قد يسبق صوت لجنة إصلاح ذات البين صليل السيف الذي يعرف «وتين» القاتل جيدا، فصوتها المتعقل مازج في نقاء منطلقه الإسلامي، شيم الكرام، بسجايا الخلق، التي عرف بها المجتمع السعودي. الدكتور ناصر الزهراني، الرئيس التنفيذي للجنة إصلاح ذات البين بإمارة منطقة مكة المكرمة قال إن القصاص شرع الله، والشفاعة سمة نبي الرحمة، صلى الله عليه وسلم، وما بين هذه وتلك، تتحرك اللجنة، لتكتب العفو لأشخاص تابوا إلى الله، من جرائم أسرفوا فيها في حق أنفسهم.
ولم يخف الدكتور الزهراني أهمية تجربة اللجنة، وهو ما دفع بلجان عالمية نحو القدوم لاستنساخ التجربة وتعميمها، نظير ما وصفه بالنتائج المبهرة التي وجدتها لجنته في درء كثير من المشكلات، وسد ذرائع الكثير من المشكلات المجتمعية.
يتحدث الدكتور الزهراني عن تجربة ونجاح لجنة إصلاح ذات البين في إمارة منطقة مكة المكرمة التي تحظى بدعم شخصي من قبل الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة، حيث توجت اللجنة مؤخرا بجائزة مكة للتميز، للجهود التي تبذل من قبلها، رسخ فيها الزهراني تحقيق العدالة، وتعزيز قيم التسامح والعفو في المجتمع، وتحويلها إلى ميدان للتنافس في عمل الخير، والبذل فيه، ووأد الخلافات، والانتصار للحق.
عرف عن الدكتور الزهراني جهوده البارزة في السعي في العفو وإصلاح ذات البين, وأعمال البر والإحسان من خلال السعي لعتق الرقاب وإصلاح ذات البين، سرد الرئيس التنفيذي للجنة بعض القصص المؤثرة التي تعتق فيها الرقاب وهي في ساحة القصاص، حتى أضحت اللجنة يشار إليها بالبنان في مهام الإصلاح وعتق الرقاب.. «الشرق الأوسط» التقت مع الرئيس التنفيذي للجنة إصلاح ذات البين، فكان هذا الحوار:
* دفعت الأموال من أجل إعتاق الرقاب، لدرجة أنها أصبحت نزالا لاستعراض النفوذ المالي، فماذا عملتم للحيلولة دون وقوع ذلك؟
- من أهداف لجنة إصلاح ذات البين الرئيسية التي ما زالت تعمل على تحقيقها، الحد من طلب التعويضات المالية والعينية الباهظة في قضايا القصاص, والعمل المستمر للتوعية بأهمية العفو الخالص لوجه الله، عز وجل، دون مقابل, وإن كان هناك مقابل مالي فيكون مقابلا معقولا يرتضيه أهل الجاني؛ إذ ليس من المقبول أن يتحول العفو إلى متاجرة بالأنفس والأرواح تؤدي إلى تعميق العداوة بين أطراف القضية, كما أن هذا يتعارض مع قيم العفو والصفح والتسامح التي يحثنا عليها ديننا الإسلامي الحنيف، والتي تسهم في إزالة ما في النفوس من احتقان وعداوات, وتدحض كل ما من شأنه توليد الكراهية والبغضاء بين المسلمين.
وفي هذا الصدد، وضعت التوجيهات السامية من مقام خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز (حفظه الله تعالى) حدا للمبالغة في طلب الديات, وذلك تحقيقا للمصلحة العامة وحرصا على إبقاء أواصر العلاقة بين أطراف القضية بعد انتهائها؛ حيث يعد هذا التوجيه السامي منطلقا مهما في تنظيم أعمال السعي بالعفو في قضايا القصاص, وفي هذا الإطار وقفت اللجنة (وما زالت) تقف ضد المبالغات الكبيرة في طلب التعويضات الباهظة في الديات, التي أرهقت المحتسبين في مجال السعي بالعفو وأجلت إنهاء مئات القضايا في هذا الشأن, فاللجنة تفضل عدم التدخل في القضايا ذات المبالغ الكبيرة بعد أن تبذل مساعيها لتقليص هذه المبالغ إلى الحد المعقول, كما أن اللجنة ليس من عملها ولا من منهجها مساعدة ذوي الجاني في جمع مبالغ التعويضات التي رضي بها أهل المجني عليه وجمع التبرعات لهم، كما يظن ذلك بعض الناس, وإنما يظل ذلك من شأن ذوي الجاني وحدهم ومن يمد لهم يد العون من أهل الخير والمحسنين في المجتمع.
فاللجنة عموما ترفض تلك المبالغات والمغالاة في طلب التعويضات, وهي تعمل بكل اهتمام في سبيل الحد من هذه الظاهرة السلبية، وتقوم بجهود كبيرة لتوعية المجتمع بفضيلة احتساب الأجر لوجه الله تعالى وابتغاء جزيل ثوابه وعظيم جزائه لمن أعتق رقبة من القصاص.
* كيف تسعون إلى خلق نماذج متعددة يستنسخ فيها تميز لجنة إصلاح ذات البين في داخل السعودية وخارجها؟
- تحظى لجنة إصلاح ذات البين بإمارة منطقة مكة المكرمة بسمعة واسعة وحسنة؛ وذلك بفضل ما تحقق لها من إنجازات ونجاحات في مجالات العفو والإصلاح, الذي لم يكن ليتحقق لولا فضل الله تعالى ثم الاهتمام الكبير والمتابعة الدقيقة والدعم والتشجيع المستمر الذي تلقاه من الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة ورئيس مجلس إدارة اللجنة.
ويمكننا أن نقرأ الدور الريادي الذي تقوم به اللجنة من خلال الوفود التي قدمت من داخل السعودية ومن خارجها، وحرص أفرادها على زيارة مقر اللجنة والاطلاع على تجربتها والاستفادة من خبراتها في مجال السعي بالعفو وإصلاح ذات البين.
