب المحافظ في مقابل فريق الإعلاميين والمثقفين، كون بعض الأوامر كانت دعما للمؤسسات الشرعية كهيئة كبار العلماء ووزارة الشؤون الإسلامية وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكيف قرأتموها أنتم؟

- خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، كما أنه ولي أمر الجميع في السعودية، فهو والدهم الذي يحنو على جميعهم من دون تفرقة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن القرارات كانت شاملة وتناولت المدن الطبية والضمان الاجتماعي والإسكان والنوادي الأدبية والرياضية وغيرها، فهي في الحقيقة دعم شامل للجميع. وأيضا فإن المؤسسات الشرعية ليست كيانا خارج الدولة والوطن، بل هي من الدولة وهي من الوطن، ومنسوبوها سعوديون يخدمون هذا الدين وهذا الوطن، فالدعم لهذه المؤسسات هو دعم للوطن كله. لكن أحب أن أنبه إلى شيء، وإلى ما ورد في هذا السؤال بالخصوص، كلمة «الجانب المحافظ في مقابل فريق الإعلاميين المثقفين»، فيجب أن يعرف أن المجتمع السعودي مجتمع واحد، فدواعي ائتلافه وتكاتفه كثيرة جدا، فالكل في السعودية مسلمون، وهم عرب وهم سعوديون، فمن الإسلام نعرف ديننا ومن العربية ندرك جنسنا ومن السعودية نستلهم وطنيتنا، فمن خلال هذه الدوائر الثلاث: «الإسلام، العربية، السعودية» ندرك هويتنا الحقيقية في هذا الوطن العظيم العزيز، وأي انحراف في فهم الهوية يأتي من الانحراف في فهم إحدى هذه الدوائر الثلاث. وإنني بهذه المناسبة، ونحن ولله الحمد أكدنا كلنا، كسعوديين، مدى ارتباطنا ولحمتنا قيادة وشعبا، أدعو إلى أن نبتعد عن التصنيفات والحزبيات وحساب ما سمي المكاسب لفريق على آخر، فذلك في حقيقته خارج عن الفهم المقاصدي للشريعة التي تأمر بالائتلاف وتحذر من الفرقة وتنهى عن أن نكون شيعا، وأذكر في هذا الصدد أن الشاطبي، يرحمه الله، صاحب «الاعتصام» و«الموافقات»، وهو من عرف بتمكنه في فهم الشريعة ومقاصدها، لما ذكر حديث أبي هريرة عند الترمذي وغيره بلفظ «تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتتفرق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة»، اختار، كما في كتابه «الاعتصام»، عدم تعيين هذه الفرق بخلاف ما اختاره بعض العلماء وذكر لاختياره هذا أسبابا منها قوله: «وأيضا فللستر حكمة أخرى»، وهي أنها لو أظهرت مع أن أصحابها من الأمة لكان في ذلك داع إلى الفرقة وعدم الألفة التي أمر الله ورسوله بها، وفي الحديث: «لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا»، وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين، وأخبر بأن «فساد ذات البين هي الحالقة التي تحلق الدين»، إلى آخر كلامه الرصين المتين. فإذا كان عدم نبز الفرق بألقابها تحقيقا لداعي الاجتماع والألفة، فكيف يكون الحال ونحن على دين واحد وفي وطن واحد؟ وآمل أن تستذكر في هذا الصدد شيئا من كلمات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله، التي قالها بحس المسؤول المطلع على الأحوال العارف بمجريات الأحداث في الداخل والخارج، ففي بعض كلماته ذكَّر، حفظه الله، بخطورة الكلمة، وأنها كحد السيف وضرورة مراعاة مآلاتها عند التحدث بها وفي بعض كلماته الأخرى حذر من التصنيفات والحزبيات، وذلك كله يأتي من منطلق مسؤولياته؛ كونه ولي الأمر الذي يدرك المصالح الكبرى لشعبه ووطنه، ومن زاوية مسؤولياته يدرك أيضا ما يصلحهم وما يضرهم.

* شملت الأوامر الملكية الأخيرة إنشاء مجمع فقهي سعودي، إلى أين وصل هذا الموضوع؟

- المجمع الفقهي السعودي، كما في الأمر الملكي، شُكلت له لجنة من وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد ووزارة العدل وهيئة الخبراء، وإذا انتهت هذه اللجنة من وضع الدراسة واعتمدت فستتوافر كل الأجوبة عن الأسئلة التي لديك.

