الجبيل الصناعية.. هل ما زالت تعيش عصرها «الذهبي»؟

الحنين لصورتها قبل 15 سنة يثير شجون مرتاديها.. والكثافة السكانية «المفاجئة» أبرز المتهمين

هناك من يحن لأسلوب الحياة المتبع في مدينة الجبيل الصناعية قبل 15 عاما («الشرق الأوسط»)
TT

صورة مثالية، تلك التي ترسخت في أذهان من عرف الجبيل الصناعية في منتصف الثمانينات ومطلع التسعينات، فذاك المكان الواقع شمال مدينة الدمام على مسافة 70 كيلومترا، كان دائما مثار الإعجاب، مع تجربة الجبيل الصناعية التي جعلتها لسنوات طويلة أفضل مجتمع للسلامة المرورية والسلامة الاجتماعية، ونظافة البيئة، بوجود قوانين ضابطة للسرعة، واستخدام حزام الأمان، وعدم رمي المخلفات، وعدم إزعاج الأهالي في المتنزهات والحدائق، وغير ذلك.

لكن زائر الجبيل الصناعية اليوم قد يلمس فرقا كبيرا بين ما يراه الآن وما يتذكره أو كان يسمع عنه في السابق، حتى سكان الجبيل الصناعية يؤكدون أنها «تغيرت»، لكنهم لا يعرفون بالضبط أين مكمن التغيير، إلا أن من يدقق في هوية الجبيل الصناعية الجديدة؛ سيلحظ وجود ثقافة تأصلت في السنوات العشر الأخيرة، لتصبح المباحات الآن أكثر من المحظورات، ما بين التهور في قيادة السيارات وتواضع الاهتمام بنظافة الأماكن العامة، وضعف السلامة المرورية، ونحو ذلك من السلوكيات العبثية التي كانت بعيدة عن مجتمع الجبيل الصناعية في السابق، حتى يأتي التساؤل إن كان السبب في ذلك وجود تغير مفاجئ في الأفراد أم أنه أصبحت هناك مرونة في الأنظمة.

وعلى الرغم من أن هذه الصور قد تبدو مألوفة في عدة مدن أخرى، لكنها «صادمة» في الجبيل الصناعية تحديدا، التي تصفها الهيئة الملكية للجبيل وينبع، عبر موقعها الإلكتروني، بأنها «نموذج سعودي يحكي قصة التخطيط المقرون بالعزيمة من أجل تحقيق النهضة الصناعية والمدنية الشاملة، التي أصبحت حقيقة يشهدها الجميع اليوم، على جميع المستويات المحلية والإقليمية والدولية».

مما يجعل النظرة الفاحصة للجبيل الصناعية أكثر دقة وصرامة بالنظر لمدن سعودية أخرى، في ظل الصورة الذهبية التي عاشتها لسنوات طويلة، حيث كانت الجبيل مضرب المثل في كونها الموقع السعودي الذي يوفر الحياة الأكثر مثالية للعيش على الصعيدين، التنظيمي والاجتماعي، إلى الحد الذي دفع أحد البرامج الرمضانية قبل أيام لمقارنة تجربة الجبيل الصناعية بمدينة دبي؛ والاحتفاء بأنظمتها الرقابية الصارمة في ظل عدم تسجيل أي حالة تسمم غذائي فيها على مدى ربع قرن.

إلا أن بعض «الإنترنتيين» من سكان الجبيل الصناعية ما زالوا يؤكدون «التغيير» الذي عصف بالمكان، خاصة مع التحديثات الأخيرة وظهور الأحياء والمخططات الجديدة، حيث يلخص أحد سكان الجبيل الصناعية أبرز عيوبها قائلا: «انعدام الأمن بكثرة المداخل والمخارج، عدم الاطمئنان على الأطفال في خروجهم أمام المنزل، وذلك بسبب السرعة داخل الشوارع»، وهي مشكلات اجتماعية يؤكد أنها لم تكن تقلق سكان الجبيل الصناعية في السابق.

في حين يأتي رأي آخر من أحد سكان الجبيل الصناعية بأن «الجبيل الصناعية مدينة نموذجية بمعنى الكلمة، لكن يعكر صفوها الفئة المستهترة بأرواح الأبرياء، بقطع للإشارات، والمرور أمام الجميع بسرعة جنونية، واستخدام الأبواق ذوات الأصوات العالية دون مراعاة لكبار السن والمرضى في المنازل».