حيث شجّع التميز الذي تحقق لهذه اللجنة المسؤولين في عدد من مناطق ومحافظات السعودية على نقل تجربة اللجنة إليها من خلال وفود لجان إصلاح ذات البين بتلك المناطق والمحافظات التي قامت بزيارة مقر اللجنة والالتقاء بالعاملين فيها, ومنها وفود المدينة المنورة وجازان والقصيم والدوادمي والبشائر, بل إن الأمر تجاوز ذلك إلى خارج البلاد، حيث قدمت عدة وفود إلى مقر اللجنة للوقوف على تجربة اللجنة والاستفادة منها, ومن ذلك زيارة عدد من المهتمين بشؤون إصلاح ذات البين وحقوق الإنسان في مملكة البحرين, بالإضافة إلى وفد من الكلية الإسلامية بجمهورية سريلانكا لمقر اللجنة بالعاصمة المقدسة، بهدف نقل التجربة الثرية للجنة إلى المنامة وكولمبو, وأكدوا على أن النجاحات التي تحققت للجنة إصلاح ذات البين بإمارة منطقة مكة المكرمة تشجع على تنفيذ مثل هذه المشاريع الاجتماعية التي لا يمكن لأي مجتمع الاستغناء عنها.
كما قام وفد يمثل الرابطة الإسلامية في جمهورية غينيا (كوناكري) بزيارة مقر اللجنة للهدف ذاته, وأبدى رئيس الوفد إعجابه بفكرة اللجنة, وما تقدمه من أعمال اجتماعية وإنسانية, مشيرا إلى أن زيارته لمقر اللجنة جاءت بتوجيه من مفتي جمهورية غينيا (كوناكري) بهدف البحث عن سبل لمواجهة قضايا الخلافات والنزاعات التي ظهرت في المجتمع المسلم هناك ولم تفلح المحاكم في حلها, وأبان أن الوفد المخول بإعداد تقارير الزيارة سينقل كثيرا من الأفكار والآليات المطبقة في لجنة إصلاح ذات البين بمكة المكرمة لتطبيقها في غينيا وفق المتاح لهم من الإمكانات, كما استقبلت اللجنة وفدا من دولة السويد يرأسه مدير مركز الدراسات والبحوث الإسلامية في السويد, الذي قال: إن تجربة اللجنة ينبغي أن تعمم للاستفادة منها في مواجهة المشكلات التي تعترض البيوت المسلمة، موضحا أن عمل هذه اللجنة صورة ناصعة للعمل التطوعي المؤسسي.
كما استقبلت اللجنة مؤخرا وفدا يضم أكثر من (40) أستاذا من جامعات السنغال وإندونيسيا من المشاركين في إحدى الدورات التي نظمها معهد اللغة العربية لغير الناطقين بها بجامعة أم القرى؛ وذلك بهدف رصد تجربة اللجنة, والوقوف على ملامح رسالتها وأهدافها ومجالاتها, وآليات العمل بها, وصور تنظيماتها الإدارية, وأبرز المنجزات التي تحققت لها؛ حيث يُقدّم لأعضاء هذه الوفود الزائرة لمقر اللجنة عرض موسع عن فكرة اللجنة وأهدافها, ومهام وطبيعة القضايا التي تباشرها، وكيفية استقبال القضايا والتعامل معها، وملامح العمل الإداري في اللجنة، وذلك من خلال المعرض الدائم للجنة, بالإضافة إلى مشاهدة العرض المرئي الذي يجسد بدايات اللجنة وإنجازاتها, كما يتم تزويد أعضاء هذه الوفود بمجموعة من مطبوعات اللجنة، توضح آلية العمل فيها وتظهر جوانب من أنشطتها.
* نود أن نقف على فكرة وبداية لجنة إصلاح ذات البين؟
- لجنة إصلاح ذات البين لجنة خيرية تابعة لإمارة منطقة مكة المكرمة, وكانت، وما زالت، عنوانا للتفرد والتميز منذ أن طرحت فكرة إنشائها؛ وذلك لتميز طبيعة رسالتها الإنسانية والاجتماعية, وتميز أهدافها التي تتلخص في نشرها لثقافة العفو والإصلاح, وإشاعة روح المودة والتسامح.
وقد جاءت فكرة إنشاء هذه اللجنة المباركة بإمارة منطقة مكة المكرمة استجابة لأمر سام كريم موجه إلى جميع أمراء المناطق والقاضي بوجوب السعي في العفو في قضايا القصاص وفي بذل شفاعتهم ووجاهتهم قبل تنفيذ الحكم بالقصاص, وعندئذ كانت فكرة اللجنة هاجسا جميلا يفيض به وجدان أمير منطقة مكة المكرمة في ذلك الوقت، الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز (رحمه الله)، الذي تبنى فكرة إنشائها حبا منه لقيم العفو والتسامح, وإدراكا لحاجة المجتمع إلى عمل منظم يسهم في إشاعة المحبة والمودة والتقارب والتآلف، فعمل على دعم جهود القائمين عليها, وأمدهم بكل ما يحتاجون إليه من إمكانات وتوجيهات, حتى بدأت خطوات تلو خطوات في طريق التميز والإنجازات.
وقد بدأت مسيرة اللجنة من خلال مقر متواضع يتمثل في ثلاث غرف في جامع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، رحمه الله، بمكة المكرمة, فإذا بالنجاحات والثمار اليانعة لهذه الجهود المباركة، التي جعلت أمير المنطقة، يزداد قناعة بضرورة دعم اللجنة، وتوسيع دائرتها، وزيادة أعضائها، فأصدر أمرا بإنشاء اللجنة في عام 1422هـ, وتم اختيار عدد من العلماء والوجهاء ومحبي الخير ليكونوا هيئة عليا للجنة ينبثق عنها لجان تنفيذية عاملة, فبدأت اللجنة عملها المؤسسي المنظم, وتم استقطاب عدد من أهل العلم والفضل ليقوموا بواجب السعي بالعفو والإصلاح بين الناس, فكثرت القضايا، وتعددت المهام، وعظمت المسؤولية وأصبحت الحاجة ملحة إلى توسيع الدائرة نظرا لكثرة القضايا الواردة من محافظة جدة سواء ما يرد منها إلى مكتب أمير المنطقة أو المحافظات, بالإضافة إلى القضايا التي ترد من المحاكم الشرعية وأقسام الشرطة وهيئات التحقيق والادعاء العام وجمعية حقوق الإنسان, أو القضايا التي يتقدم بها أصحابها إلى اللجنة مباشرة أومن ينوب عنهم؛ فأمر بافتتاح فرع آخر للجنة بجدة وآخر بالطائف لتؤدي اللجنة مهمة الإصلاح في شتى أنحاء منطقة مكة المكرمة.
