رحيل البصيلي قائد الحرس الملكي في عهد 3 من ملوك الدولة السعودية

رحلة 9 عقود من الكفاح والنجاح لحارس الملوك ورمز الأعمال الإنسانية

الفريق أول عبد الله راشد البصيلي بالزي العسكري («الشرق الأوسط»)
TT

ودعت السعودية الفريق عبد الله بن راشد البصيلي، أحد أبرز العسكريين، الذي تولى قيادة الحرس الملكي السعودي في عهد ثلاثة من ملوك الدولة، والذي سجل اسمه في الأعمال الخيرية والإنسانية، وكان له حضور لافت في هذا المجال داخل بلاده وخارجها.

وانتهت أمس رحلة تسعة عقود كانت مليئة بالكفاح والنجاح، بدأها عبد الله البصيلي من قريته البكيرية بالقصيم، التي شهدت ولادته عام 1922 إلى وفاته، أول من أمس، وتوديعه، أمس، إلى مثواه الأخير في العاصمة، الرياض، التي قدم إليها من البكيرية قبل سبعة عقود، حيث لملم الفتى البكيراوي حاجياته الخاصة، وأودعها لفافته الصغيرة وربطها، وانسل هاربا من أجواء الفقر والعوز والرتابة اليومية القاتلة التي أحاطت بحياته في منزله الطيني داخل مزيرعة محدودة المساحة تتناثر في أرجائها نخيلات تدلت من رأسها ثمار البلح وقد أصابها «الغبير»، وشجيرات الأثل وزروع مصفرة تصارع من أجل البقاء بسبب قلة الماء.

من هذا المنزل، حيث يعيش تحت سقفه 25 فردا من أسرته يمثلون أربع عائلات ويتقاسمون حبات التمر التي تجود بها نخيلات البستان، وكسر القرصان، وفصوص البصل المطبوخة مع المرقوق، وصحفة الجريش يتقاسمها الجميع، من هذه الأجواء خرج عبد الله بن راشد البصيلي وهو لم يكمل عامه السادس عشر في رحلة بحث عن عمل، واختار عاصمة بلاده الناشئة لتكون محطته المقبلة، في أول خروج له من قريته الصغيرة. وعندما وصل إلى الرياض بعد رحلة استغرقت 30 ساعة، لم يفاجأ الصغير بتغيير لافت عن قريته؛ المنازل الطينية هي ذات المنازل التي تركها في القرية، لكن الشوارع أكثر سعة والأزقة أكثر حركة، والأسواق تعرض بضائع وأرزاقا لم يعهدها في قريته، لكن في مجمل الحال هناك تشابه ولا توجد فروق كبيرة تُذكر.

لم يبحث الصغير عن سكن له في عاصمة الدولة الناشئة بل أخذ يطرق أبواب العمل، فاتجه إلى التجار وأصحاب المزارع والمنازل لكن طلباته وتوسلاته قوبلت بالاعتذار المؤدب أحيانا وبالرفض الجاف في أحيان كثيرة، لأسباب تعود إما لقلة العرض وكثرة الطلب، أو لصغر سنه وتوجس من يريد تشغيله من عدم قدرته على القيام بالعمل الذي سيوكل له على أكمل وجه.

وأمام هذا الموقف لم يدخل اليأس نفس الصغير، وبعد تشاور مع أخيه محمد (الذي كان يعمل حارسا في قصر المصمك) وأصدقائه لمناقشة خيارات العمل الذي يمكن أن يلتحق به الصغير عبد الله؛ حيث لا توجد أعمال غير المهن الحرفية أو الانضمام للسلك العسكري، توجه عبد الله البصيلي إلى مقر الحرس الملكي في عهد الملك المؤسس، ودلف إلى المكان بحثا عن وظيفة له في هذا الجهاز الذي يوحي اسمه بالعظمة ويتوجس العابرون أمامه ممن بداخله من الضباط والجنود.

