«البرزان».. عائلة سعودية سخرت «دمها» لعلاج المصابين بـ«السعار»

توجد في حائل.. ويعود تاريخها لـ1400 سنة.. وأحد أفرادها يتحدث لـ «الشرق الأوسط» عنها

عيادة الشمري بجانبه والده بعد سنوات من تعافيه من السعار بفضل دم البرزان («الشرق الأوسط»)
TT

عُرِف عند أهل نجد، وسط الجزيرة العربية، منذ قرون مضت، أن دم «البرزان»، وهي عائلة سعودية مشهورة، يساعد في علاج المرضى المصابين بداء السعار، ويعرف محليا باسم «الغلث»، وهو مرض معد يقضي على الخلايا العصبية في الدماغ، ويسبب الوفاة، ومن الممكن أن تصيب عدوى المرض البشر وكل الحيوانات ذات الدم الحار عن طريق عض الحيوان المصاب له، ولا يقدم الدم إلا لمن لم يتجاوز عضة الحيوان المسعور بعشرين يوما، حيث يكون هناك سبيل لشفائهم تماما، حيث تصل نسبة الشفاء بهذه المرحلة لنسب عالية بمقارنة بما بعد العشرين يوما.

ولم يعرف قديما سواء علاج دم البرزان، وعلى الرغم من ظهور أدوية مضادة لهذا المرض، ما زال حتى وقتنا الحاضر يفد المصابون بالمرض للبرزان لشرب دمهم، بعد أن يقوم أحد أفراد العائلة بقطع شريان لينسكب دمهم ويتلقفه بإناء، ويتركه ينضح حتى يحصل المصاب على ملليلترات من الدم، ويشربه حالا، وعادة الأكثر عرضة للإصابة بهذا المرض هم البدو الرحل المنتشرون في الصحاري الشمالية، ومن يقطنون الأرياف.

وتحتضن منطقة حائل، شمال السعودية، الجزء الأكبر من عائلة البرزان ويتفرق البعض الآخر في مناطق من وسط وشمال المملكة، ويعيشون حياة يغلب عليها طابع المدنية.

ويؤكد مؤرخون، ومنهم حمد الجاسر، في كتابه «العرب» أنهم ينحدرون من نسل الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير بن العوام، الذي شرب دم الرسول، صلى الله عليه وسلم، «عندما احتجم الرسول، فقال له: اذهب فواره، فأخذه وشربه، فقال له الرسول: (ويل للناس منك وويل لك من الناس)» (رواه الطبراني، والحديث متكلم في إسناده)، ولعل بقاء الموروث الشعبي فيهم من بركة دم الرسول، صلى الله عليه وسلم، يؤخذ من دم الفاصد مقدار صبة القهوة في الفنجان، ثم يخلط بالماء ويشربه المكلوب، كما ذكر الجاسر في كتابه.

ويتم الجاسر بقوله: «والمهم في الفاصد (المعالج) أن يكون برازيا؛ سواء أكان مرددا (أي أخواله من برزان) أو لا، المهم كونه من ظهر العود (من سلالة البرزان)، فإن البرزان من السهول يفصدون وأمهم أسهلية، فإن الأجنبية زوجت البرازي إذا انجبت له سرين (أي بطنين) فإنها لا تغلث ولا تفصد، وكذلك أبناء البرازية من الأجنبي، لا يفصدون ولا يغلثون».

ويؤكد هنا محمد فهيد السحيمان أن البرزان من العائلات التي حافظة على سلالتها منذ أكثر من 1400 سنة، ولا يجهل أحد هذا الاسم في نجد وشمال البلاد؛ حيث أنقذوا بمشيئة الله الكثير من الأرواح لتقديمهم دمهم لعلاج أكثر الأمراض فتكا بالإنسان في السابق (السعار)، وفي حالة لم يستطيعوا تأمين دم من البرزان وانتهت فترة حضانة المرض، يقتل المريض خوفا من العدوى، وما يسببه المرض للإنسان من أعراض، وقال محمد السحيمان: «وفي العصر الحديث، وبعد توحيد البلاد على يد المغفور له الملك عبد العزيز، طيب الله ثراه، استوطن البرزان بعد أن كانوا بدوا رحلا، ويوجد القسم الأكبر منهم بقرية الشعيبات شرق حائل، 130 كيلومترا وتربطهم علاقات نسب مع الأهالي هناك».