وعندما تولى إمارة المنطقة الأمير خالد الفيصل، كان للجنة صفحة جديدة من صفحات التألق والتفرد، بعد أن أخذ على عاتقه مهمة دعم مسيرتها, وتطوير أدائها, فحظيت باهتمامه ورعايته, من خلال ترؤسه لمجلس إدارة اللجنة, فأضحت اللجنة من أهم المناشط التي تلقى دعمه, وتحظى باهتمامه ورعايته؛ حيث أحب هذا العمل الاجتماعي الإنساني, وتولى بنفسه (حفظه الله) متابعة أموره والإشراف على أدائه, ودعم مسيرته إيمانا منه بالدور الكبير الذي تضطلع به اللجنة في خدمة المجتمع بما يحقق وحدته وتماسكه, ويحفظ بين أفراده دواعي المحبة والمودة, ورسم للعاملين بها خارطة التألق والإبداع التي أوصلتهم إلى منصات التميز والتتويج.
* ما الأهداف التي من أجلها أنشئت لجنة إصلاح ذات البين بإمارة منطقة مكة المكرمة؟
- تعمل اللجنة على تقوية الروابط, وتوثيق أواصر المحبة والألفة, وإعادة جسور الثقة والمودة بين أفراد المجتمع، من خلال حل النزاعات, والصلح في الخصومات, والقضاء على عوامل الفرقة والشقاق, ونبذ أسباب التشاحن والبغضاء, وبذل النصح والمشورة, وتقديم العون والمساعدة بما يساعد على تماسك المجتمع وترابطه, ويتحقق ذلك من خلال نشر الأخلاق الحميدة والمثل الرفيعة, التي من أهمها العفو والصفح والتسامح والحب والمودة والإصلاح بين الناس, والسعي لحل خلافاتهم بالصلح والتفاهم والتراضي؛ فبها يتم إحقاق الحق من جهة, والحفاظ على روح المودة والإخوة من جهة أخرى, وذلك انطلاقا من تعاليم ديننا الكريم الذي أرشد إلى أن الصلح خير, وأن أجره عظيم, وفضله كبير, والسعي فيه من أعظم القربات, وأجلّ الطاعات, ويمكن إجمال الأهداف التي تسعى اللجنة إلى تحقيقها في عدد من النقاط, ومنها:
- العمل على إعادة الأمل في الحياة للنادمين الذين ينتظرون الموت، ويترقبون سيف القصاص. قال تعالى: «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» (المائدة: 32).
- الصلح في الخصومات الأسرية والزوجية, وحل النزاعات الاجتماعية والخلافات المالية, بما يعيد وصل حبال المحبة والمودة بين أطراف النزاع والخلاف. قال تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما) (النساء: 114).
- إشاعة مبادئ العفو والتسامح, والتكاتف والتعاون, والعمل على تثقيف أفراد المجتمع بما يساعدهم على علاج ما قد يكون من أسباب الشقاق والعقوق, والتصدي لعوامل الفرقة والشتات.
- بذل النصح والإرشاد، وإسداء التوجيه للبيوت المسلمة بتقوى الله تعالى، والمحافظة على صلة الرحم، ومراعاة حقوق القرابة، واحترام مكانة الجار، وتعميق روح الألفة والتآخي.
- المساهمة في تقديم العون المادي, أو المساعدة المالية في بعض الحالات التي قد تستدعي ذلك ليستقيم بها الأمر وتتحقق بها المصلحة.
* ما الآثار الاجتماعية التي يمكن أن نلمسها لتطبيق مبدأ إصلاح ذات البين بين أفراد المجتمع؟
- إصلاح ذات البين أصل من أصول دين الإسلام، ومنهج الرحمن الذي يدعو إلى الإصلاح والتآخي والمحبة والمودة ونبذ كل عوامل الفرقة والشحناء, فبالإصلاح يكون المجتمع وحدة متماسكة، يقوى رباطه ويسعى بعضه في إصلاح بعض, وبه يحل عدد كبير من القضايا، وتُعاد به الحقوق لأصحابها، ويُحسم به النزاع ويكون معه التراضي واستبقاء المودة والمحبة, وبالإصلاح تَحِلُّ المودة محل القطيعة, والمحبة محل الكراهية, وتأتلف القلوب وتجتمع الكلمة, وينبذ الخلاف وتزرع الأخوة والوئام, وبالإصلاح تستقيم حياة أفراد المجتمع وتتحقق مصالحهم, ويتجهون نحو العمل المثمر والبناء, أما إذا فقد إصلاح ذات البين فإنه تقسو القلوب وتضيع القيم الإنسانية الرفيعة, وتتشتت البيوت والأسر, ويعم الشر القريب والبعيد.
* تُبذل الكثير من الجهود التي تقوم بها اللجنة للتوفيق بين المتخاصمين في إصلاح ذات البين؛ هل تذكر لنا عدد الحالات التي باشرتها اللجنة؟
- لله الحمد والمنة فقد وفقنا الله إلى حل عدد كبير من الحالات في مجال إصلاح ذات البين, وإنهاء الكثير من النزاعات, حيث تم إنهاء نزاع أكثر من 17470 خلافا وقضية، وفي مجال رعاية الفتيات تم حل مشكلة (123) فتاة من خلال إقناع أوليائهن بتسلمهن أو تزويجهن, وفي مجال العنف الأسري تم حل ومعالجة أكثر من (742) قضية, وفي مجال الإيواء الأسري المؤقت تم إيواء (36) حالة, وبلغ عدد المستفيدين فيها أكثر من (124) فردا, وفي مجال المساعدات العاجلة تم مساعدة أكثر من (424) حالة, وبلغ عدد المستفيدين منها أكثر من (1412) فردا.