وقدّم الفتى الصغير طلبه مشافهة إلى قائد الجهاز آنذاك، سعيد جودت، الذي تردد في قبوله لأسباب تتعلق بصغر سن طالبه، وعندما همّ الصغير بالخروج مهيض الجناح ومكسور الخاطر، بسبب عدم تحقيق حلمه بالحصول على وظيفة عسكرية، طلب قائد الحرس منه التوقف والعودة إلى المكتب، وبعد محادثة قصيرة بينهما تم قبوله وتسجيله في العسكرية، وإلحاقه على الفور بسكن الجنود، وإخضاعه لدورة تدريبية مكثفة.

استقر الصغير في مهاجع الجنود، وتداعت له صور كثيرة عن مستقبله في هذا الجهاز القريب جدا من ملك البلاد، لكنه لم يدر بخلده أنه سيكون ذات يوم قائدا له ومسؤولا أول عن حراسة الملك، وأمام عصاميته وصبره وجلَده، أصبح قائدا للحرس الملكي في عهد ثلاثة ملوك من ملوك الدولة السعودية الثالثة، حيث صدر أمر عام 1386هـ بتعيين عبد الله بن راشد البصيلي قائدا للحرس الملكي في عهد الملك فيصل، خلفا لقائده السابق الزعيم (العميد) مرزوق التركي، وواصل البصيلي عمله كقائد للحرس الملكي في عهد الملك خالد، ثم الملك فهد، رحمهما الله، وفي عام 1407هـ أحيل إلى التقاعد، وعين مستشارا بالديوان الملكي برتبة وزير حتى عام 1419هـ، ثم أُحيل إلى التقاعد بعد أن عاصر الملوك عبد العزيز وسعود وفيصل وخالد وفهد، رحمهم الله، ليتجه إلى الأعمال الخيرية ويحقق الريادة في ذلك حسب إمكاناته، وتنوع هذه الأعمال.

وتعد مشاريع التأهيل الشامل للمعاقين، هي أول المشاريع الخيرية التي نفذها البصيلي داخل بلاده، عن ذلك يقول أحد رواد العمل الخيري في السعودية: «شدني منظر المعوقين في مدينة البكيرية أثناء زيارتي لهم، فأشفقت عليهم، ووفقني الله وبدأت بمشروع للتأهيل الشامل لهم، واستغرق هذا المشروع معي قرابة العامين، وكان قد أقيم على مساحة تقدر بـ30 ألف متر مربع، ويستوعب ما لا يقل عن 300 نزيل، ومع هذا المشروع، بدأ الحديث عن احتياج مدن أخرى في السعودية لمشاريع مماثلة لمشروع البكيرية، فتم إنشاء مراكز للتأهيل في كل من أبها وشقراء وحائل».

وتوالت مشاريع البصيلي الخيرية، التي شملت المساجد داخل السعودية وخارجها، ومراكز التأهيل الشامل للمعاقين، ومعهدا للتربية الفكرية في بريدة، ووحدات لغسيل الكلى، ووحدات للعلاج الطبيعي في مختلف مناطق السعودية، إضافة إلى إنشاء مستشفى للولادة في البكيرية، وفي محافظة رجال ألمع، بسعة 100 سرير. وشدد الراحل البصيلي في كل مشاريعه الخيرية على التفرد بإنجازها، حيث لا يقبل مشاركة أحد في ذلك، كما يشترط عند إقامة مشروع ما في أي منطقة، أن لا ينفذ غيره مثل هذا المشروع، وذلك خشية التضارب، وتقليل الاستفادة منه، كما يشترط على نفسه الالتزام بتوسعة المشروع مستقبلا، إذا اقتضت الحاجة إلى ذلك.

وتتم آلية تنفيذ مشاريع البصيلي بالحصول على أراض من الدول التي تقام فيها، ورسم المخططات للمشاريع، في حين يتحمل هو تكاليف تنفيذها. ويتم دعم مشاريع الخير من خلال وقف عدد من العقارات وتوظيف ريعها لهذه المشاريع. وقدّم الشيخ عبد الله البصيلي لمسة وفاء لزوجته الراحلة (أم عبد الرحمن)، عندما قرر إنشاء 20 مسجدا في كل من الطائف وتبوك، موزعة بالتساوي بين المنطقتين، كما أوقف عشرة بيوت لسكنى الأيتام ومحطة نفط، وتصدق بست شاحنات مليئة بالأرز والمواد غذائية، وجعل ثواب ذلك لزوجته الراحلة.