وشدد محمد على أن البرزان ما زالوا يقدمون دمهم للمرضى في حالات إصابة الإنسان بالمرض، ويقطع ذوو المريض مسافات طويلة لعلاجه عند البرزان. ووصف محمد المرض، الذي قال إنه ينتشر في سنة القحط، وهي السنة التي لا يظهر العشب والكلأ في الربيع، وتكون مجدبة، ويظهر المرض في فصل الصيف عادة، ويستمر حتى دخول «موسم الأمطار»، ويكون بداية المرض بإصابة الحيوانات ذات الناب، منها السباع والضواري، والمخالب؛ الطيور، بالغلث (السعار)، وتكون أعراض وعلامات الحيوانات المريضة أو المسعورة، أنه يهاجم الإنسان من دون حذر؛ سواء كان منفردا أو بجماعة، ولا يستطيع الهرب من تجمعات الناس، ويتساقط شعره بكميات كبيرة، ويكون سريع الهياج أو هادئا بصورة غريبة، وقد يكون مشلولا جزئيا، ويحرص على عض الأصحاء؛ سواء إنسان أو حيوان لنقل المرض، فإن كان إنسانا فمدة حضانة المرض أربعون ليلة، بعدها يكون المرض فتك به، ويطلق عليه «انغلث»، وتظهر عليه علامات المرض؛ النباح والصياح، ويكون هائجا، وعلى الفور يخرج الدود منه ويموت، وخلال فترة الحضانة المتقدمة يكون صوت الرعد قاتلا له، وأما البهائم فمدة الحضانة عشرة أيام فقط.

وأبان محمد السحيمان أن ظهور «الدود» من مواقع عدة هو من علامات تدهور الحالة وقرب نهايته، ويكون ظهور الدود، كما ذكر محمد، علامة شفاء بعد شرب دم «البرزان»، وأيضا بخروج المرض من جسم الإنسان.

واختتم محمد السحيمان حديثه بأنه بعد إصابة الإنسان بعضة من الحيوانات الضارية، وفي حالة شكهم بإصابته بمرض الغلث يُقتل الحيوان، ومن ثم يستخرج قلبه ويُفتح بآلة حادة؛ فإذا وجد الدود، فإنها علامة المرض، ولا بد من سرعة معالجة المصاب، وهنا يؤكد لـ« الشرق الأوسط» نايف راشد الكنعنان البرازي، أحد أفراد عائلة البرزان، وهو مدرس متقاعد يقطن بقرية الشعيبات شمال شرقي حائل، أنه قام بعمل فصد الدم لمرضى السعار منذ صغره، للمساعدة في علاج الناس الذين يفدون على والده بأعداد غفيرة، وكانت البداية لتخفيف الضغط على والدي المسن، وقمت بعمل أكثر من 100 عملية فصد قدمت من خلالها دمي لمرضى وفدوا لنا.

وأشار نايف، الذي تحدث هاتفيا من منزله، إلى أن «العمل لله ولا نأخذ عليه مقابلا، ويكفينا مساعدتنا الناس»، وشرح نايف كيف تتم عملية الفصد، بأن عملية فصد الدم تتم بقطع شريان صغير بآلة حادة، حتى ينزف ومن يتم أخذ سنتيمتر من الدم، ويذرف داخل كوب، ويتم التعبئة بالماء بالكامل بعد ذلك، حتى يحل ويسهل للمريض شربه.