* تتعدد أوجه إصلاح ذات البين التي تقوم بها اللجنة, وأهمها وأصعبها تلك القضايا المتعلقة بعتق الرقبة, بودنا أن تلقي الضوء على هذه المهمة الشاقة, وكم رقبة تم عتقها من قبلكم؟
- السعي لتحقيق العفو في قضايا القصاص باب عظيم إلى عمل الخير, فالله تعالى كما أمر بالقصاص أمر بالسعي في العفو وحث عليه, وجعل له أكبر الأجر والثواب؛ إنه العفو العظيم الجليل الذي يحيي به العافي نفسا وكأنما أحيا الناس جميعا، لقوله تعالى: «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا».
وقد دأب ولاة الأمر في هذا البلد الكريم على السعي في هذه الأعمال الإنسانية والتشجيع عليها حرصا منهم على تأييد كل ما من شأنه إنجاح جهود الساعين للعفو والإصلاح، وإشاعة روح الصفح والتسامح, فقد وجه خادم الحرمين الشريفين (حفظه الله تعالى) بإحالة عدد من قضايا العفو لدراستها والتدخل فيها من قبل اللجنة لتجسد هذه المواقف من خادم الحرمين الشريفين معاني النبل والتسامح بين أفراد الشعب السعودي الكريم.
ولقد وُفِّقت اللجنة بفضل الله تعالى في إنقاذ كثير من المحكومين ممن تسوغ فيهم الشفاعة؛ حيث تم العفو عن (173) رقبة منذ قيام اللجنة, وهم من جنسيات مختلفة ودول عدة، منها ما كان الجهد فيها خالصا للجنة دون غيرها (وهي أغلبها), ومنها ما كان بالتعاون في حلها من مع أهل الخير الإحسان.
ولم تنحصر جهود اللجنة في هذا المجال على قضايا منطقة مكة المكرمة بل شملت قضايا كثيرة من مختلف مناطق المملكة, كما شملت هذه الجهود محكومين من جنسيات مختلفة ودول عدة.
* أعلن مؤخرا حصول اللجنة على جائزة مكة للتميز الاجتماعي؛ ما الذي أهّل اللجنة لذلك الفوز؟
- لجنة إصلاح ذات البين بإمارة منطقة مكة المكرمة عنوان للتفرد والتميز منذ أن طرحت فكرة إنشائها؛ وذلك لتميز طبيعة رسالتها الإنسانية والاجتماعية, وتميز أهدافها التي تتلخص في نشر ثقافة العفو والإصلاح, وإشاعة روح المودة والتسامح من خلال عملها في مجالات متعددة ومتنوعة من القضايا والظواهر التي طغت على المشهد الاجتماعي, فضلا عن جهودها البارزة في السعي للعفو في قضايا القصاص.
وقد حظيت اللجنة بثقة وتقدير ولاة الأمر، حفظهم الله تعالى، وهو الأمر الذي يعد دافعا كبيرا لأعضاء اللجنة على بذل مزيد من الجهد في سبيل تحقيق أهدافها، في ظل المتابعة الدقيقة والتوجيهات السديدة من أمير المنطقة ورئيس مجلس إدارة اللجنة، الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز، وفقه الله تعالى؛ حيث حظيت اللجنة برعاية كريمة من قبله منذ أن ولي إمارة منطقة مكة المكرمة؛ حيث وعد بدعم مسيرتها, وإكمال وتطوير ما قد بدأه الأمير عبد المجيد بن عبد العزيز، رحمه الله, فترأس (حفظه الله) مجلس إدارة اللجنة، وقدم لها تبرعات سخية، وأضحت اللجنة من أهم المناشط التي تلقى دعمه وتحظى باهتمامه ورعايته؛ فأشعل الحماس في نفوس العاملين بها, ورسم لهم دروب التألق والإبداع التي أوصلتهم إلى منصات التميز والتتويج؛ حيث كان لمتابعة وحرص أمير المنطقة على أعمال وأنشطة اللجنة دور كبير مكنها من أداء دورها على أكمل وجه لتمضي في أداء رسالتها السامية المتمثلة في تحقيق تماسك المجتمع, وإيجاد بيئة اجتماعية متميزة بالمنطقة, بالإضافة إلى الاهتمام الكبير والدعم المتواصل من قبل الأمير مشعل بن ماجد بن عبد العزيز، محافظ جدة وعضو مجلس إدارة اللجنة، الذي عرف باهتمامه بقضايا العفو, والمتابعة المستمرة لجهود اللجنة في عدد كبير من قضايا إصلاح ذات البين, ونتيجة لذلك تواصلت الجهود, وتدفقت فيوض العطاء بالنجاحات المتلاحقة والإنجازات المتواصلة، مما أهل اللجنة للفوز بهذه الجائزة الغالية.
ولا شك أن منح جائزة مكة للتميز الاجتماعي للجنة إصلاح ذات البين بإمارة المنطقة يأتي تتويجا للمجهودات المضنية التي بذلت في مجال نشر العفو والتسامح في المجتمع, كما يأتي هذا التكريم بمثابة التتويج لكل المخلصين الذين ضحوا بأوقاتهم, وبذلوا الغالي والنفيس, وأخلصوا بجهودهم في سبيل إنجاح هذه اللجنة.
والمسؤولون عن اللجنة وكل العاملين بها وهم يستشعرون قيمة وأهمية هذه الجائزة، فإنهم في الوقت ذاته يدركون حجم المسؤولية المضاعفة في تحقيق رسالتها وأهدافها, وما يعول عليهم المجتمع والمسؤولون من آمال وتطلعات.
* تنضوي تحت لجنة إصلاح ذات البين عدة مهام إنسانية؛ ما أبرزها؟ وما أبرز مجالات توصيفها؟
- تضم اللجنة تحت لوائها أغلب صنوف الخير، وأعظم أعمال البر، وأزكى بشائر الرضا, ومن أبرز مجالات العمل الرائدة التي تقوم بها اللجنة ما يلي:
أولا: مجال السعي لتحقيق العفو في قضايا المحكومين بالقصاص؛ حيث ترد عشرات القضايا التي يُطلب فيها تدخل اللجنة لغرض الحصول على العفو من قبل ذوي الدم عن المحكومين بالقصاص.