* هل هيئة كبار العلماء تمثل مدرسة فقهية واحدة دون غيرها من المدارس الفقهية المعتبرة من الحنفية والمالكية والشافعية؟

- المدرسة التي تتبناها هيئة كبار العلماء، منذ إنشائها وإلى الآن، هي مدرسة الدليل من الكتاب والسنة دون تعصب لأي مذهب فقهي، وبإمكان أي باحث، من خلال مراجعة سريعة لقرارات هيئة كبار العلماء، أن يتبين هذه الحقيقة، وبالتالي فلا توجد مذهبية في الهيئة، والذي درج عليه ولاة الأمر منذ تاريخ إنشاء الهيئة، وإلى الآن، هو اختيار الأكْفاء الثقات من علماء الشريعة دون تحديد بمذهب أو منطقة؛ لذلك تجد الأعضاء من المذاهب الفقهية المعتبرة كلها ومن مناطق المملكة كلها.

* يؤاخذ البعض هيئة كبار العلماء بعدم تعاطيها مع الواقع وسرعة متغيراته الاجتماعية والاقتصادية.. ما رأيك في ذلك؟

- ليس صحيحا أن الهيئة لا تواكب المتغيرات ولا تعايش الحاضر؛ فمن خلال اطلاع يسير على بعض قراراتها يعرف مدى ما تقوم به الهيئة من عمل جاد ومثابر، فمن قراراتها: قرار يتعلق بالنشوز والخلع، وقرار يتعلق بالتقادم في مسألة وضع اليد، وقرار يتعلق بالاستفادة من اللحوم في منى أيام الحج، وقرار يتعلق بالإجراءات التي ينبغي اتخاذها بالنسبة لحوادث السطو والخطف وتعاطي المسكرات والمخدرات وترويجها، وقرار يتعلق بالحلول التي تراها الهيئة لمشكلة غلاء المهور، وما تراه بشأن اتفاق بعض القبائل على تحديدها، وقرار يتعلق بالتبرع بالأعضاء، وقرار يتعلق بحكم الإجهاض، وقرار يتعلق بالأعمال التخريبية وإتلاف الممتلكات الخاصة والعامة في البلاد الإسلامية، وقرار يتعلق بحكم إنعاش الأطفال الخدج، وقرار يتعلق بالإجراءات والتدابير اللازمة للتعامل مع المصابين بمرض الإيدز الراغبين في الزواج، وقرار يتعلق بحكم العمل بنتائج تحليل الحمض النووي الوراثي في إثبات النسب، وقرار يتعلق بتدوين الأحكام القضائية وقرار يتعلق بتجريم تمويل الإرهاب.. وهذه نماذج يسيرة، وإلا فالقرارات قد وصل عددها إلى 240، هذا غير البيانات التي لها أهمية كبرى في معالجة بعض الأوضاع والمتغيرات، وبهذا يتبين عظم الدور الذي تقوم به هيئة كبار العلماء، وأنها، ولله الحمد، في محل ثقة ولي الأمر والشعب السعودي الكريم.

* أين يقع صوت الاعتدال، سواء في الجانب العلمي، من خلال الفتاوى والبحوث، أو الجانب الدعوي، من خلال الأنشطة الدعوية المختلفة؟

- الاعتدال، فكرا ومنهجا وتطبيقات، هو السائد والعام في المملكة، وفيما يخص هيئة كبار العلماء فإن قراراتها وبياناتها تبرهن على ذلك، فقد درست في هذه القرارات جملة واسعة من شؤون الحياة، سواء ما يتعلق بجانب الفكر والعقيدة أو جانب السلوك والأخلاق أو جانب الأسرة وعلاقات المجتمع أو الاقتصاد والطب، وغير ذلك، وهذه القرارات كلها يتبين فيها بجلاء التوسط والاعتدال بلا إفراط ولا تفريط، والهيئة بذلك تمثل، بكل وضوح، الصورة الفكرية الصحيحة للشعب السعودي، وهذا في الحقيقة سر من أسرار تماسكه وقوته؛ لأن الاعتدال في الفكر والممارسة هو الذي يقوي على إشباع الرغبات الروحية والجسدية، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فهو الذي يقوي على الاستمرار والبقاء بخلاف الغلو أو الانحلال الذي هو وجه آخر للغلو، فإنه وإن تمكن أو قوي فلا يلبث أن يزول، وشواهد التاريخ ودلائل الواقع تثبت ذلك.

لذلك نستطيع أن نقول: إن من أراد أن يدرس الحالة السعودية التي بدت آمنة مطمئنة تسير نحو أهدافها بثقة وثبات في محيط مضطرب متقلب، فلن يمكنه أن يستنتج النتائج الصحيحة، ما لم يدرس العمق التاريخي للمملكة التي، منذ أن قامت، قامت متصالحة مع نفسها، ولا تعتسف على عقيدة لا ترضاها ولا تجبر على أسلوب حياة لا تحبه، بل اجتمعت قيادة وشعبا على كلمة سواء ومنهج معتدل، وكانت هذه الحالة السعودية بعمقها وقوتها واعتدالها طاردة لكل الأفكار التي حاولت أن تغير من منهجها واعتدالها، سواء قبل عقود من خلال المد القومي أو الشيوعي، أو في الفترة الأخيرة من خلال الفكر القاعدي الذي هزم واندحر ولله الحمد.