وأشار نايف إلى أنه منذ تقدم الطب حديثا، وخروج علاج جديد، عبارة عن إبرة، قل عدد من يطلبون الفصد، ومنذ سنوات لم يتقدم لنا أي أحد بطلب فصد دم، أما في مناطق شمال الملكة، مناطق البدو الرحل، فنسمع عن عمليات فصد يقوم بها البرزان لعلاج مرضى الغلث.

وبين نايف أن البرزان يتوزعون في عدد من المناطق بوسط وشمال المملكة، منها حائل والارطاوية وحفر الباطن.

وشدد نايف على أن أبناء البرازية من غير البرازي لا يصابون بالمرض ويكون جسمهم مضادا له، وزوجة البرازي من غير العائلة لا تصاب بالمرض إلا بعد ولادتها لولدين.

وإلى ذلك ذكر عدد من الرحالة الغربيين، الذين زاروا الجزيرة العربية سابقا البرزان في مؤلفاتهم، ومنهم الرحالة الإنجليزي (اللفتنانت كولونيل) ضمن كتابه «عرب الصحراء» منتصف القرن الماضي، ويروى نقلا عن الشيخ صباح الناصر الصباح عام 1950 ما رواه عن دم عشيرة البرزان وقدرته على معالجة داء الكلب، وينقل له قصة حدثت قبل ثلاث سنوات فقط من المقابلة، فقال في عام 1947م هاجم قطيع من الذئاب، عددها 47 ذئبا مسعورا بداء الكلب خيام قبيلة في (عجيبة أجبه)، وهي منطقة تقع إلى الجنوب الغربي من حفر الباطن (هكذا قال)، وتمكنت هذه الذئاب من عض 92 رجلا من رجال القبيلة، فأرسل الملك رجاله في سيارات وقتلوا الذئاب.

وقد أعطي ثمانية وسبعون رجلا من المصابين دم برزان ليشربوه؛ فلم يقبل خمسة منهم بشربه، ونجا الرجال الثمانية والسبعون جميعا، وما زالوا يعيشون إلى هذا اليوم. أما الخمسة الذين رفضوا شرب الدم فقد ماتوا جميعا بعد خمسين يوما بداء الكلب، وجاء الشيخ بأمثلة كثيرة أخرى تثبت تأثير دم البرزان الناجع إذا استخدم في الوقت المناسب، واستدعى الشيخ أحد رجاله من البرزان، فأدلى بقوله: «أنا أصيل الأب وألام منذ 1500 عام، وهم يدعونني عندما يصاب أحد من البدو بداء الكلب، وعندما أُستدعى لتقديم الدم أجرح شريانا صغيرا في رسغي ليشربه المصاب، وينتظر 40 يوما، فإذا شُفِي أعطاني ناقة».

ويقول هنا عيادة خضير فريح الشمري، في العقد الرابع من عمره، إنه في مقتبل عمره، وتحديدا وعمره 12 سنة، في قرية قناء، التي تبعد عن حائل 40 كيلومترا، «هاجمت القرية كلاب مسعورة، وقامت بمطاردتي عند خروجي من المنزل، وقارعتها وتخلصت منها بعد أن عضتني ونهشت كتفي اليمنى، وولت هاربة، وكان في طريقي اثنان من أهالي القرية قامت أيضا بمطاردتهما وعضهما بمواقع مختلفة من جسمهم، وخرج الأهالي وقتلوا الكلب المسعور رميا، وخلال ذلك تأكدوا من إصابتي بالغلث».

وبين عيادة أن والده على الفور توجه به إلى أحد أفراد عائلة البرزان بحائل، الذي تكرم وقام بفصد دمه له بكوب ماء، ومن ثم زاده بكمية كبيرة من الماء، وشربه على الفور، وبعد شرب الدم لم يصب بأذى ولله الحمد.

وبين عيادة أن علامات العضة ما زالت موجودة حتى الآن في كتفه، وشدد عيادة على ما قام به البرزان من إنقاذ الكثير من الموت المحقق جراء هذا العمل الذي يقومون به.