وقد دأب ولاة الأمر في هذا البلد الكريم على السعي في هذه المجال الإنساني والتشجيع عليه؛ حيث تشرفت اللجنة بنقل شفاعات خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز، أيده الله، في عدد من القضايا, وكذلك بنقل شفاعات الأمير سلطان بن عبد العزيز، ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام, وكذلك بنقل شفاعات الأمير نايف بن عبد العزيز، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية.
كما تقوم اللجنة بعرض شفاعات أمير منطقة مكة المكرمة، الأمير خالد الفيصل، في القضايا الواردة على أولياء المجني عليهم للحصول على العفو لوجه الله، عز وجل، أو بمقابل مادي معلوم يلتزم به أهل الجاني ومن يعاونهم من الموسرين, وتقوم اللجنة بدور كبير في توعية المجتمع بسلبيات المغالاة في الديات ومبالغ التعويض غير المنقولة.
ثانيا: مجالات إصلاح ذات البين؛ وهو مبدأ إسلامي عظيم يشمل جوانب إنسانية واجتماعية متعددة, وقد كان للجنة دور ملموس شمل مجالات كثيرة من القضايا, ومنها القضايا الأسرية, وتشمل الخصومات والمنازعات التي تنشأ بين ذوي القربى والأرحام, والقضايا الزوجية, ومنها الخلافات بين الزوجين, والنشوز, والطلاق, والنفقة, والحضانة, ونحوها, وقضايا عقوق الأبناء لآبائهم: وتهدف اللجنة في هذا المجال إلى ضمان علاقة مستقرة بين الأبناء من جهة وآبائهم وأمهاتهم من جهة أخرى, وقضايا العضل عن الزواج, وهي القضايا التي تشتكي فيها الفتاة من عضل وليها لها عن الزواج لأسباب مختلفة, بالإضافة إلى قضايا الأطفال, وتتضمن القضايا التي يكون الأطفال فيها سببا للخصومة والنزاع, وقضايا الإرث, وهي القضايا التي تقع بسبب خلاف الورثة حول تقسيم تركة مورثهم, كذلك القضايا المالية حيث تتدخل اللجنة في القضايا والخلافات المالية التي تنشأ بين الأفراد أو المؤسسات التجارية, وتعمل على حلها وديا بما يحفظ الحقوق ويضمن التراضي واستبقاء الودِّ بين أطراف النزاع, والقضايا الاجتماعية: أي القضايا الخلافية التي قد تقع بين الجيران أو أبناء الحي الواحد, بالإضافة إلى الخلافات الفردية أو الجماعية الناجمة عن سوء التصرف, أو سوء الفهم والتقدير, أو تغليب الأنانية أو تضارب المصالح, وكذلك قضايا العنف الأسري: أي الممارسة المتكررة للإيذاء والعنف الجسدي أو المعنوي الذي قد يتعرض له الأولاد أو الزوجة من قبل رب الأسرة أو أحد أفرادها المستبدين, وقضايا دار رعاية الفتيات؛ أي الفتيات اللاتي تم إيداعهن دار رعاية الفتيات بعد القبض عليهن من قبل الجهات المختصة لتورطهن في قضايا أخلاقية، حيث تتخلى الأسرة عن الفتاة ويرفض وليها تسلمها بعد انقضاء فترة الحكم الصادرة بحقها, فتعمل اللجنة على معالجة أوضاع هؤلاء الفتيات من خلال التوسط بينهن وبين أسرهن لتسلمهن أو تزويجهن بعد إقناع أولياء أمورهن من أشخاص أكفاء بعد التقصي عنهم والتثبت من أخبارهم, مع المساعدة على تهيئة بيت الزوجية والمتابعة المستمرة للتأكد من استقرار حياتهن, وقد حققت اللجنة نجاحات مميزة في هذا الجانب, بالإضافة إلى قضايا المخدرات, التي تتضمن كل القضايا التي يكون فيها تعاطي المخدرات سببا رئيسا لوجود مشكلة ما داخل محيط الأسرة أو المجتمع.
أما المجال الثالث من مجالات عمل اللجنة فيتمثل في الخدمات والمساعدات, وتشمل المساعدات المالية؛ حيث تقدم اللجنة في بعض الحالات والقضايا مساعدات مالية عاجلة لأصحاب القضايا وبعض الأسر، عندما يكون ذلك مطلبا لحل القضية؛ حتى تتمكن الأسرة من التغلب على ظروفها وذلك وفق ضوابط محددة, وفي حالات أخرى تنسّق اللجنة مع بعض الجهات الخيرية لتقديم الدعم والمساعدة المادية لمن يحتاج إليها, وكذلك الإيواء المؤقت، ويشمل ذلك الإعاشة والمصروفات العلاجية في بعض الحالات الطارئة التي قد تتضمنها بعض القضايا الزوجية والأسرية, بالإضافة إلى الاستشارات الأسرية والاجتماعية: حيث تتم الإجابة على الاستشارات المتصلة بالخلافات والقضايا الأسرية أو الاجتماعية التي ترد إلى اللجنة من خلال الاتصال المباشر بالأرقام الهاتفية المخصصة للاستشارات, أو من خلال موقع اللجنة على الشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنت).
كما تتبنى اللجنة عددا من المشاريع الإنسانية، ومن أبرزها (مركز «بر الوالدين») الذي يعنى بعلاج قضايا العقوق وإعادة العلاقة بين الأبناء وآبائهم, ومشروع «بيت الرحمة» وهو مشروع متفرد في فكرته وأهدافه يحتضن الأطفال والصغار ممن تفرق شمل آبائهم, بعد أن أضحت مشكلة زيارة الأطفال لأحد الوالدين مشكلة من حيث الزمان أو المكان، حيث يتم ترتيب الزيارات داخل بيت الرحمة مع بث جو يعبق بالرحمة والفرحة للأطفال طيلة وجودهم في هذا المكان من قبل اختصاصيات في الحضانة والتربية، وهو مشروع تحت الدراسة والإنشاء.
