جدة: ملتقى التراث العمراني يحرر المباني التاريخية من شيخوختها ويجدد حياتها

أهالي «العروس» انشغلوا عن الخوف من الكارثة باستعادة ذكرياتهم القديمة

الأمير سلطان بن سلمان يؤدي رقصة المزمار خلال زيارته للمنطقة التاريخية بجدة («الشرق الأوسط»)
TT

وقف أهالي مدينة جدة وزوارها على أطلال عروس البحر الأحمر ولمدة أسبوع كامل بعد أن أعاد ملتقى التراث العمراني الوطني الأول الحياة إليها، ليشغلهم تماما عن استعادة ذكريات كارثتها بنسختيها الأولى والثانية أو حتى الخوف من تكرارها رغم تزامن الملتقى مع تلك الأحداث التي كانت وما زالت تعد الأكثر مأساوية في تاريخها على الإطلاق.

ملتقى التراث العمراني الذي نظمته الهيئة العامة للسياحة والآثار واحتضنته مواقع عدة في مدينة جدة، كان سببا في إبراز كافة المباني الأثرية وتذكير من حضروا بقيمتها التاريخية، ليجعل منها معالم تحررت من ثوب الشيخوخة وتجمّلت بحلّة جديدة، كي تثبت للجميع بأنها لم تعد تخشى السقوط أو الانهيار في ظل جملة المشاريع التطويرية التي تشهدها حاليا.

ومنذ يوم الاثنين الماضي، اختلفت أجواء المنطقة التاريخية بجدة تماما بعد أن زارها الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار لتدشين مراحل مشروع تطويرها الثلاث، حيث انتشرت بين طرقاتها لوحات رسمها فنانون بشكل حي ضمن فعالية المرسم المفتوح، عدا عن إحدى الفرق الشعبية التي صدحت بإيقاعات حجازية تراثية أجبرت رئيس الهيئة على النزول إلى الساحة وتأدية رقصة المزمار الشهيرة ضمن مشهد أكد على سعادته البالغة بما يراه في هذه المنطقة.

وبشكل جاء عكس التوقعات، أكد الأمير سلطان بن سلمان على تفاجئه الذي وصفه بـ «الكبير» من حماس الشباب في الاهتمام بالتراث العمراني والمحافظة عليه، لافتا إلى أنهم كانوا أكثر المتحمسين لذلك، مما يثبت اتصالهم بحضارتهم وبناء وحدتها.

وأضاف: «فوجئت كثيرا بأن فئة الشباب لا يريدون التفريط في تراثهم، خصوصا أن المنطقة التاريخية بجدة تعد موقعا اقتصاديا وتاريخيا، كونها شهدت أحداثا كبيرة في تاريخ جدة والسعودية بشكل عام».

وبيّن أن جدة التاريخية تمر بمرحلة انتقالية جديدة في ظل دعم الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة والأمير مشعل بن ماجد محافظ محافظة جدة، مشيرا إلى أن عروس البحر الأحمر ستتجاوز مراحل الدمار والتأخير.

طلعت عبد العزيز، أحد الفنانين التشكيليين من جمهورية مصر العربية، والذي شارك في فعالية المرسم المفتوح بالمنطقة التاريخية عن طريق جمعية الثقافة والفنون باعتباره أحد أعضائها، ذكر أن عدد المشاركين معه من الجمعية يزيد على 25 فنانا.

وقال في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «قمنا برسم أكثر من 30 لوحة ركّزنا فيها على الطابع العمراني الموجود بالمنطقة التاريخية، مع محاولة ربط الماضي بالحاضر»، موضحا أن وجود الفنانين بهذه المنطقة زاد من ازدحامها الذي تشهده كل عام في موسم الحج.

وفيما يتعلق بأجواء الرسم الحي، شبّه تلك الأجواء بالحفلات الموسيقية التي تتيح فرصة احتكاك الفنان بالجمهور على الهواء مباشرة، مضيفا: «نستمع إلى آراء الحضور أثناء الرسم، وإطراءاتهم تزيدنا طربا لتجعلنا نبدع أكثر فأكثر».

