كرسي الأمير سلمان للدراسات التاريخية والحضارية.. رصد للتنامي الحضاري للجزيرة العربية

أمير المؤرخين يدشن غدا في جامعة الملك سعود انطلاق أعماله بمحاضرة له عن إنسانية المؤسس ومواقفه ومناهجه وأعماله

أمير المؤرخين يتناول غدا جوانب في شخصية والده الملك المؤسس
TT

تكشف الندوة العلمية عن الجوانب الإنسانية والاجتماعية في تاريخ الملك عبد العزيز التي تنظمها جامعة الملك سعود ممثلة في كرسي الأمير سلمان بن عبد العزيز للدراسات التاريخية والحضارية للجزيرة العربية، الكثير من المواقف التاريخية التي تعبر عن العلاقة الفريدة والعميقة بين مؤسس السعودية وشعبه، وتوثق أوراق عمل الندوة تلك الشواهد العظيمة التي أسست دوافع إيجابية لإنجاز كثير من الخطوات التنموية، جعلت من المملكة العربية السعودية دولة تسبق بمنجزاتها الحضارية زمنها وفي وقت قياسي.

ويدشن الأمير سلمان بن عبد العزيز وزير الدفاع ورئيس مجلس إدارة دارة الملك عبد العزيز ورئيس اللجنة العليا لمجلس أوقاف جامعة الملك سعود، في مقر الجامعة غدا السبت 4 فبراير (شباط) الحالي، أعمال الكرسي وانطلاق فعالياته بمحاضرة للأمير عن الجوانب الإنسانية والاجتماعية في تاريخ الملك عبد العزيز، يتحدث فيها عن القيم والسجايا التي تميزت بها شخصية المؤسس ونبعت من تعاليم الشريعة الإسلامية والهدي النبوي، وكانت منهجا أسس للعلاقة بين الحاكم والمحكوم ضمن اللحمة الوطنية، سار عليها من بعده أبناؤه الملوك، وأصبح نهجا للشخصية السعودية ضمن النسيج الاجتماعي للمجتمع. ويقدم الأمير سلمان شواهد متواترة في هذا الجانب توثق لإنسانية المؤسس بصورة أقرب، وتعزز الوفاء والولاء بين ولاة الأمر والمواطن ضمن الوطنية الحقة. كما يفتتح الأمير خلال الاحتفاء بتدشين أعمال الكرسي المعرض المصاحب والإذن بانطلاق أعمال الندوة التي تستمر لثلاثة أيام بمشاركة عدد من العلماء والباحثين والباحثات المهتمين بالدراسات التاريخية من داخل المملكة العربية السعودية وخارجها، وتتمحور حول كشف مزيد من الجوانب الإنسانية والخيرية والاجتماعية في تاريخ الملك عبد العزيز.

ويمثل كرسي الأمير سلمان بن عبد العزيز للدراسات التاريخية والحضارية أحد مظاهر الحراك العلمي الذي تعيشه جامعة الملك سعود بفضل توجهاتها الناجحة نحو بناء تقاليد جديدة للبحث العلمي، أهمها التمويل الذاتي وفتح الشراكة مع المؤسسات العلمية المتخصصة.

ويكرس كرسي الأمير سلمان بن عبد العزيز للدراسات التاريخية والحضارية للجزيرة العربية حزمة من الحوافز لتنشيط الدراسات التاريخية الراصدة للتنامي الحضاري في الجزيرة العربية، وما أفرزه هذا التصاعد في عقلية الإنسان في المنطقة من منتجات ثقافية ومعرفية، كان لها الأثر في تحضر الحياة وتقدمها، وعلى رأسها ظهور الإسلام الذي أرسى مبادئ الإنسانية النقية وقيم التعاملات النبيلة وأركان العلم الرباني، كما سن الكرسي عددا من المناشط المنبرية والبحثية المتخصصة، داعيا جميع المعنيين والمستفيدين إلى الإسهام في برامجه، فهو يمثل مجموعة علمية مفتوحة للجميع وغير قاصرة على الجامعة.