هذا الحنين لصورة الجبيل الصناعية السابقة أصبح يثير شجون سكانها القدامى وزوارها ممن شاهدتها في منتصف الثمانينات، وهي في عصرها الذهبي، الأمر الذي يرجعه معظم المسؤولين والخبراء الذين حادثتهم «الشرق الأوسط»، إلى الزيادة الكبيرة في عدد سكان الجبيل الصناعية في السنوات الأخيرة، وما رافق ذلك من وجود أخلاقيات جديدة للسلوك والتعامل، فقد استطاعت مدينة الجبيل الصناعية أن تستقطب الكفاءات الوطنية اللازمة للتشغيل والصيانة، وأدى ذلك بدوره إلى نشوء تجمع سكاني ضم أصولا سكانية من كل أنحاء السعودية.

حول ذلك، يرى محمد الصالح، وهو مدير الخدمات الاجتماعية بالهيئة الملكية بالجبيل الصناعية سابقا، أن البعض وضع الجبيل الصناعية في إطار مثالي بشكل مبالغ فيه، قائلا: «الحياة في الجبيل الصناعية كانت ممتازة لأن سكانها كانوا قليلي العدد، كان يسكنها بعض الأجانب والطليعة الأولى من الموظفين السعوديين، كانوا من الشباب المتعلم ذوي الأسر الصغيرة، وسنة تلو أخرى بدأت تزداد الوظائف وبدأ يتزايد عدد السكان».

مشيرا إلى أن الكثافة العددية وتغير التركيبة السكانية أسهما بدورهما في تغير أخلاقيات التعامل، قائلا: «في قيادة السيارة مثلا، أصبح أسلوب القيادة مشابها لما هو في الدمام والرياض والجنوب وغيرها، أي خليط من عدة أماكن، تماما كما هو حال السكان حديثا في الجبيل»، ويتابع: «الجبيل الصناعية كانت جميلة لأنها مدينة منظمة وكان أهلها محدودين، والجيل الجديد من الشباب يختلف عن سابقه، لذا انعكست بعض السلوكيات الخاطئة».

ويضيف الصالح في حديثه الهاتفي لـ«الشرق الأوسط» قائلا: «كثير من الناس يعتقد أن مجتمع الجبيل الصناعية مثل مجتمع أرامكو من ناحية كبيرة، لكن طبعا هناك بعض التشابه وبعض الاختلافات، فالأولى تأسست كمدينة كبيرة بينما أرامكو مكان مغلق»، مؤكدا أن «ما تشتكي منه الجبيل حاليا هو الذي تشتكي منه أي مدينة أخرى بالسعودية».

فيما يرى عضو مجلس الشورى، نجيب الزامل، خلال حديثه لـ«الشرق الأوسط»، أن «الجبيل الصناعية كانت ولا تزال مدينة موضوعة بخطة كبيرة جدا، لدرجة أنه بالإمكان التنبؤ في الجبيل الصناعية بالمشكلات التي ستحصل بعد 25 سنة من الآن، ووضع الحلول لها في الوقت الحالي»، مضيفا: «يكفي أن شق الطريق في الجبيل الصناعية يعتبر من المحرمات، فلا يشق فيها طريق أبدا، لأن هناك مدينة موازية بالكامل بنيت تحت الأرض»، مؤكدا أن «عملية التسابق في تطوير الجبيل الصناعية تسير على (رتم) واحد».

وعلى الرغم من حديث الزامل الإيجابي، فإنه يوضح أن «المشكلات الاجتماعية في الجبيل الصناعية قصة أخرى»، قائلا: «لم تكن هناك تنمية اجتماعية في الجبيل الصناعية تلائم التنمية العمرانية والصناعية»، وهو ما يربطه بالمشكلات السلوكية والاجتماعية التي ظهرت في الجبيل الصناعية في السنوات الأخيرة، قائلا: «كان يجب أن يتم إعداد مجتمع جديد يتلاءم مع الروح الصناعية وفكرة المدينة الحضارية».