ومما لا شك فيه أن وقع ملتقى التراث العمراني على نفوس كبار السن يعتبر مختلفا كليّا عن غيرهم، إذ جعلهم يرون طفولتهم وشبابهم بين أروقة المباني الأثرية، ليختصروا مسيرة حياتهم كاملة بابتسامات رضا تصل في بعض الأحيان إلى توزيع نظرات مغلفة بشيء من الدموع.

وهنا، علّق طلعت عبد العزيز قائلا: «الكثير من كبار السن استوقفتهم لوحاتنا التي كنا نرسمها ليبدأوا في سرد قصصهم التاريخية واستعادة ذكرياتهم من خلال تفاصيل تلك اللوحات، إلى جانب إبداء ملاحظاتهم التي كان لها أثر كبير علينا في تعديل خطوط اللوحات».

حتى الأطفال لم يتأخروا عن الوجود في المواقع الأثرية طيلة فترة أيام الملتقى، فمنهم من جمع أصدقاءه ليلعبوا ببراءة في ساحات هذه المواقع، بينما سجل آخرون مشاركتهم في رسم ما يرونه بريشتهم وألوانهم والمشاركة بها في المرسم المفتوح أيضا.

وفي هذا الشأن، أوضح عبد الرحمن إبراهيم مشرف التربية الفنّية في إحدى المدارس الأهلية بجدة أن المدرسة قامت باختيار نحو 5 طلاب بناء على خلفيتهم السابقة وإبداعاتهم التي قدموها طيلة الفصل الدراسي. وقال لـ«الشرق الأوسط»: «هؤلاء الطلاب لديهم لوحات فنية متميزة في المدرسة، وقد اخترناهم ليرسم كل واحد منهم لقطة معينة لفتت انتباهه في المنطقة التاريخية، ومن ثم تعرض هذه اللوحات ضمن المرسم المفتوح وفي المتحف الفني مع أحد الأساتذة أيضا».

فعاليات الملتقى انتشرت في مدينة جدة، حيث شهد فندق هيلتون جدة على مدار ثلاثة أيام متواصلة عددا من الجلسات وورش العمل قدّمها نخبة من المشاركين على مستوى مناطق السعودية، إضافة إلى معرض مصاحب لملتقى التراث العمراني، جمع كافة قرى المملكة تحت سقف واحد. في حين عقدت الغرفة التجارية الصناعية بجدة عددا من الفعاليات، إضافة إلى فعاليات أخرى متنوعة كان لمجمع رد سي مول التجاري نصيب احتضانها، عدا عن معرض للتصوير الفوتوغرافي ومعرض آخر للأطفال وغيرها من الفعاليات، إلى جانب جامعة الملك عبد العزيز بجدة التي التقى فيها الأمير سلطان بن سلمان بطلاب قسم العمارة وتوزيع جائزة التراث العمراني، فضلا عما شهدته المنطقة التاريخية أيضا من فعاليات.

ولم يكن جدول الفعاليات فقط هو المزدحم، بل إن جميع هذه المواقع استقبلت الكثير من الزوار، حيث إنه وبحسب ما ذكره رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار، وصل عدد الطلاب والطالبات الذين وجدوا في جامعة الملك عبد العزيز خلال فعالياتها إلى 3 آلاف، بينما سجّل المعرض في فندق هيلتون جدة خلال يومه الأول فقط 400 زائر، إضافة إلى امتلاء غرفة جدة بالحضور بالكامل.

وبالنسبة لمجمع رد سي مول التجاري، فقد تخطى عدد الصور التي دخلت مسابقة التصوير الفوتوغرافي تحت شعار «تراثنا في عيوننا» حاجز الـ 1300 صورة، تم ترشيح 800 منها عن طريق لجنة التحكيم، إضافة إلى تحديد 20 جائزة تبلغ قيمتها الإجمالية 100 ألف ريال، حيث فازت بها 15 صورة مشاركة، بينما اختيرت 65 لوحة أخرى للمشاركة في المعرض.