وهنا يوضح لـ«الشرق الأوسط» المستشار التنفيذي لكرسي الأمير سلمان بن عبد العزيز للدراسات التاريخية والحضارية للجزيرة العربية والأمين العام لدارة الملك عبد العزيز الدكتور فهد بن عبد الله السماري، قائلا: «الكرسي هو تعاضد بين جامعة الملك سعود بكيانها الأكاديمي، والدارة بخبرتها العلمية والعملية على صعيد اللقاءات والإصدارات والمصادر العلمية، في سبيل الوصول إلى عمل تتحقق فيه أعلى درجات الجودة العلمية وعناصر الابتكار والتجديد، ولا يكون متشابها مع غيره من الإنتاج العلمي، وهذا الهدف سيتحقق برعاية ومتابعة أمير المؤرخين الأمير سلمان بن عبد العزيز وزير الدفاع ورئيس مجلس إدارة دارة الملك عبد العزيز».

وأضاف الدكتور فهد قائلا: «كرسي الأمير سلمان بن عبد العزيز للدراسات التاريخية والحضارية للجزيرة العربية يفتح شراكة مع الجميع دون أن يقتصر على جامعة الملك سعود والدارة، بل هو مؤسسة علمية تستقطب كل ما من شأنه خدمة تاريخ الجزيرة العربية من داخل المملكة العربية السعودية وخارجها، وسيكون هناك برامج شاملة ومتكاملة تنضوي تحتها ندوات متخصصة وإصدارات متنوعة وترجمات من وإلى اللغة العربية، وحفز لطلاب الدراسات العليا لتقديم رسائلهم الأكاديمية عن تاريخ الجزيرة العربية للوصول إلى تغطية كاملة لهذا التاريخ بأحداثه ووثائقه ومخرجاته المعرفية للبشرية منذ نشأة المنطقة، ولأبعد نقطة تاريخية يمكن الرجوع إليها».

وكان كرسي الأمير سلمان بن عبد العزيز للدراسات التاريخية والحضارية للجزيرة العربية قد أنشئ عام 1431هـ بتوقيع اتفاقية تعاون بين جامعة الملك سعود ودارة الملك عبد العزيز بحضور ورعاية الأمير سلمان بن عبد العزيز وزير الدفاع ورئيس مجلس إدارة دارة الملك عبد العزيز، من قبل الدكتور عبد الله العثمان مدير جامعة الملك سعود، والدكتور فهد السماري الأمين العام لدارة الملك عبد العزيز، وسط حفاوة علمية كبيرة. ويهدف الكرسي إلى دعم المكتبة التاريخية بنشر الكتب والبحوث التي تتناول تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها، وعقد اللقاءات العلمية في ذلك المجال، وبناء شراكة بحثية مع أقسام التاريخ والمراكز العلمية ذات العلاقة، وحفز الباحثين وطلاب الدراسات العليا في حقل تاريخ الجزيرة العربية ومظاهر الحضارة في منطقتها، واستقطاب الخبراء والأساتذة الزائرين المتخصصين في دراسات ذلك التاريخ والحضارة الإنسانية في الجزيرة العربية، وفق رسالة واضحة للكرسي تسعى لتعميق دراسة تاريخ الجزيرة العربية وحضارتها من خلال توظيف أحدث المناهج والتقنيات العلمية في التفسير والتحليل والاستنتاج، وتقع هذه الاتفاقية ضمن كراسي البحث في جامعة الملك سعود التي تشهد نهوضا مشهودا يعزز دورها في حركة البحث العلمي على المستوى المحلي والدولي.

ومن جانبه عبر الدكتور عبد الله بن ناصر السبيعي، أستاذ التاريخ بجامعة الملك سعود والمشرف على كرسي الأمير سلمان بن عبد العزيز للدراسات التاريخية والحضارية للجزيرة العربية، عن سعادته بالحراك العلمي الذي يشهده كرسي الأمير سلمان بن عبد العزيز للدراسات التاريخية والحضارية للجزيرة العربية، وما لقيه الكرسي من احتفاء داخل الأوساط العلمية في السعودية وخارجها، وتفاعل من أطياف البحث العلمي المختلفة، خصوصا أنه يحمل اسم الأمير سلمان بن عبد العزيز المشهود له برعاية شؤون الدراسات والبحوث التاريخية ومؤسساتها المتعددة وحفز خططها لتنشيط هذا الجانب المهم من حركة البحث العلمي في السعودية.