* هل من كلمة أخيرة؟

أقول كما قال الشاعر العربي الأول:

يشكو إليَّ جملي طول السرى صبر جميل فكلانا مبتلى فمن طبيعة الإنسان أنه لا يخلو من الهم الذي يحركه التفكير، أو التفكير الذي يبعثه هم؛ لذا كان أصدق الأسماء همام وحارث، كما جاء عن النبي، صلى الله عليه وسلم.

ويمكن لي أن أجمل بعض الملاحظات المهمة لواقعنا، أولا: حسن الظن هو قيمة عليا بلا شك، لكن ينبغي أيضا أن تكون عليا في أذهاننا وصدورنا، وأن نبتعد عن التجريح أو الإساءة لأي شخص، خاصة إذا كان يشاركك الدار والوطن، وليثق كل أحد يبتغي الإصلاح أن الكلمة الطيبة هي الفاعلة المؤثرة، وهي الباقية الخالدة، ولا يظن أحد أن الكلمة الجارحة بحكم أنها تجرح وتدمي هي التي تحقق النتائج وتفوز بالمطالب، فإنها في النهاية لن تضر إلا صاحبها، ولربما قتل البليغَ لسانُه، وسيأتي على الناس زمان تعلم فيه الشاة القرناء علما ليس بالظن أنها إن تكُ بقرنيها تناطح فمن قرنيها تصرع، وحسن الظن ليس هو السذاجة، كما يحلو للبعض أن يصفه بذلك، بل كما أنه هو سلامة الطوية وطهارة النفس، فهو يصدر عن أدوات نفسية ومعرفية، يدرك من خلالها محسن الظن بالآخرين طبائع القلوب المتوهجة في أنفاس أهلها ومكامن النقص والخلل في طبيعة البشر، ومحامل حسن الظن أكثر بكثير من محامل سوء الظن، وهو ينظر إلى نفسه بعين الناقد، وإلى الآخرين بعين الناصح، ودعامة العقل تمام الحلم، وبهذه المناسبة نشكر لخادم الحرمين الشريفين، حفظه الله، أمره الكريم الذي صدر مؤخرا، والذي منع بموجبه التعرض أو المساس بالسمعة أو الكرامة أو التجريح أو الإساءة الشخصية لأي شخص من ذوي الصفة الطبيعية أو الاعتبارية الخاصة أو إثارة النعرات وبث الفرقة، ولا شك أن هذا الأمر الكريم له أثره في زيادة التلاحم، وفوق ذلك التراحم.

ثانيا: لا بد من مراعاة المصالح الكبرى في النطق والسكوت، خاصة في عالم اليوم الذي أصبح ضجيجا من الكلمات، أصبحت الكلمة التي تقال في أقصى العالم يسمع صداها في الطرف الآخر منه ولم يعد الإنسان مسؤولا عن نفسه، وما اجترحته يداه وحده فقط، بل يتحمل معه المسؤولية مجتمعه الذي يكتنفه ويحيط به. فإن كثيرا ممن يشغل وقته بالحديث والقيل والقال، سواء ما كان مكتوبا أو منطوقا، فلربما فقد هدوءه النفسي وسرقت منه خلوات الفكر والتأمل التي تتيح له سبحات النظر والتفكر والمراجعة والقيام بما يمكن أن نسميه «استعادة النفس»، إنه إن وجدت نظرية «الاقتصاد في الفكر»، وهي غير مسلمة على كل حال، فينبغي أن نوجد نظرية «الاقتصاد في الكلام»، فإن القليل النافع المركز منه خير من الكثير المطول، الذي يهدم بعضه بعضا؛ لذلك كانت كلمات النبي، صلى الله عليه وسلم، معدودة، وكان يرددها ثلاثا حتى تفهم عنه وتعيها القلوب فيحصل النفع والفائدة.

ثالثا: من المهم بث الوعي بـ«الفكر الحضاري»، الذي من أبجدياته أن الواجب يجب أن يتفوق على الحق؛ لأن ذلك يؤدي إلى أن يكون الفرد إيجابيا، وأن يكون المجتمع معطاء وأن تكون الأمة كلها خيِّرة متماسكة، وبالتالي تحصل الحقوق من طريق أداء الواجبات، والفكر الحضاري إن لم يتوافر في المجتمع، فإن ذلك يدفعنا إلى أن نجمع منتجات الحضارات الأخرى أكداسا، بينما إذا توافر لدينا هذا الفكر، فإن حضارتنا هي من ستلد منتجاتها، وحينئذ تكون الحضارة المثقفة لا الثقافة المتحضرة.