محلات الفول القديمة في جدة تخطف الزبائن وتراهن على الجودة

أحدها لمهندس سابق في «أرامكو» ترك «المنصب» واختار الجلوس بجوار جرة الفول وإعداد الخلطات السرية

الفول يعد أهم الوجبات في السعودية خلال رمضان («الشرق الأوسط»)
TT

لم يعد مشهد التكدس والازدحام في أحد شوارع مدينة جدة السعودية في قلب مدينة جدة، وفي أحد أحيائها القديمة والشعبية، قبيل الإفطار أمرا مستغربا باعتبار أن الكثير خرج لشراء ما يضيفه إلى مائدة إفطاره، التي يأتي في أولوياتها طبق الفول، حيث يحرص الكثير على بلوغ الفوال القريب من منزله للشراء منه، بعد أن احتل أغلب الموائد السعودية طوال شهر رمضان المبارك.

ويحرص البعض على ارتياد المحلات المعروفة بإعداد الفول الجيد في هذا الشهر رغم ابتعادها عن منزله عشرات الكيلومترات، حرصا منه على أن يميز مائدته بطبق الفول ذي السمن البلدي المعدّ بذكريات الماضي كما يصفها فهد العتيبي، الموظف في أحد القطاعات الحكومية في جدة غرب السعودية، بقوله: «رغم أني أقطن بحي المحمدية فإنني أقطع يوميا طوال الشهر المبارك ما يزيد على 30 كيلومترا يوميا ذهابا وإيابا إلى حي الهنداوية، أحد الإحياء المعروفة جنوب المحافظة، لشراء الفول بالسمن البلدي من أحد المحلات الموجودة بالحي؛ كون الفول له مذاق مختلف من هناك ويعود بنا إلى الماضي القديم بأيامه الأجمل».

وأشار العتيبي إلى أن مذاق الفول في تلك الأيام كان مختلفا عن الحالي الذي دخلت الكثير من الأمور في إعداده واختفى أصحاب الصنعة الأصليون عن العمل بأيديهم، وهو ما أسهم في تغير مذاق طبق الفول من محل إلى آخر، وتجد الكثيرين يتعاملون مع المحلات المشهورة المحافظة على الصنعة بإعداد الفول البلدي بالطريقة القديمة للشراء منهم، خصوصا في رمضان، غير مهتمين بالمسافة التي يقطعونها للوصول إلى مبتغاهم.

وللفول في الحجاز عائلات اشتهرت بإعداده وبيعه عبر محلات تابعة لهم وورثوا أبناءهم من بعدهم، ومنها فوال «الأمير»، أقدم وأشهر الفوالين في جدة، وفول «القرموشي» و«بانعمة» و«الرمادي» و«أبو زيد» و«الغامدي»، وأصبح لكل منهم فروع منتشرة ضمن نطاق المدن في السعودية. وللفول والفوالين قصص تحكى وتروى، ويبرز منها رفض المهندس أشرف أمين عثمان الأمير، الموظف السابق بشركة «أرامكو السعودية» وشركة «عبد الله هاشم» للغازات حاليا، ترك صنعة والده بحجة وجاهة المنصب والشهادة، متقدما بطلب إجازة لثلاثة أشهر من عمله حين شعور والده رحمه الله ببعض الألم جراء إرهاق العمل بالمحل، ليقف بجانبه مساندا إياه في إعداد جرة الفول والخلطة التي يتميز بها المحل التابع له طوال فترة الإجازة، التي وقف من خلالها خلف جرة الفول ليعد الأطباق لزبائن المحل، والتي أسهمت في صقل معارفه بالصنعة وطريقة الإعداد وأسرارها، ليتسلم الراية بعد وفاة والده رحمه الله في الحفاظ على صنعة العائلة والمحافظة على الموروث المتروك لهم من خلال الإشراف على إعداد جرة الفول وتحضير الخلطة الخاصة بها بنفسه يوميا، ويتابع من خلالها محل والده الذي شعر في تلك الفترة ببعض الألم، وأسهم وقوفه بجانبه ومساندته في إعداد جرة الفول والخلطة التي يتميز بها المحل التابع لهم في إدراك مخارج ومداخل الصنعة وطريقة الإعداد وأسرارها، وبعد وفاة والده رحمه الله تولى هو مهمة متابعة الصنعة والإشراف على إعداد الجرة وتحضير الخلطة الخاصة بالفول بنفسه يوميا.