وأضاف الدكتور عبد الله السبيعي: «هذه الندوة امتداد وانعكاس لرصد الجوانب الإنسانية والاجتماعية والخيرية في تاريخ الملك عبد العزيز من خلال تعاملاته مع مواطنيه وعلى مستوى الدولة وتوثيقها من خلال دراسات علمية، بعيدا عن السرد العلمي وحتى تبقى دروسا للأجيال المتعاقبة، وضمها في إصدار جامع بدل تفرقها، ودعمها بالروايات الشفهية المتواترة عن تلك الجوانب في حياة المؤسس، واستكشاف مزيد من السجايا الإنسانية والاجتماعية في شخصية الملك عبد العزيز».

يذكر أن كرسي الأمير سلمان بن عبد العزيز للدراسات التاريخية والحضارية للجزيرة العربية قد نشر إصدارا خاصا يضم وثائق تاريخية برتغالية عن الجزيرة العربية في ما يعد تقريبا لهذه الوثائق للباحثين العرب ولفت الانتباه للوثائق الأوروبية، كونها مصدرا من مصادر تاريخ المنطقة، وخصوصا الوثائق البرتغالية التي تؤرخ للوجود البرتغالي في أحداث الجزيرة العربية والخليج العربي الذي يعد من أقدم الاحتكاك والاتصال بين المنطقة وأوروبا.

وتقدم الندوة العلمية التي ينظمها كرسي الأمير سلمان بن عبد العزيز للدراسات التاريخية والحضارية للجزيرة العربية بجامعة الملك سعود عن الجوانب العلمية والإنسانية في تاريخ الملك عبد العزيز، دعوة للباحثين والباحثات لرصد مزيد من الأحداث والأخبار عن الجهود والمواقف التي قدمها الملك عبد العزيز لصناعة الأمن الاجتماعي والاطمئنان الإنساني داخل المجتمع الذي تتبلور صورته الأخيرة ووضعه الجديد بعد حالة من المعارك، فعلى ضرورة الحروب الملحّة لتوحيد البلاد فإن أي حرب تترك اضطرابا اجتماعيا وتهز من الاطمئنان العام نتيجة الترقب والحذر، ثم على هؤلاء الباحثين والباحثات تعريض هذه الشواهد التاريخية للتفحص والدرس العميقين، وأثر تلك الأحداث في بناء المجتمع السعودي الحالي وما فيه من صور التكافل الاجتماعي والعمل الخيري المؤسسي المنظم، فعلى الرغم من مسيرة تأسيس المملكة العربية السعودية وتداعياتها الإيجابية من بناء مؤسسات ومنهج عمل واستراتيجية شاملة من ترسيخ مبادئ العمل الخيري سواء كسلوك عام أو كمؤسسات عمل ضمن عملية قيام الكيان الحكومي للدولة، لم ينشغل الملك عبد العزيز ولم يغفل أن هذه العملية الكبيرة في البناء النفسي والمادي قد تسبب ربكة اجتماعية مقلقة، يُنسى في غمارها المحتاجون والفقراء والمساكين، فالبلاد قامت وترعرعت على تعاليم الشريعة الإسلامية التي دعت إلى التكافل والتصدق والتزكي بالمال، وهذا فضلا عن حب الملك المؤسس لعمل الخير وتقديم البر هو ما دعاه إلى افتتاح مدرسة دار الأيتام بمكة المكرمة، التي تعد من أوائل المؤسسات الخيرية في العهد السعودي الحديث، في لفتة من الملك عبد العزيز تجاه فئة من المجتمع تستحق العون والمساندة لإدماجها في العملية التنموية وإعطائها حقوقها في التعليم والتوظيف في ما بعد. وكانت تلك المدرسة تعتمد على تبرعات المحسنين، ولكن لما قلّت التبرعات خصصت لها الدولة مساعدات مالية حتى يستمر دورها الإنساني والاجتماعي وتقدم نموذجا حافزا للعمل الخيري، وأدى نجاح هذه الدار الخيرية ونجاح ضمها إلى الحكومة إلى قرار الملك عبد العزيز بضم إدارة دار الأيتام الأهلية بالمدينة المنورة إلى دار الأيتام الحكومية في مكة المكرمة لحل مشكلة تقلبات ميزانيتها، في بادرة من قائد تناغمت في سيرته الصرامة مع العطف والقوة مع الخير، وهي معادلة دائمة في سيرة أبطال التاريخ.