* من القضايا التي تتدخل اللجنة في حلها قضايا العنف الأسري, هل هناك آلية تتبعونها أو خطوات تنتهجونها في سبيل حل مثل ذلك النوع من القضايا؟
- تعد قضايا العنف الأسري من أكثر قضايا الإصلاح التي تحظى بعناية خاصة من قبل إدارة اللجنة؛ حيث يبادر أعضاء اللجنة بالاتصال بالأطراف المعنية في كل قضية تعنيف تصل إليها, وتعمل أولا على احتواء الطرف المعنَّف ومعالجة أوضاعه النفسية والاجتماعية, وتأمين الإيواء المناسب له في بعض الحالات التي تستدعي ذلك, ثم معالجة الأسباب التي أدت إلى التعنيف.
* هل تذكر لنا حادثة عنف أسري باشرتها اللجنة وكانت معقدة الأحداث؟
- من حالات العنف الأسري المؤثرة التي مرت باللجنة حالة أسرة مكونة من أب وخمس بنات وابن صغير, والأم مطلقة, حيث لجأت البنات إلى اللجنة، التي تأكدت من سوء خلق الأب وعدم أهليته للحفاظ على بناته، إلى جانب قيامه بضربهن وترويعهن, وقد قامت اللجنة بتوفير الحماية لهن, وكانت الملاذ الآمن لهن بعد الله تعالى, وعملت اللجنة على استنقاذ هؤلاء الفتيات, وذلك بتوفير السكن المناسب لهن, كما قامت اللجنة بتوفير مصروف كاف لهن للإعاشة وتوفير وظائف لبعضهن, كما سعت لتزويجهن, ولا تزال هذه الأسرة تعيش في كنف اللجنة ورعايتها، بعد أن تم استبعاد والدهن عنهن تماما, وأخذ التعهد المشدد عليه بعدم ملاحقتهن بالإيذاء.
* عندما تباشر اللجنة مهام عملها في إصلاح ذات البين بين المتخاصمين ما مدى درجة تقبل المتخاصمين للجنة؟ وهل هناك تجاوب منهم؟
- تحمل لجنة إصلاح ذات البين بإمارة منطقة مكة المكرمة رسالة سامية، وتؤدي مهمة نبيلة؛ فهي تعمل على تقوية الروابط، وإعادة جسور الثقة والمودة، وتوثيق أواصر المحبة والألفة بين أفراد المجتمع من خلال حل النزاعات، والصلح في الخصومات، والقضاء على عوامل الفرقة والشقاق، ونبذ أسباب التشاحن والبغضاء، وبذل النصح والمشورة، وتقديم العون والمساعدة؛ ولذلك فمن الطبيعي أن تحظى اللجنة باهتمام وثقة وتفاعل المجتمع بجميع مؤسساته وأفراده. وقد كان لما تحقق للجنة من نجاحات وإنجازات في مختلف قضايا العفو والإصلاح صدى واسع من التقدير والامتنان لمسناه لدى أفراد الأسر والأطفال وأطراف النزاعات؛ حيث يعبرون عن مشاعرهم تجاه ما تقوم به اللجنة من صنيع جميل وعمل جليل بأساليب مؤثرة تجسد حجم الفرج بعد الشدة، والسعادة بعد المعاناة.
* عمل اللجنة هو عمل من شأنه المحافظة على ترابط المجتمع والأسر؛ هل هناك أدوار توعوية تتضمنها أعمال اللجنة في مهامها الاجتماعية والإنسانية؟
- لم تغفل إدارة اللجنة جانب توعية أفراد المجتمع فيما يتصل بالقضايا الخلافية المختلفة, وتبصيرهم بسبل الوقاية من أسبابها, وبيان فضل إصلاح ذات البين, وما تحققه الجهود في هذا الإطار من فوائد دينية ووطنية, وآثار اجتماعية وإنسانية محمودة, فقد اهتمت اللجنة بالنشاط التوعوي الذي تُكرّس فيه الجهود بمختلف الوسائل المتاحة لتثقيف أفراد المجتمع وتوعيتهم بما يجب أن تكون عليه طبيعة العلاقة فيما بينهم, وتعريف كل فرد بما له من حقوق، وما عليه من واجبات تجاه الآخرين, ويتضمن ذلك إشاعة المفاهيم والقيم والمبادئ النبيلة التي تحثنا عليها شريعتنا الإسلامية, وتصحيح المفاهيم الخاطئة التي سادت لدى بعض فئات المجتمع, ومن ذلك نشر ثقافة العفو والتسامح بين أفراد المجتمع, وإشاعة روح المودة والأخوة, والتكاتف والتعاون, وغيرها من القيم والمبادئ النبيلة التي تمثّل في حقيقتها جوهر الدين الإسلامي الحنيف.
ولتحقيق أهداف اللجنة في هذا الجانب وحرصها على نشر ثقافة العفو والتسامح، فقد سلكت سبلا متنوعة، منها اللقاءات والمشاركات الإعلامية عبر القنوات الفضائية والإذاعية والصحف والمجلات, ومنها تأليف بعض الرسائل والكتب والمطويّات في أهم المواضيع والقضايا الاجتماعية, ومن الأمثلة على ذلك إعداد ونشر عدد من الرسائل الموجزة في مواضيع سعادة الأسر, وصلة الرحم, وبر الوالدين, والحلم والغضب, ورسالة عن ليلة العمر ودوام السعادة, ورسالة في العنف الأسري.. إلى غير ذلك من المطبوعات النافعة.
ومن البرامج الوقائية التي تقوم اللجنة بتنفيذها في هذا الجانب إقامة المحاضرات الثقافية والمنتديات العلمية ذات الصلة بالأسرة المسلمة والارتقاء بأخلاقها.
