العرضة الجنوبية.. خيار القرى الوحيد للترفيه في العيد

يحرص عليها أبناء القرى المغتربون كنوع من العودة إلى الجذور

تواضع الإمكانات في القرى يخلق بدائية في تنظيم العروض في العيد («الشرق الأوسط»)
TT

تستسلم القرى في جنوب السعودية إلى البساطة في الاحتفال بعيد الفطر المبارك، فقلة الإمكانات وندرة مراكز الترفيه، والتي عادة ما تتركز في المدن الرئيسية، تضع أمام أبناء القرى فرصا محدودة للاحتفال بالعيد، وعادة ما يكون التراث الشعبي هو المنقذ لهذه الاحتفالات.

فبعد تمضية جل نهار العيد في الزيارات تبدأ القرى في الاسترخاء مع اقتراب المساء، وتتحول ليلة العيد إلى ليلة مملة، حيث تنعدم فرص الترويح عن النفس بعد أن كانت ليالي رمضان عامرة بالسهر والتواصل، في حين يصاب الجميع بحالة من الخمول نتيجة لاختلال الساعة البيولوجية، لذا يبقى للاحتفال بالموروث الشعبي نكهته الخاصة ويبقى مصدرا مهما لبث النشاط في النفوس، وتبقى العرضة الجنوبية أهم عناصر الاحتفال.

تعود العرضة الجنوبية في شكلها الحالي إلى ما قبل القرن العاشر الهجري بحسب الباحث في التراث الشعبي قينان الزهراني، إلا أنه يشدد على أن العرضة كموروث شعبي لا يمكن تحديد بداياته، فهو تطور في البيئة الجنوبية على مدى مئات السنين قبل القرن العاشر، إلا أنه يؤكد أن أقدم نص شعري عرف في العرضة ومتوارث حتى الآن يعود إلى القرن العاشر الهجري، ولم يكن شعر العرضة حينها كما هو في الوقت الراهن والمنحصر في شعر (الشقر) الرد، وإنما كان ينتمي إلى طبقة الجناس.

ويورد الباحث في التراث الشعبي النص الشعري الذي يؤرخ لشكل العرضة الحالي والذي يقول «حكم لراعي القرن سيدي حيدره، ولا درى أن الحكم عندي في البلد، حطيت في عطف المسيكة مجزرة، مجزرة يعلم بها الجد الولد»، والرد كان «يا عم سعيد يا كلامك ما أكبره، لا تأمن الدنيا ترى الدنيا بعد، أما تعديت الردم فأنا مره، وأسقيك من حثو كما حثو البرد».

ويؤكد الزهراني أن العرضة كانت تقام في الفترة بين العصر والمغرب فقط، وكان شعرها يعتمد على الحماس وتمجيد البطولات، ولم يدخل شعر الغزل في العرضة إلا في الفترة الأخيرة.

عند الاحتفال بالعيد، والذي يقام مساء اليوم الأول من العيد، تكون العرضة حاضرة في بعض القرى، وفي هذا المجال لا تتنافس القرى فيما بينها، فالقرى القريبة من قرية الاحتفال والقبائل المجاورة يحلون ضيوفا على أبناء تلك القرية، لأن أهم مميزات العرضة الجنوبية هو كثافة المشاركين، وكذلك الحضور (المتفرجون)، والذين يكون لهم دور في رفع حماسة الراقصين، وزيادة تفاعلهم مع الإيقاعات، فعندما يكون الجمهور كثيفا يتوقف قليلي الخبرة في الرقص عن المشاركة، وتخلو الساحة للراقصين الجيدين، يدخلون فيما يشبه المنافسة الصامتة بين بعضهم البعض ليبرز كل لاعب براعته وتمكنه من تكييف حركات جسده والتحكم فيها وفق الإيقاعات.