ولأن الأحداث التاريخية متعددة فستقدم الندوة الملك نموذجا لأعمال الخير وتوسيع خيمة البر في المجتمع السعودي وتنمية المشروعات الخيرية السابقة لعهده، حيث ذكر خير الدين الزركلي في كتابه «شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز» أن الملك المؤسس قد خصص في ميزانيته قسما خاصا بالمبرات الخيرية، يهدف إلى تأمين الحاجات الأساسية للمحرومين من السكان، وقد بلغ ما أنفق على هذه المبرات خلال ثلاث سنوات فقط (1366 ـ 1368هـ) مبلغا قدره 270.883.211 قرشا سعوديا، أي ما يعادل 270.833 دولارا أميركيا، وهذا التخصيص نوع من ترسيخ النشاط الخيري الحكومي في مالية الحكومة وميزانيتها حتى أصبحنا الآن نرى أن هذا التأكيد أدى إلى إنشاء وزارات تعنى بالمناشط الخيرية ومؤسسات وجمعيات غير ربحية في ميزانية المملكة العربية السعودية.

وهناك شواهد مروية تناقلتها الذاكرة السعودية عن قصص كان فيها الملك عبد العزيز قدوة في عمل الخير وقنوات البر، من تلك الشواهد التي تدل على مساعدة المحتاجين بسخاء وكرم الملك المؤسس - رحمه الله - أن أحد المدينين اشتكى إليه دينه ومضايقة الدائنين له وأن عليه دَينا بمقدار مائة جنيه، فكتب الملك على طلبه بأن يعطى مائة جنيه، لكن الملك تغلّب عليه الكرم فكتب ثلاثة أصفار بدل صفرين، أي ألف جنيه، وحين راجعه مدير ماليته ليستدرك الخطأ رد عليه الملك عبد العزيز قائلا: «ليس القلم بأكرم مني، فاصرفوا له ما قسمه الله». وتلك الشواهد الإنسانية من حب الخير وزرعه في قلوب الناس وتعويد معاونيه - رحمه الله - على طرقه ليست غريبة منه، فهو كثيرا ما يردد في علاقته بالمال: «كل ما في الوجود يحب المال، ولكني والله، ثم والله، لا أحبه إلا بقدر ما أقضي به مصالح المسلمين، وليس لهذا المال وعظمته عندي من قيمة، وإنّ ما أحبه وأريده هو رضا الله».

وتذكر الروايات المدونة عن كرم الملك عبد العزيز والشواهد الكثيرة عليه كيف كان - رحمه الله - سخيا وكريما، وأكثر ما يكون كرمه مع أفراد شعبه، إلا أن كرمه مع ضيوف البلاد صفة بارزة كانت محل تقديرهم له، معبرة عن الشخصية السعودية النبيلة، ومن تلك الشواهد الحية ما ذكره مترجمه الخاص الأستاذ محمد المانع مؤلف كتاب «توحيد المملكة العربية السعودية»، حيث ذكر أن الجنرال البريطاني غلبرت كلايتن الذي زار الملك عبد العزيز في جدة عام 1347هـ - 1928م انتابه مرض أثناء الزيارة جعله يغادر المدينة في أسرع وقت، وكان من عادة جلالته أن يقيم حفل وداع عند مغادرة ضيوفه، فعرض الحفل المعتاد على غلبرت كلايتن، إلا أنه اعتذر بلطف بسبب مرضه، ولمح إلى أنه لا يشعر بالرغبة في تناول أي طعام، وبناء على ذلك أمر الملك فورا أن تزود باخرته بالتموين الكافي لإطعام طاقمها برمته في رحلة العودة إلى وطنه.