وفي هذا السياق أيضا، تصدر اللجنة مجلة (التسامح), وهي مجلة نصف سنوية، وقد صدر منها حتى الآن أربعة أعداد طُبعت منها آلاف النسخ ووزعت بالمجان على الأفراد وعدد من المؤسسات الحكومية والأهلية, كما يتم توظيف موقع اللجنة على الإنترنت لبث كل مفيد ونافع, كما نظمت اللجنة ندوة بعنوان: «المحكومون بالقصاص بين دوافع القتل وأمل العفو» وذلك بمقر اللجنة، للتعرف على آراء المسؤولين والمتخصصين حول تزايد معدلات جرائم القتل التي بدأت تبرز بجلاء على المشهد الاجتماعي بهدف تحليل العوامل المسببة, ورصد الآليات التي يمكن أن تتضافر فيها جهود الجهات المعنية بما يحقق إيجاد حائط صد أمام تفاقم هذه المشكلة.
كما قامت اللجنة بتنفيذ عدد من الدورات التدريبية لعدد من المهتمين بإصلاح ذات البين وحل الخلافات داخل المجتمع, ومن ذلك تنفيذ دورتين لكل من عمد أحياء العاصمة المقدسة وعمد أحياء محافظة جدة، حيث تم تدريب أكثر من 120 عمدة لصقل مهارات عمد الأحياء في مجال التدخل بالإصلاح بين المتخاصمين, كما تنوي اللجنة عقد دورات تدريبية منظمة في عدة مواضيع أسرية مهمة, ولهذا الغرض يتم وضع اللمسات الأخيرة لمركز التدريب التابع للجنة بالتعاون مع جامعة أم القرى.
* الخلافات الزوجية من أكثر الخلافات التي ترد على اللجنة؛ كيف يتم التعامل معها؟ وما دور الكادر النسائي في أعمال اللجنة؟
- بالفعل، الخلافات الزوجية تعد من أكثر القضايا التي ترد على اللجنة, بل أكثرها خطورة وحساسية؛ وذلك لأن الخصومة إذا وقعت بين الزوجين قد تشتد حتى يكون الطلاق نتيجتها، ويكون الأولاد ضحيتها, ولئلا تبلغ الخصومة بين الزوجين هذا المبلغ فإن الشارع الحكيم سبحانه شرع الصلح بين الزوجين، وأمر بتحكيم حكمين من أهليهما للقضاء على هذه الخصومة، وإزالة أسباب التوتر والشقاق، والحفاظ على استقرار الأسرة، وسلامة الأولاد, ويُلاحظ أن القضايا الزوجية تستغرق جل الجهد والوقت الذي يُبذل في اللجنة؛ حيث يبذل أعضاؤها جهودا كبيرة تبدأ بدراسة متأنية لكل قضية لتقصي الأسباب والوقوف على الملابسات المحيطة بها, ويسبق ذلك كله استحضار النية الصالحة وابتغاء مرضاة الرب جل وعلا, ثم البدء بالجلسات الفردية بين المتخاصمين لتليين القلوب إلى قبول الصلح مع الثناء على لسان أحدهما للآخر, وترك المعاتبة إبقاء للمودة في النفوس ونأيا بها عن الحقد وإيغار الصدور, يلي ذلك العمل على تضييق شقّة الخلاف والعداوة، وإحلال المحبة والسلام, من خلال الحكمة والإنصاف في إيصال كل ذي حق إلى حقه, والعمل على التوفيق بين الزوجين بالطرق والأساليب المحببة التي تحفظ لكل منهما حقوقه ومصالحه, وترسخ بينهما أسباب المحبة والمودة بعد نبذ أسباب الشقاق والفرقة , ثم إن جهود اللجنة لا تقف عند هذا الحد بل تتوج تلك الجهود بالتواصل والمتابعة المستمرة مع أطراف النزاع، وما قد يستدعيه الأمر من نصح وتوجيه.
أما بالنسبة لعمل الكادر النسائي باللجنة فقد تم تجهيز مقر متكامل للقسم النسائي, الذي بدأ نشاطه منذ فترة في بعض القضايا, كما تمت الاستفادة من هذا القسم في مجال العلاقات العامة والإعلام.
* ما علاقة اللجنة بالجهات الحكومية، خاصة فيما يتعلق بدوائر القضاء؟ وهل هناك نية لتوفير وقف للجنة يعود ريعه إليها يساعدها في حل القضايا ذات الطابع المادي؟
- من خلال عمل اللجنة في حل القضايا الخلافية, لا بد أن يكون هناك تواصل مستمر ما بين اللجنة والمحاكم الشرعية, وخصوصا رؤساء تلك المحاكم, حيث نجد منهم الدعم والمساندة في حل الكثير من القضايا العفو والإصلاح, ورؤساء المحاكم، حفظهم الله، دائما ما يوجهون بعض القضايا إلى اللجنة للبت فيها، وهذا دور إنساني واجتماعي مهم من قبلهم, يهدفون من خلاله إلى المساهمة في حل تلك القضايا بعيدا عن دور المحاكم الشرعية, ورأب الصدع بين المتخاصمين, علما بأن أصحاب الفضيلة رؤساء المحاكم العامة بمنطقة مكة المكرمة هم أعضاء بمجلس إدارة اللجنة، الذي يرأسه الأمير خالد الفيصل.
أما فيما يختص بتوفير وقف للجنة, فقد تم عقد عدة اجتماعات ضمت أعضاء مجلس الإدارة أصحاب الفضيلة رؤساء المحاكم العامة الشرعية بمنطقة مكة المكرمة والرئيس التنفيذي للجنة وعددا من المسؤولين بها؛ وذلك لمناقشة السبل الممكنة لتوفير أوقاف يعود ريعها للجنة إصلاح ذات البين بإمارة منطقة مكة المكرمة، وبعد مناقشة الآراء المطروحة حول سبل الدعم المادي للجنة توصل المجتمعون لعدد من الأفكار والتوصيات، وكان من أبرزها حث الموقفين على إشراك اللجنة بريع أوقافهم، وتشجيع رجال الأعمال على تخصيص أوقاف تحمل أسماءهم لدعم لجنة إصلاح ذات البين، أو إيجاد وقف جماعي للغرض نفسه، بالإضافة إلى التواصل مع المحاكم الشرعية بالمنطقة للاستفادة من الأوقاف المسجلة لديها لوجوه البر المتعددة من خلال إدراج اللجنة في ريع تلك الأوقاف، وحث المتقدمين إليها بطلبات الوقف على تخصيص أوقافهم أو بعض منها لصالح اللجنة.