ويربط الزامل ذلك بنزوح الكثير من أبناء المناطق السعودية إلى الجبيل الصناعية خلال الـ15 سنة الأخيرة، على اختلاف عاداتهم وتقاليدهم وأفكارهم ومعتقداتهم، دون أن تنصهر هذه الفروقات في المدينة، إذ يقول: «التحزبات الجماعية والروح التعصبية والنظرة العدائية للآخر: هي التي طغت بسبب ذلك، لذا فنحن بحاجة إلى بناء وعي اجتماعي في الجبيل الصناعية».

من جهته، يصف محمد العريني، مدير الخدمات الاجتماعية بالهيئة الملكية بالجبيل الصناعية، في اتصال هاتفي لـ«الشرق الأوسط»، صورة الجبيل الصناعية قبل عقد ونصف بالقول: «كانت مثالية، ولا ننكر أيضا أن فيها من المثالية الشيء الكثير»، مرجعا ظهور بعض الأمور المستحدثة بأنه أمر راجع إلى «كثرة السكان وتنوع الثقافات في السنوات الأخيرة».

وعن المشكلات السلوكية والاجتماعية التي ظهرت في الجبيل الصناعية، يقول: «على العكس من ذلك، المخيمات الاجتماعية موجودة، والشركات لديها تنافس على ذلك، والبرامج الاجتماعية موجودة، والبرامج الرياضية والترفيهية وغيرها، جميعها موجودة لدينا، وهناك إقبال منقطع النظير سواء من قسم الرجال أو من قسم النساء، إلى جانب إقبال المتطوعين والمتطوعات كأي بلد آخر».

وبسؤال العريني عن مدى إنصاف مقارنة الجبيل الصناعية بمدينة دبي، كما ظهر في أحد البرامج التلفزيونية، مؤخرا، فإنه يؤكد على إمكانية ذلك، وفيما يخص تعليقه على عدم تسجيل الجبيل الصناعية أي حالة تسمم غذائي منذ 25 عام، يقول: «هناك إنجازات وجوائز للتغذية وحفظ المواد الغذائية وغيرها، لكن البعض يرى نصف الكوب الفارغ ولا يرى النصف الممتلئ، وبطبيعة الحال من المستحيل الوصول للكمال».

ويتابع مدير الخدمات الاجتماعية بالهيئة الملكية بالجبيل الصناعية حديثه، متناولا الخطط والمشاريع التنموية الكبرى التي تنتظر الجبيل مستقبلا، قائلا: «شواطئ الجبيل تفوق الـ50 كيلومترا، لم يتطور منها إلا شيء بسيط، وما نخطط له كبير جدا، فقريبا ستكون أكبر واجهة بحرية في الشرق الأوسط لدينا»، مؤكدا أن كل ذلك يكفل للجبيل الصناعية نهضة جديدة منتظرة على كل الأصعدة أمام ذلك، يقول فضل البوعينين، وهو إعلامي من سكان الجبيل الصناعية، لـ«الشرق الأوسط»: «إن الجبيل الصناعية على مستوى عال من المدنية والتنظيم والرقابة الصحية والرقابة المهنية، ولكن أن يقال إنه لا تحدث إصابات عمل أو لا توجد حالات تسمم غذائي أبدا، فأعتقد أن هذا أمر مبالغ فيه، فهذه الأمور تحدث في كل دول العالم المتقدمة»، مؤكدا أن «المبالغة دائما ما تكون عكسية في الطرح وليست في مصلحة المدينة أصلا».

وتناول المشكلات الاجتماعية المستحدثة بالقول: «سابقا كنا عندما نتكلم عن سكان الجبيل فإننا نقصد 120 نسمة (ما بين الجبيل البلد والجبيل الصناعية)، لكننا الآن نتكلم عن 480 ألف نسمة»، مشيرا إلى أن هذا التزايد الكبير في التعداد السكاني لم يواكبه تزايد في عدد رجال المرور على سبيل المثال، مما أسهم بدوره في تزايد المشكلات المرورية كذلك.

ويتابع البوعينين بالقول: «الجبيل الصناعية كانت مدينة صغيرة قبل 15 سنة، لكننا الآن نتكلم عن مدينة ضخمة، مما يعني أننا نحتاج إلى أعداد كبيرة من المرور ومن الأمن وأمور كثيرة»، مؤكدا أن «التوسع الكبير في الجبيل الصناعية أثر على نوعية الخدمات المقدمة، لتختلف عن ما كانت عليه قبل 15 سنة».