شاهد آخر يدل على كرمه - رحمه الله - ما روي عن رجل وفد إلى الملك عبد العزيز من أهل مسقط وقدم إلى الملك نوقا عمانية أصيلة، فأمر الملك له بعشرة آلاف ريال وقيد اسمه من ضمن ضيوف ذلك اليوم، وفي اليوم التالي جاء العماني صاحب النوق، وسلم على الملك عبد العزيز وسأله الملك عما إذا كان تسلم العشرة آلاف، فأجاب الضيف بـ«لا»، فغضب الملك عبد العزيز، وسأل عن سبب عدم تسليم ضيفه المال المحدد، فكانت إجابة أمين المال بأنه دفع المبلغ، وأخذ إيصالا من المتسلم. ولدى التحري اتضح أن ثمة رجلا آخر تسلّم المبلغ لتشابه اسمه مع اسم الضيف العماني، فأُحضر هذا الرجل وأُفهم ما حدث، وخشي عندها أن يُسترجع منه المال الذي أخذه، لكن الملك عبد العزيز قال له: «هي لك من عند الله»، ولم يأمر بأخذها منه، فخرج من مجلس الملك يحمد الله ويدعو له، وأمر الملك عبد العزيز لصاحب النوق بمثلها أيضا.

ويقول الأمير سلمان بن عبد العزيز وزير الدفاع ورئيس مجلس إدارة دارة الملك عبد العزيز في محاضرته التاريخية المشهورة التي نظمتها جامعة أم القرى قبل ثلاث سنوات عن الملك المؤسس: «ارتبط كرمه بإنسانيته - رحمه الله - إذ كان يعطف على الناس، ويتفقد شؤونهم، ويتولى بنفسه توزيع الصدقات». ويروي الأمير سلمان بعد ذلك موقفا إنسانيا لكرم الملك عبد العزيز مما ذكره خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز - رحمه الله - في إحدى خطبه، رواية عن والده بشأن ما يقوم به ليلا من تفقد لأحوال المحتاجين والفقراء والضعفاء، خصوصا في العشر الأواخر من شهر رمضان كل عام، ومن بينهم امرأة من أسرة يعرفها، يقول الملك عبد العزيز: «زودت لها حاجتها، وأعطيتها مبلغا من المال، والدنيا ظلام، وقالت: (من أنت؟)، ولم أقُل لها شيئا، لأني لا أريد أن تعرفني، قالت: (أنت عبد العزيز؟)، فقلت لها: (نعم، أنا عبد العزيز)، فاستقبلت القبلة وقالت: (آمين، إن الله يفتح لك خزائن الأرض)، وبعد أن ظهر الزيت عندنا عرفت أن هذا هو خزائن الأرض».

وتعدى كرم الملك المؤسس إلى الكرم المعنوي الذي هو أكثر عمقا في شخصية الإنسان، وهو في بعض المواقف أغنى وأثمن من المال وأكثر تأثيرا، فكثير من المواطنين الذين قابلوه لأول مرة في حياتهم يذكرون أنه يستقبلهم بابتسامة رحبة وبلطف غامر وعناية أصيلة بهم وبتقدير يليق بقدر زيارتهم له، وكذا وصفه زائرون عرب وأجانب بذلك حين استقباله - رحمه الله - لهم. يقول الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت الذي التقى الملك عبد العزيز على ظهر الباخرة عن شخصيته: «يمتلك لب كل زائر عليه من الخارج، ويمنحه صبرا لا ينفد، وحبا للاستطلاع لا حد له، وله براعة نادرة في أن يجعلك تشعر بأنك فرد من أسرته القريبة». وقال عنه محمد أسد، الذي قابل الملك عبد العزيز، في كتابه «الطريق إلى الإسلام»: «لكن كرم الملك وجوده لا يقتصران على أكياس الذهب والفضة، بل يتعديانها إلى صميم القلب. ولعل رقة شعوره أكثر من أي شيء آخر هي التي تجعل الناس من حوله - بمن فيهم أنا - يحبونه».

مواقف عدة تلفت الانتباه إلى تلك الإنسانية المؤثرة في شخصية الملك عبد العزيز على الرغم من أنه خاض حروبا، ومرت به ظروف في بداية صباه، لكنها لم تنعكس سلبا في سلوكياته؛ لإيمانه بالله ثم إخلاصه لوطنه وبُعده عن صغائر الأمور التي تتضاءل أمام حلم تكوين دولة حديثة. لكن الصفة في تلك المواقف أن الملك عبد العزيز يحتفظ بوحدة المبادئ، فالموقف الواحد يمكن استشفاف أكثر من صفة كريمة فيه، وهذا يدل على أن مرجعية تلك المبادئ والسجايا واحدة، وهي الدين الإسلامي وشيم العروبة الفاضلة.