* أي عمل تقوم به أي جهة كانت؛ سواء حكومية أو خاصة، لا بد أن تواجهها من المعوقات والمشكلات التي يصعب عليها حلها, لجنة إصلاح ذات البين هل تواجهها مثل تلك المعضلات؟ وكيف تمكنت من تجاوزها؟
- لا شك أن هناك الكثير من الصعوبات التي واجهتنا في عدد من مراحل العمل باللجنة, وعلى الرغم من ذلك، وبفضل الله تعالى، ثم بدعم وتشجيع ولاة الأمر في هذه البلاد المباركة, وبالمتابعة الدقيقة والمؤازرة المتواصلة التي حظيت بها اللجنة من قبل الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة ورئيس مجلس إدارة اللجنة، الذي يحرص باستمرار على تذليل كافة العقبات واجتياز كل الصعوبات، فقد تمكنت اللجنة من الارتقاء بأعمالها, وأداء رسالتها الإنسانية والاجتماعية على الوجه المطلوب.
ومن أبرز الصعوبات التي واجهت اللجنة الصعوبات المالية المتمثلة في عدم وجود موارد ثابتة لتمويل اللجنة للوفاء بمتطلبات العمل بها، وخاصة فيما يتعلق بتكاليف استئجار المباني المخصصة لمقار اللجنة وفروعها، وتأمين رواتب العاملين ومكافآت المتعاونين, بالإضافة إلى عدم وجود مبان مملوكة للجنة؛ الأمر الذي يستنزف كثيرا من المال لتغطية تكاليف استئجار أربعة مبان كمقار للجنة وفروعها في كل من محافظة جدة ومحافظة الطائف ومركز «بر الوالدين» بمحافظة جدة.
ويُضاف إلى ذلك الصعوبات البشرية المتمثلة في قلة عدد الأعضاء العاملين باللجنة مقارنة بأعداد القضايا الواردة للجنة, وعدم خضوع الموظفين العاملين باللجنة لنظام التقاعد أو التأمينات الاجتماعية.
وفي إطار الدعم المتواصل الذي تحظى به لجنة إصلاح ذات البين بإمارة منطقة مكة المكرمة من قبل القيادة الحكيمة ممثلة في خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز, وولي عهده الأمين, والنائب الثاني، فقد صدر توجيه المقام السامي باعتماد مخصصات مالية للجنة إصلاح ذات البين بإمارة منطقة مكة المكرمة، تدرج ضمن الميزانية السنوية لإمارة المنطقة بعد رفع طلب بذلك من قبل الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة ورئيس مجلس إدارة لجنة إصلاح ذات البين؛ الأمر الذي يعكس ثقة القيادة الحكيمة التي تحرص على كل ما تراه محققا لاستقرار وطمأنينة المواطنين والمقيمين على ثرى هذا الوطن الحبيب.
* ما أبرز التطلعات التي تسعون إلى تحقيقها في المرحلة المقبلة؟
- تسعى اللجنة إلى إقامة الملتقى الأول للجان إصلاح ذات البين على مستوى مناطق المملكة, وقد بدأت اجتماعاتها التحضيرية لوضع ترتيبات هذا الملتقى الذي سيكون في العاصمة المقدسة, ويهدف إلى التعريف بجهود اللجنة وإنجازاتها الرائدة, بالإضافة إلى مناقشة سبل توحيد ضوابط وإجراءات العمل في مجال إصلاح ذات البين, كما سيتم من خلال هذا الملتقى مناقشة الصعوبات والمعوقات التي قد تواجه العمل في هذا المجال, والمقترحات المناسبة للتغلب عليها, كما يتيح هذا الملتقى فرصة كبيرة لتبادل الخبرات والتجارب المتميزة بين لجان إصلاح ذات البين وصولا إلى تطوير أدائها, وزيادة فاعليتها, وسيشارك في فعاليات الملتقى ممثلون عن لجان الإصلاح من مختلف مناطق المملكة.
وفي جانب آخر، تتجه اللجنة إلى تأسيس مركز تدريبي متخصص في تنفيذ الدورات التدريبية للمهتمين بإصلاح ذات البين وحل الخلافات داخل المجتمع, وذلك في إطار الحرص على نشر ثقافة العفو والتسامح ومبادئ الإصلاح بين الناس, وامتدادا لجهودها التدريبية والمتمثلة في تنفيذ دورتين تدريبيتين لكل من عمد أحياء العاصمة المقدسة وعمد أحياء محافظة جدة, واللتين هدفتا إلى التدريب على المهارات الأولية في الإصلاح, وقد تم وضع اللمسات الأخيرة لهذا المركز بالتعاون مع جامعة أم القرى, علما بأنه يجري الإعداد لدورات تدريبية جديدة لعدد من المهتمين والعاملين في مجال إصلاح ذات البين.
كما هناك بعض الأنشطة والبرامج التي يمكن أن تسهم بها اللجنة للحفاظ على تماسك المجتمع وسلامته, ومنها على سبيل المثال حث أهل العلم والدين والاختصاص في علم الاجتماع والنفس لإعداد البحوث المتخصصة لمعالجة ودراسة بعض المشكلات التي ترى اللجنة تفاقمها في المجتمع، ومحاولة إيجاد الحلول لها ونشرها في إصدار خاص باللجنة, ومعالجة المشكلات الأسرية من خلال الوعظ والإرشاد على منابر المساجد، وزيارات الجامعات ومراكز الأحياء من أجل التوعية بأهمية إصلاح ذات البين والعفو، بعد التنسيق مع الجهات المعنية بذلك, وإقامة دورات توعوية تتناول على سبيل المثال قضايا تتعلق بشؤون الأسرة للرجال والنساء تحت إشراف اللجنة مع التركيز على مواضيع ذات علاقة مثل العلاقة الزوجية, وتربية الأبناء, وثقافة الحوار الأسري, ونحو ذلك، بالإضافة إلى التواصل مع أجهزة الإعلام والصحافة للتعريف بدور وعمل اللجنة.