ويقول أشرف الأمير خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط»: «إن الطريقة التي تعد بها الفول هذه الأيام في بعض المحلات هي ما أسهم في جعل الطعم يختلف بشكل أكبر، كما أن الفول في السابق كان يأتي من السودان وأستراليا، أما الآن فيتم إحضاره من مصر، كما أنه أصبح بأنواع مختلفة، منه الحبة الكبيرة، والصغيرة المسماة بالمكمورة وهو الأغلى في الفول، حيث يتراوح سعر الكيس الـ20 كيلوغراما بين 65 و80 ريالا، مما جعل البعض يقبل على الشراء من المستورد من أستراليا وإنجلترا لرخص سعره، حيث يبلغ سعر الكيس 23 ريالا. بالإضافة إلى ذهاب البعض لجرش العيش وإضافته في الجرة من أجل تخفيف كمية الفول المستهلك بالجرة لتقليص المصاريف، وبالإضافة إلى استخدامهم للغاز لإعداده كونه أوفر من الفحم الذي يبلغ سعر الكيس 65 ريالا، والجرة تستهلك أكثر من كيس فحم، وهو الأمر الذي أوجد الاختلاف في مذاقه من محل إلى آخر عما هو في السابق».

وأضاف أشرف: «إن ما يميز محل (الأمير) هو نهجه الطريقة القديمة في تحضير الفول باختياره أجود أنواعه وهو المكمورة (الحبة الصغيرة)، كونه الأجود مذاقا، ويتم الإعداد له وتجهيزه بالفحم بعيدا عن استخدام الغاز تماما ومنذ وقت باكر حيث نعد جرة الصباح من مساء اليوم الذي قبله كون الفول لا بد أن ينقى من الشوائب، ويتم خلط الفول الحصى مع الفول المجروش بمعايير معينة، ومن ثم يبل ويتم وضعه في الجرة وإشعال الفحم عليها لما يقارب الثماني ساعات لإعداده بشكل جيد، ويتطلب مكوث العامل مع الجرة ومراقبة الفحم حيث قد يحتاج الفحم إلى إشعال، وهو أمر يشكل صعوبة ويحتاج إلى طول بال ومتابعة دقيقة تجنبا أن يحترق الفول بالجرة، كونه لا بد أن تكون هناك درجة حرارة ملائمة لها بالمقياس. أما عن الخلطة السرية التي تمنح لزبائننا مع علب الفول وهي أيضا ما يميز المحل الخاص بنا، فلها سر لم أطلع أحدا عليه، وقد قام بتعليمي إياها والدي رحمه الله عليه وأقوم بتحضيرها بنفسي يوميا.

وأبان الأمير أن «غلاء سعر الفول لديه لكون علبة الفول تباع بما يقارب ست ريالات رغم أن نفس العلبة في محلات أخرى بريالين. إن السر هو في إعداد الفول والمواد المصروفة في إعداده المكلفة بطبيعة الحال»، مشيرا إلى أنه يجد أن السعر مناسب للجميع وأن مكاسبه ليست بالكبيرة كونه يطمح في الحفاظ على الصنعة التي ورثها والده من جده عبد القادر رحمه الله، مبينا أنه يعد من جرتين إلى ثلاث يوميا فقط كون تحضير الجرة يتطلب جهدا كبيرا وعمالة أكبر، وهي مرهقة كثيرا، «إلا أننا نجد أن الجرات الثلاث يوميا كافية خلال شهر رمضان المبارك رغم المطالبات التي نجدها من الزبائن الذين يطالبوننا بالزيادة كونه ينفد باكرا عندما تقارب الساعة الرابعة عصرا عقب الانتهاء من بيع كل محتويات الجرات المعدة لليوم، والاعتذار لمن لم يسعفه الوقت بالحضور منذ وقت باكر»، مبينا أن «أمر زيادة الجرات مستبعد حاليا كون الإعداد للجرة الواحدة يتطلب جهدا كبيرا وأكثر من عامل يتناوبون بالسهر لمتابعة الجرة، ناهيك بثلاث جرات، فهو أمر بطبيعة الحال شاق، ولا أريد أن أكلف أحدا بأكثر من طاقته، وسعيا منا على إتقان العمل، والله يطرح البركة في القليل، الحمد الله».

ويقول أشرف الأمير مالك محل الفول: «أسس جدي عثمان رحمه الله عليه المحل قبل سبعين عاما، وانخرط والدي في العمل بجانبه مكتسبا الصنعة عن والده، التي استقيتها منه بطبيعة الحال ومارست العمل في المحل معه، على خلاف أخي الذي يعمل طبيبا في أحد المستشفيات وساهمت انشغالاته في ابتعاده عن مزاولة المهنة وتعلم الصنعة، التي أخذت على عاتقي وحيدا الحفاظ عليها»، مشيرا إلى أنه لا يوجد للمحل أي فروع، حيث بدأ جده عبد القادر العمل من خلال محل كان يقع في زاوية تسمى بالمشورة، «أحد الأماكن المعروفة بمنتصف البلد»، وبعدها تم نقل المحل إلى شارع بن زقر، تلاها نقله إلى خلف المحكمة الشرعية القديمة بشارع الملك عبد العزيز بالبلد، ومن ثم إلى المكان الحالي الموجود بالهنداوية بسوق الخردوات.