ووثقت كتب ومصادر تاريخية كثيرة مواقف من هذا القبيل، ستقوم الندوة العلمية بتعميم دروسها المستقاة، من ذلك أن الملك عبد العزيز جنّب شعبه ويلات الحرب العالمية الثانية، فلم ينجرف خلف التحزبات الدولية التي فرضتها تلك الحرب، وانسل منها بدبلوماسيته المعهودة والمشهود لها بالحيادية دون مساس بالمصالح المشتركة أو إضرار بعلاقته بالدول، وهذه الحيادية الذكية إنما تترجم حب المؤسس لشعبه وتجنيبه المغامرة السياسية في تلك الحرب، كما كان جلالته رؤوما ورؤوفا بشعبه حين ألقت تلك الحرب العالمية بظلالها على الاقتصاد العالمي وعرضت المنطقة العربية لمجاعة شديدة أدت إلى ارتفاع في الأسعار نتيجة تردي المواصلات وانقطاع الإمدادات الغذائية والصحية لشعوب المنطقة، فأنشأ مضافات للغذاء والدواء في مناطق بلاده تمد سكان المدن وأهل البادية بالغذاء اليومي والملابس، كما سير لمختلف المناطق شاحنات تحمل الغذاء والدواء والملابس المجانية على حساب الدولة، رأفة بحالهم وصحتهم. وفي هذا الجانب يقول تقرير أعده ديكسون الوكيل السياسي البريطاني في الكويت عام 1945م - 1364هـ لصالح قسم الأغذية بمركز الشرق الأوسط للتموين بالقاهرة، الذي أنشأته بريطانيا: «وفي الرياض نفسها افتتح الملك عبد العزيز أربعة مقرات مختلفة للضيافة (المضافات) التي تقدم الغذاء المطبوخ مجانا».

تعيد الندوة العلمية عن الجوانب الإنسانية والاجتماعية في تاريخ الملك عبد العزيز إلى الواجهة تلك المآثر الإنسانية التي تركها الملك عبد العزيز عنوانا للحياة الاجتماعية السعودية بصفة خاصة وحياة الشعب بصفة عامة، حيث تستشرف أوراق العمل الخاصة بالندوة أثر هذه الجوانب الثرية والمتعددة في ترسيخ مبادئ مثل الأمن الاجتماعي والتكافل والنسيج الإنساني الواحد، فالملك عبد العزيز في علاقاته مع والده - رحمهما الله - قدوة حسنة لأبنائه وأحفاده ولإخوانه أفراد الشعب السعودي.

ويقول الأمير سلمان بن عبد العزيز عن الملامح الإنسانية في شخصية الملك عبد العزيز: «ومن النادر أن تقترن صفة العفو مع صفة الشدة والحزم، خصوصا لدى القادة الذين ينشغلون بالتأسيس والمواجهات. لكن الملك عبد العزيز أثبت للجميع قدرته على العفو في أصعب الظروف شدة»، وقال عنه الشيخ عبد الرحمن عزام الذي أصبح في ما بعد أول مدير لجامعة الملك سعود، واصفا نتائج عفوه: «والملك عبد العزيز في جزيرة العرب ليس ملكا فحسب، بل رئيس عائلة، ومن عجيب شأنه أن هذه المعاملة (العفو عن الخصوم) قد جمعت خصومه الأولين وأعداءه وأولياءه في ساحته».

ويقول خير الدين الزركلي الذي عاصر الملك عبد العزيز وعمل معه، في كتابه «شبه الجزيرة العربية»: «إن عبد العزيز ابتسم مرة في مجلسه وفي ضيافته الشيخ نوري الشعلان - رحمه الله - شيخ قبيلة الرولة العنزية، ففسر عبد العزيز ابتسامته للضيف قائلا: (هل ترى هؤلاء الجالسين حولك يا أخ نوري؟ ما منهم أحد إلا حاربته وعاداني وواجهته). فرد الشيخ نوري قائلا: (سيفك طويل يا طويل العمر)، فأوضح عبد العزيز أن السبب لم يكن السيف فقط، قائلا: (إنما أحللتهم المكانة التي لهم أيام سلطانهم، إنهم بين آل سعود كآل سعود)».