وعن بيئة الجبيل الصناعية، يقول البوعينين: «بحسب التصريحات الرسمية، فمعدلات التلوث في المنطقة الصناعية ما زال أقل من المعدلات المسموح بها عالميا، إلا أن ذلك لا يمنع من القول إن التوسع الكبير في مصانع المواد البتروكيماوية سيضغط على البيئة ويؤثر سلبا عليها، قد تكون السيطرة على المصانع الحديثة أمرا ممكنا اليوم، ولكنها ستكون أكثر صعوبة مستقبلا بعد قدم هذه المصانع ودخول مجالس إداراتها في مفاضلة بين تكلفة التحديث الباهظة، أو تطبيق معايير السلامة والأمن البيئي المكلفة بالنسبة للمصانع المستهلكة».

وتنبغي الإشارة هنا إلى أن الجبيل تنقسم إلى قسمين، أولا: البلد، حيث مركز المدينة وسكن أهالي الجبيل الأصليين، وتبعد عن الجبيل الصناعية قرابة 15 كيلومترا. وثانيا: الجبيل الصناعية، التي تأسست في نهاية السبعينات، وكانت أكبر مشروع هندسي في العالم حتى الآن، وتشرف عليه (الهيئة الملكية)، فيما يشمل حاليا الجبيل 2، التي تضم بجهتها المصانع والأحياء السكنية لموظفيها، وتعتبر المدينة الصناعية أجمل مدن المملكة من حيث التصميم والنظافة وتسليك المياه، حيث تحتوي المدينة على أكثر من 200 ألف شجرة متنوعة وخمسة شواطئ.

وبالعودة إلى تاريخ مدينة الجبيل، فإنه وفقا للموقع الإلكتروني للهيئة الملكية للجبيل وينبع، فقد اختلفت آراء المؤرخين حول تسمية الجبيل؛ منهم من قال إنها فينيقية الأصل نسبة إلى جبيل القريبة من صور وعراد في شمال شرقي البحر المتوسط، ومنهم من قال إنها تسمية حديثة وردها إلى أصل عربي باعتبار أنها تعني مصغر جبل؛ في إشارة منهم إلى الجبل الصغير الذي كان يقع إلى الشمال الشرقي من بلدة الجبيل.

ومهما يكن فقد أثبتت الآثار المكتشفة في منطقة الجبيل أن لها تاريخا ضاربا في القدم، مرتبطا بإحدى أولى الحضارات البشرية التي عرفها الإنسان على وجه الأرض، ألا وهي حضارة العبيد الأولى في جنوب وادي الرافدين، التي يعود تاريخها إلى نحو 5000 سنة قبل الميلاد. أما في العصر الجاهلي والعصر الإسلامي الأول؛ فقد كانت منطقة الجبيل تعرف باسم عينين، وكان يسكنها على الأرجح بنو تميم.

وفي العصر الحديث دخلت الجبيل في الحكم السعودي مع فتح الأحساء سنة 1331ه، وقام بزيارتها موحد الجزيرة العربية المغفور له - بإذن الله - الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود يوم 21 رمضان 1348ه. وقد اشتهرت الجبيل في الماضي القريب بتجارة اللؤلؤ التي بوأتها مكانة مرموقة بين دول الخليج المجاورة، مثل الكويت والبحرين وقطر، ومع اضمحلال تجارة اللؤلؤ أصبحت مجرد قرية صغيرة على ساحل الخليج العربي، تضم عددا من الصيادين والغواصين، وإلى جوارها حتى يومنا هذا توجد حياة بدوية في الصحراء المتاخمة للبلدة.

والى جوارها نشأت مدينة الجبيل الصناعية، وأصبحت بذلك نقطة تحول عبرت بها السعودية طريقها إلى التطور الصناعي السريع، فالجبيل اليوم معقل من معاقل الصناعة، تعيش على إيقاع الحياة العصرية الحديثة، وفيها جميع مرافق الحياة العملية والاجتماعية، وهي أكبر مجمع للتصنيع البتروكيماوي من نوعه في العالم، يضم الكثير من الصناعات والمناطق السكانية الراقية التي بنيت وفق أعلى المواصفات.