أبناء المناطق الجنوبية، والذين يتوزعون على كامل جغرافية البلاد بسبب ظروفهم الوظيفية، يحرصون على العودة إلى قراهم خلال إجازة العيد، للتواصل مع ذويهم وأقاربهم القادمين من مناطق أخرى، في حين يحرص الكثير على ترتيب حضور الاحتفال بالعيد السعيد منذ بدء الإجازة الصيفية، ولوقوع شهر رمضان الكريم في فصل الصيف خلال هذه الفترة وخلال الفترة المقبلة، فإن غالبية الموظفين يحصلون على إجازاتهم السنوية خلال الشهر الكريم، إضافة إلى أن أهم قطاع حكومي وهو قطاع التعليم يكون الشهر الكريم وإجازة العيد ضمن إجازته السنوية، لذلك يحرص أبناء القرى المهاجرون على تبنى وإقامة الاحتفالات فيما يشبه العودة إلى الجذور، ولتجديد عهدهم بالمكان الذي ينتمون إليه، عبر الموروث الشعبي.

أكثر المتحمسين لهذه الاحتفالات هم القادمون من خارج القرى ممن تحتم عليهم طبيعة أعمالهم البقاء لفترات طويلة بعيدا عن قراهم، والتي قد لا يزورونها، إلا كل إجازة صيف.

يقول يوسف صالح وهو أحد منسقي حفل العيد لهذا العام والذي نظمه أبناء قبيلة آل يعلا إحدى قبائل بني سهيم، إن العرضة هي الحدث الوحيد الذي يمكن أن يجمع أكبر عدد من الناس في مكان واحد للاحتفال بالعيد، في أي قرية من قرى الجنوب، هذا التجمع يمكن الجميع من التواصل مع بعضهم البعض، يوسف الذي يعمل في مدينة جدة ويزور قريته التي تبعد عن مقر عمله بنحو 450 كيلومترا. ويؤكد على أن إحياء ليلة العيد والالتقاء بالأصدقاء والمعارف لن يكون بغير العرضة، وأن إقامة احتفال ساهر في تلك ليلة لن تكون بغير الموروث الشعبي الذي يحن له الجميع ويحرصون على حضور المناسبات التي يكون جزءا أساسيا منها.

وفي ذات السياق، يؤكد عبد الله صالح، موظف في مدينة تبوك، شمال غربي السعودية، أن الاحتفال الذي تم تنظيمه بمناسبة العيد في القرية التي ينتمي لها، ولاقى نجاحا وصفه بالباهر، كان فرصة كبيرة له وللكثير من الحضور لمعايدة أصدقائهم، والتواصل معهم. ويضيف «التقيت زملاء لم ألتق بهم منذ سنة وأكثر، فبعد أن تم تحديد موقع الاحتفال وأصبح لدى الجميع شبه اتفاق على أن الالتقاء سيكون خلال الحفلة، تم تخصيص فترة النهار للتواصل الأسري وزيارة الأقارب، بينما كان موعد الأصدقاء هو وقت الاحتفال بالعيد».

بدوره، يقول خلف أحمد، موظف بالمنطقة الشرقية، إن «تنظيم الاحتفال بالعرضة يوم العيد أمر مهم بالنسبة للموظفين الذين لا يحضرون لمسقط رؤوسهم إلا في الإجازة السنوية»، مضيفا أن «نكهة العرضة تختلف عندما تقام في موطنها الأصلي، حيث تجد الجميع يتفاعل حتى، وإن كان لا يشارك، فتجد كثيرا من كبار السن يبقون حتى تنتهي العرضة، والتي عادة ما تمتد حتى الساعة الثالثة فجرا».

ويبدأ الاحتفال بالعرضة عادة في الساعة العاشرة ليلا، ويتواصل الرقص على إيقاعاتها حتى الساعة الثالثة فجرا، وقد تمتد إلى قبيل أذان الفجر بدقائق، حيث يتوقف الجميع مع اقتراب وقت الصلاة، وتعتمد العرضة الجنوبية في طول فترة الرقص على عاملين هما وجود شعراء الرد، وهو الشعر الذي يقال في العرضة، وكذلك وجود قارعي طبول (زير وزلفة) على قدر كبير من المهارة، يمكنهم أن يثيروا حماس الراقصين لعدة ساعات.