وكان الأمير سلطان بن سلمان قد سلّم أول من أمس جوائز مسابقة التصوير الفوتوغرافي للتراث العمراني السعودي الموجهة للهواة والمحترفين بعنوان (تراثنا في عيوننا) وذلك على هامش ملتقى التراث العمراني الذي انطلق تحت رعاية الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة.

ووزع الجوائز وشهادات التقدير على الفائزين خلال زيارته للفعاليات التراثية المصاحبة للملتقى في مجمع البحر الأحمر التجاري، والتي من أبرزها فعالية البناء التقليدي والمنتجات الحرفية، والرسم والتلوين للأطفال، ومعرضا الأمير سلطان وطارق علي رضا للتصوير الفوتوغرافي، ومعرضان آخران أحدها لفنون التراث العمراني البصرية، والآخر لإصدارات مؤسسة التراث الخيرية.

طيلة أيام ملتقى التراث العمراني الوطني، لم يشغل بال الأهالي سوى تسجيل منطقتهم التاريخية في منظمة اليونيسكو، غير أن الأمير سلطان بن سلمان علّق على ذلك الهاجس بقوله: «هذا الموضوع أخذ أكثر مما يستحق، وما يهم الجميع أن نكون سعيدين عندما تتم المحافظة على جدة التاريخية واستعادتها كما يجب».

وشدد على أهمية تحقيق النجاح في ذلك كمواطنين ومن أجل الوطن، إلى جانب أن اليونيسكو ليست قضية صعبة ما دام العمل يسير في مساره الصحيح، مستطردا في القول: «جدة التاريخية تبقى جدة التاريخية وهي موقع تراث عمراني تم تسجيله في اليونيسكو أم لم يسجل».

وزاد: «يعمل لدى الهيئة العامة للسياحة والآثار أحد أهم أربعة خبراء من اليونيسكو ومتعاونون معها بشكل مكثف حاليا حتى يتم الانتهاء من موضوع تسجيلها ضمن قائمة التراث العمراني العالمي خلال العامين القادمين».

الجدير بالذكر، أن جامعة أم القرى بمكة المكرمة أعلنت عن تخصيصها لنحو 3 آلاف ساعة عمل بهدف دعم البرامج المشتركة لطلبة الجامعة مع الهيئة العامة للسياحة والآثار، وذلك ضمن اتفاقية تعاون وقّعها رئيس الهيئة مع الدكتور بكري بن معتوق عساس مدير الجامعة.

وتهدف تلك الاتفاقية التي تم توقيعها يوم الأربعاء الماضي على هامش فعاليات ملتقى التراث العمراني الوطني الأول، إلى دعم مجالات تنمية الموارد البشرية السياحية وإجراء الأبحاث والدراسات في مجال السياحة والآثار، ودراسة القضايا المتعلقة بالآثار والمتاحف في منطقة مكة المكرمة، وإجراء مسح وتوثيق مواقع التراث العمراني بها، وتسجيلها في السجل الرقمي الوطني بالهيئة.

كما تهدف إلى تطوير الأنماط السياحية وتنظيم الفعاليات والأنشطة والبرامج السياحية وإقامة المعارض والمسابقات الثقافية والمحاضرات، والإعلام والعلاقات العامة وتنفيذ برامج علمية موجهة تسهم في تعزيز الثقافة السياحية بين أطراف العملية التربوية من الجنسين في الجامعة، فضلا عن تطوير المواقع السياحية والاستثمار السياحي.

وبيّن رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار أن تلك الخطوة تأتي لبدء العمل مع طلبة الجامعات في ضخ برامج ليست تدريبية وإنما تعليمية من خلال التجارب الاستطلاعية العالمية والمحلية ودمجهم مع الفرق التي تعمل في مجالات التطوير المنتشرة كي يحقق الطالب موازنته بين العملين الأكاديمي والتنفيذي.

في حين اعتبر مدير جامعة أم القرى بمكة المكرمة، تلك الاتفاقية نقطة انطلاق لمرحلة جديدة من التعاون، مؤكدا أن الجامعة تقوم بجملة مهمات من أبرزها التعاون مع المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص والمجتمع.